لبنان
13 تشرين الثاني 2024, 12:00

"قريبي هو من أبحث عنه وأذهب إليه...هو من عرّاه الناس": البطريرك العبسي

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك بالقدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة سيّدة النياح - حارة الزيتون، بحضور فاعليّات وشخصيّات وحشد من المؤمنين.

 

تمّت قراءة الإنجيل ممّا كتب القدّيس لوقا البشير (لو ۱۰: ۲-۳۷) وتحدّثت عن مثل السامريّ الصالح.  

قال: "في اللقاء الذي تمّ بين السيّد المسيح وواحد من علماء الناموس "سؤالان طرحهما هذا الأخير على يسوع. على السؤال الأوّل "يا معلّم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟" أجاب يسوع من داخل الناموس، بما تقوله شريعة موسى: "أحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وبكلّ نفسك وبكلّ قدرتك وبكلّ ذهنك وأحبب قريبك كنفسك". أمّا على السؤال الثاني الذي أراد به عالم الناموس أن يزكّي نفسه: "من هو قريبي"، فأجابه يسوع من خارج الناموس، بما ليس موجودًا في الشريعة الموسويّة. أعطاه مثلًا وترك له أن يستنتج بنفسه من هو قريبه وبالفعل استنتج عالم الناموس الاستنتاج الصحيح فقال له السيّد المسيح: "إمض واصنع أنت أيضا كذلك".

قريب أم بعيد؟

ما هو هذا الاستنتاج الصحيح؟ الاستنتاج الصحيح هو أنّ المسيحيّ ليس له إنسان قريب وإنسان بعيد، ليس له إنسان صديق وإنسان عدو. الناس جميعهم هم إخوة له. هذا ما كان أعلنه يسوع "أحبّوا أعداءكم... لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنّه يُطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" (متى ٥: ٤٣-٤٦)؛ ومرّة أخرى حين قال: "مَن أمّي ومَن إخوتي؟.. إنّ كلّ من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي" (متى ١٢: ٤٦ -٥٠).  

فلا نستطيع إذًا، في عمل الرحمة والإحسان وفي غيره من الأعمال، أن نسمح لأنفسنا بأن نميّز بين الناس وأن نفرّق بينهم ونصنّفهم بين قريب وعدو. لا نستطيع أن نتيح للعصبيّة والتحزّب والفئويّة، بمجمل مظاهرها وألوانها، أن تتسرّب إلينا وتسيطر على تفكيرنا وعاطفتنا وسلوكنا بحيث نحجب الرحمة عن أناس ونبسطها لأناس. ألم يقل لنا الرسول بولس: "ليس بعد يهوديّ ولا يونانيّ، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى ليس قريب ولا عدو، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (غلا ۳: ۲۸-۲۹). هذه هي الشريعة الجديدة التي أنشأها السيّد المسيح والتي يريد أن يبني عليها العالم الجديد، عالم الأخوّة والمساواة...على هذا المفهوم بنت الكنيسة نظرتها إلى غير المسيحيّين وبنت، بنوع خاصّ، عملها الاجتماعيّ منذ أن قامت إلى اليوم.

 القريب هو مَن أذهب إليه

ولكن، ما هي هذه القرابة التي يتكلّم عليها المسيح، ما هو جوهرها، عَلامَ تقوم؟... من المثل الذي ضربه يسوع، نستنتج أنّ قريبي ليس الذي يربطني به الدم ولا المجتمع ولا العقيدة ولا القوميّة ولا الدين... أو لنقل إذا شئنا إنّ هذه قد تكون من العناصر المكوّنة للقرابة. إنّ قريبي في نظر يسوع هو الذي أذهب أنا إليه... هوالذي أجعله أنا قريبًا لي.. وبالتالي أنا أحدّد قريبي... القرابة تُصنع ولا تُعطى وهذه القرابة ضروريّة. هكذا الرجل اليهوديّ الذي وقع بين أيدي اللصوص لم يشعر ولم ير نفسه قريبًا لابن قومه ودينه، للكاهن وللاوي اللذين مالا عنه وابتعدا، بل شعر ورأى نفسه قريبًا لذلك السامريّ الذي مال إليه وتقرّب منه ولم يكن من قومه ولا من طائفته بل كان في

نظر اليهود عدوًّا.

سأل عالم الناموس السيّد "من هو قريبي"، وفي الختام سأله السيّد بدوره...قلب السيّد الواقع السائد والمفاهيم السائدة. لقد كان عالم الشريعة يعتقد أنّ على الآخرين أن يتقرّبوا منه وإذا بالسيد يقول له عليك أنت أن تتقرّب من الآخرين.

القريب هو المهمل

القريب إذًا هو من أبحث عنه وأذهب إليه. ولكن من هو قريبي بالتحديد وبالدرجة الأولى؟ أو بالحري هل هناك قريب أقرب أو أبدى من غيره؟ بحسب مثل السامريّ الرحيم، القريب هو ذاك الذي عرّاه الناس فأمسى من دون شيء حتّى من ثيابه، وأوسعوه ضربًا ورموا به، هو الذي أهمله الناس وهمّشوه ونبذوه وظلموه وحقّروه، الذي شوهّه الناس فما عاد له وجه ولا هيئة ولا منظر ... هذا هو قريبي بالدرجة الأولى. إنه الفقير بشتّى أنواع الفقر المادّيّ والروحيّ.  

وفي ما يتعلّق بالفقر الروحي تجدر الإشارة إلى أنّ قريبي هو أيضًا الخاطئ، ذاك الذي ترك المسيحُ من أجله التسعة والتسعين وجدّ في طلبه حتّى وجده ورفعه على منكبيه، ومات من أجله على الصليب لكي لا يضلّ من جديد. لا بل في مثل السامري الرحيم أيضًا ما هو أكثر من ذلك وهو أن القرابة في المفهوم الإنجيلي تمتدّ لتشمل الأعداء... ومثل السامري الرحيم لا يخرج عن تعليم السيّد المسيح الذي علّمنا أن نحبّ أعداءنا ونبارك لاعنينا ونصلّي من أجل الذين يضهدوننا (متى ٤٣-٤٤).

 على مثال المسيح

في هذه الأيّام التي كادت تقضي على هويّتنا بحيث ما عدنا نعرف من قريب لمن ومن عدوّ لمن، فلنتذكّر أنّنا نحن نصنع القرابة بمحبّتنا ونحن نصنع العداوة بكراهيّتنا. ولكي تغلب القرابة على العداوة علينا أن نكون ملتصقين بالمسيح، عائشين في صداقة معه هو سلامنا. "بُعدنا عن الله متوقّف علينا لأنه هو دائما قريب منّا". أجل، فكما جاء المسيح إلينا وجعلنا قريبين إليه بصنعه الرحمة والإحسان إلينا، هكذا نحن نذهب إلى الناس أجمعين ونجعل منهم أقرباء لنا. لذلك علينا أن نقاوم كلّ ميل فينا إلى الانعزال والتقوقع والمحافظة على ما نرى فيه مكاسب وامتيازات وحقوق وما إليها، وعلينا أن نبذل لذلك ما لدينا، كما بذل المسيح نفسه، وكما بذل السامريّ خمرًا وزيتًا ومالًا ليخلّص ذلك اليهوديّ ويجعل منه قريبًا إليه".