الفاتيكان
02 تموز 2025, 12:30

"بذور سلام ورجاء" من أجل العناية بالخليقة

تيلي لوميار/ نورسات
أصدر البابا لاون الرّابع عشر، اليوم، رسالة خاصّة باليوم العالميّ العاشر للصّلاة من أجل العناية بالخليقة، بعنوان "بذور سلام ورجاء"، وهو الموضوع الّذي اختاره البابا فرنسيس من أجل هذه المناسبة.

وكتب البابا في سطور رسالته، بحسب "فاتيكان نيوز": "إنَّ الموضوع الّذي اختاره البابا فرنسيس الحبيب لنا في هذا اليوم العالميّ للصّلاة من أجل العناية بالخليقة هو: "بذور سلام ورجاء". ففي الذّكرى العاشرة لتأسيس هذا اليوم، الّذي تزامن مع صدور الرّسالة العامّة كن مُسبِّحًا، نعيش في قلب اليوبيل كـ"حُجّاج رجاء"، وفي هذا الإطار يكتسب الموضوع معناه الكامل والعميق.

لقد استخدم يسوع، في تعليمه، صورة البذرة مرارًا ليحدّثنا عن ملكوت الله. وقبيل آلامه ومماته، شبّه نفسه بحبّة الحنطة الّتي لا تعطي ثمرًا إلّا إذا ماتت ودُفنت في الأرض. فالبذرة تُسلِّم ذاتها بالكامل إلى التّراب، ومن هناك، ومن خلال قوّة عطائها المتفجّرة، تنبثق الحياة، حتّى في الأماكن غير المتوقّعة، في قدرة مذهلة على خلق المستقبل. فلنتأمّل مثلًا في الزّهور الّتي تنمو على أطراف الطّرقات: لم يزرعها أحد، ومع ذلك نبتت بفضل بذورٍ وصلت هناك عرضًا، فزيّنت رماديّة الإسفلت بل وبدأت تخترق صلابته. وهكذا، نحن في المسيح بذور. ولكنّنا لسنا فقط بذورًا، بل "بذور سلام ورجاء". كما يقول النّبيّ إشعيا، إنّ روح الله هو قادر على تحويل الصّحراء القاحلة إلى جنّة، إلى مكان للرّاحة والطّمأنينة: "يُفاض علينا الرّوح من العلاء فتصير البرّيّة جنّة وتُحسب الجنّة غابة. ويسكن الحقّ في البرّيَّة ويستمرّ البرّ في الجنّة. ويكون عمل البرّ سلامًا وفعل البرّ راحة وطمأنينة للأبد. ويسكن شعبي في مقرّ السّلام وفي مساكن الطّمأنينة وفي أماكن الجلبة.

هذه الكلمات النّبويّة، الّتي سترافق المبادرة المسكونيّة لـ"زمن الخليقة" من ١ أيلول سبتمبر وحتّى ٤ تشرين الأوّل أكتوبر، تؤكّد بقوّة أنّه، إلى جانب الصّلاة، نحن بحاجة إلى إرادة وأفعال ملموسة تُجسّد "لمسة الله الحانية" على العالم. فالعدالة والحقّ، هما اللّذان يداويان قساوة الصّحراء وقلّة التّرحيب فيها. إنّه إعلان آنيٌّ جدًّا. ففي أجزاء كثيرة من العالم، بات واضحًا أنّ أرضنا تنحدر نحو الخراب. فالظّلم، والانتهاك المستمرّ للقوانين الدّوليّة ولحقوق الشّعوب، والتّفاوتات الصّارخة، والجشع الّذي يتفجّر منها، جميع هذه الأمور تؤدّي إلى إزالة الغابات، وتلوّث البيئة، وفقدان التّنوّع البيولوجيّ. كما نشهد ظواهر مناخيّة متطرّفة تزداد شدّة وتكرارًا بفعل التّغيّر المناخيّ النّاتج عن نشاطات الإنسان، كما لا يمكن إغفال الأثر المتوسّط والبعيد المدى للدّمار البشريّ والبيئيّ الّذي تخلّفه النّزاعات المسلَّحة.

يبدو أنّ هناك نقصًا في الوعي بأنّ تدمير الطّبيعة لا يطال الجميع بالتّساوي: فالدّوس على العدالة والسّلام يصيب الأكثر فقرًا وتهميشًا واستبعادًا من بيننا. وما تعانيه الشّعوب الأصليّة في هذا السّياق هو خير مثال على ذلك. وليس هذا فقط: فحتّى الطّبيعة نفسها، تُصبح في بعض الأحيان، أداة تفاوض، وسلعة تُباع وتُشترى لتحقيق مصالح اقتصاديّة أو سياسيّة. في هذه الدّيناميكيّات، تُصبح الخليقة ميدان صراع من أجل السّيطرة على الموارد الحيويّة. وتشهد على ذلك المناطق الزّراعيّة والغابات الّتي باتت خطرة بسبب الألغام، وسياسات "الأرض المحروقة"، والصّراعات الّتي تنشأ حول مصادر المياه، والتّوزيع غير العادل للموارد الطّبيعيّة، ممّا يُضعف الفئات الأشدّ هشاشة ويقوّض الاستقرار الاجتماعيّ.

هذه الجراح المتعدّدة هي ثمرة الخطيئة. وبالتّأكيد لم يكن هذا ما كان يدور في ذهن الله عندما عهد بالأرض إلى الإنسان الّذي خلقه على صورته. فالكتاب المقدّس لا يُجيز "تسلّط الإنسان الاستبداديّ على الخليقة"، بل، على العكس، "من المهمّ أن نقرأ نصوصه في سياقها الصّحيح، وبفهمٍ سليم، ونتذكّر أنّها تدعونا لكي "نزرع ونحرس" جنّة العالم". وفي حين أنّ "الزّراعة" تعني حراثة الأرض والعمل فيها، فإنّ "الحراسة" تعني الحماية والرّعاية والحفظ والاهتمام والسّهر. وهذا الأمر يستلزم علاقة مسؤولة متبادلة بين الإنسان والطّبيعة.

إنَّ العدالة البيئيّة- تلك الّتي تنبّأ بها الأنبياء ضمنًا- لم تعد فكرة نظريّة أو هدفًا بعيد المنال، بل باتت حاجة مُلحّة، تتجاوز مجرّد الحفاظ على البيئة، إنّها في الواقع مسألة عدالة اجتماعيّة واقتصاديّة وأنثروبولوجيّة. أمّا بالنّسبة للمؤمنين، فهي أيضًا ضرورة لاهوتيّة، تتجسّد في وجه يسوع المسيح الّذي به خُلق كلّ شيء وفيه نال الخلاص. ففي عالمٍ يدفع فيه الأشدّ ضعفًا الثّمن الأعلى لتداعيات تغيّر المناخ، وإزالة الغابات، والتّلوّث، تغدو العناية بالخليقة قضيّة إيمان وإنسانيّة.

لقد حان الوقت لنترجم الكلمات إلى أفعال. إنَّ "عيش دعوة أن نكون حرّاسًا لعمل الله هو جزء أساسيّ من حياة فاضلة، ولا يشكّل شيئًا اختياريًّا ولا حتّى جانبًا ثانويًّا من الخبرة المسيحيّة". بالعمل بتكرُّس وحنوّ، يمكننا أن نُنبِت بذورًا كثيرة من العدالة، تسهم في بناء السّلام وترسيخ الرّجاء. وقد تمرُّ أحيانًا سنوات طويلة قبل أن يُثمر الشّجر، سنوات تتطلّب مشاركة منظومة بيئيّة كاملة في الاستمراريّة، والأمانة، والتّعاون، والمحبّة؛ لاسيّما إذا أصبحت هذه المحبّة مرآةً لمحبّة الله الّذي يبذل ذاته.

ومن بين المبادرات الكنسيّة الّتي تُشبه البذور الّتي زُرعت في هذا الحقل، أودّ أن أُشير إلى مشروع "قرية كُن مُسبّحًا"، الّذي تركه لنا البابا فرنسيس إرثًا في كاستل غاندولفو، كبذرة قادرة على حمل ثمار عدالة وسلام. إنّه مشروع للتّربية على الإيكولوجيا المتكاملة، ويهدف إلى أن يكون مثالًا على كيفيّة العيش والعمل وتكوين جماعة من خلال تطبيق مبادئ الرّسالة العامّة "كُن مُسبَّحًا". أُصلّي إلى الله القدير أن يرسل لنا بوفرة "روحه من العلاء"، لكي تثمر هذه البذور وغيرها من البذور المماثلة ثمار السّلام والرّجاء بوفرة.

لقد رافقت الرّسالة العامّة "كُن مُسبَّحًا" الكنيسة الكاثوليكيّة والكثير من أصحاب الإرادة الصّالحة على مدى عشرة أعوام. لتبقى مصدر إلهامٍ لنا، ولتكن الإيكولوجيا المتكاملة خيارًا متجدّدًا، نشترك فيه، ونتّخذه بوصلة لمسيرتنا. فتتكاثر هكذا بذور الرّجاء، الّتي نحن مدعوّون إلى "زراعتها وحراستها"، بنعمة رجائنا العظيم والثّابت: المسيح القائم من بين الأموات، الّذي باسمه أمنحكم جميعًا فيض البركة الرّسوليّة."