لبنان
30 أيلول 2024, 11:40

"المغفرة هي ركيزة حياة الجماعة المسيحيّة": المطران عوده

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل المتروبوليت الياس عوده، راعي أبرشيّة بيروت للروم الأرثوذكس بقدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت بحضور فاعليّات سياسيّة ومدنيّة وحشدٍ من المؤمنين.

 

بعد إنجيل الأحد، ألقى المطران عوده عظة قال فيها: "يظهر لنا الإنجيليّ لوقا، القاعدة الذهبيّة التي على الإنسان أن يبني على أساسها علاقته بأخيه، على مثال العلاقة التي رسمها الله في تعاطيه معنا نحن خليقته. تتضمّن هذه القاعدة كلّ فضيلة ووصيّة، وكلّ عمل أو رأي صالح. إنّها المحبّة تجاه الجميع من دون التماس مقابل، والتي من سماتها الرحمة. من يحبّ أخاه يرحمه ويغفر له كما فعل ربّنا يسوع المسيح عندما أحبّنا باذلًا نفسه من أجل خلاصنا. بمحبّته رحمنا الله وغفر ذنوبنا..."

أضاف المطران: "كيف يمكن للإنسان أن يكون رحيمًا في ظلّ الأوضاع القائمة التي يضجّ بها بلدنا والعالم أجمع؟ قدّم ربّنا يسوع جوابًا عن هذا التساؤل في إنجيل اليوم بقوله: "أحبّوا أعداءكم، لا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يُقضى عليكم، اغفروا يغفر لكم، أعطوا تعطوا... لأنْ بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم" (لو 6: 37-38) .

الرحمة تتجلّى في المغفرة. لم يقصد الربّ أن يقلب موازين العدالة البشريّة، إنّما يذكّر التلاميذ أنّ عليهم التوقّف عن الإدانة وإصدار الأحكام لكي يحصلوا على علاقات أخويّة سليمة".

أردف المطران قائلًا: "المغفرة هي ركيزة حياة الجماعة المسيحيّة، فيها تتجلّى مجانيّة المحبّة التي بها أحبّنا الله أوّلا. على المسيحيّ أن يغفر لأنّه قد غفر له. ما من أحد منّا لم يكن بحاجة إلى مغفرة الله في حياته. ولأنّ الله غفر لنا، ولا يزال يغفر، علينا أن نقوم بالمثل كما أوصانا الربّ يسوع في الصلاة التي علّمنا: «واترك (أغفر) لنا ما علينا كما نترك (نغفر) نحن لمن لنا عليه». هذا يعني أن نغفر الإساءة وغيرها الكثير من الأمور...

إنّ الحكم على الأخ الذي يخطئ وإدانته هما أمرٌ خاطئٌ، ليس لأنّنا لا نريد الإقرار بالخطيئة، بل لأنّ إدانة الخاطئ تقطع رباط الأخوّة وتزدري برحمة الله الذي لا يتخلّى عن أحد من أبنائه. لا سلطان لنا كي ندين أخانا، ولسنا في مرتبة أعلى منه، بل علينا بالحريّ واجب استعادته لكرامة بنوّته للآب، وواجب اصطحابه في مسيرة توبته، مع إدانتنا لخطيئته".

أكمل المطران عوده: "إن كانت المغفرة هي الركيزة الأولى، فالعطاء هو الركيزة الثانية. قال الربّ: «أعطوا تعطوا... لأن بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم» (لو 6: 38). الله يعطينا أكثر بكثير ممّا نستحقّ، لكنّه أكثر سخاء مع الأسخياء هنا على الأرض. لم يتكلّم الربّ يسوع على ما سيحدث مع الذين لا يعطون لكنّ تشبيه الكيل يمثّل تحذيرا. فبمقدار المحبّة التي نمنحها نكون نحن أنفسنا من يقرّر مقياس الكيل الذي سيكال به لنا. هذا ما قصده بقوله: «كما تريدون أن يفعل النّاس بكم كذلك افعلوا أنتم بهم» (لو 6: 31)...

إذًا، المحبّة الرحيمة هي الدرب الوحيد الذي علينا سلوكه. لذا علينا أن نكون أرحم، فلا نتكلّم بالسوء على الآخرين، ولا ندين أو نحسد ونظلم ونقتل. علينا أن نغفر ونكون رحماء ونعيش المحبّة التي تسمح للمسيحيّ أن يحافظ على هويّته وأن يدرك أنّه ابنٌ للآب... هكذا يتّسع القلب ويكبر بالمحبّة فيما تجعله الأنانيّة والغضب والحقد والحسد يتقلّص ويتصلّب ويتحجّر.

يا أحبّة، إن لم يظهر المسيحيّ مسيحيّته المتجلّية في المحبّة والعطاء والمغفرة في مثل هذه الأوقات العصيبة التي يمرّ بها بلدنا الحبيب، فمتى يظهرها؟ لقد تأكّد اللبنانيّ ألّا أحد إلى جانبه سوى أخيه اللبنانيّ. أطفالٌ بعمر الورود وأبرياء ذبلت أجسادهم وتقطّعت أوصالهم ولم يحرّك المشهد الضمائر لإنهاء المجزرة. اللامبالاة أمام وحشيّة ولا إنسانية ما يجري يدلّ على أنّ العالم اختار الابتعاد عن الله، لكنّنا نحن متشبّثون بخالقنا الذي نؤمن بأنّه لن يتركنا يتامى، مهما تخلّى عنّا القريب والبعيد لأنّ مصلحتهم تقتضي ذلك".

هنا لا بدّ من التأكيد أنّ الوقت الآن هو وقت التفاف اللبنانيّين حول دولتهم، وتسليمها أمر الدفاع عن لبنان، ووقت تحمّل الجميع مسؤوليّتهم، ووقت اجتماع النوّاب، لانتخاب رئيس للبلاد يتسلّم زمام الأمور ويرفع الصوت عاليًا دفاعًا عن لبنان، متوسّلًا الطرق الدبلوماسيّة لإيجاد الحلّ، ويطالب بوقف النار فورًا...

مرّة جديدة نخاطب ضمائر من في يدهم القرار...ارحموا الأبرياء الذين يقتلون ويخسرون أحبّاءهم وأرزاقهم ويهجّرون بالآلاف. بلدنا لا يحتمل الحرب في الظروف الصعبة التي يمرّ فيها فلا تتلكّأوا ولا تربطوا مصيره بمصير أيّ جماعة أو دولة...إنّه وقت اتّخاذ القرارات الشجاعة التي تنقذ لبنان وشعبه. .

دعوتنا اليوم أن نصلّي ونعمل من أجل خلاص بلدنا وأبنائه وأرضه، وأن نحبّ الجميع، ونغفر لمن أساء إلينا، وأن نحمله في صلاتنا، علّ قلبه يعود ينبض بالرحمة والمحبّة التي نأمل أن تسود المسكونة أجمع، فتلغي الحروب وتحلّ السلام، آمين".