لبنان
29 تموز 2024, 12:30

"العالم" وحقيقة العشاء السريّ: المتروبوليت سلوان موسي

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس (جبل لبنان) المطران سلوان موسي، رسالة رعائيّة بمناسبة الدورة الثالثة الثلاثين للألعاب الأولمبيّة - باريس 2024، كتب قائلًا:

 

 

"العالم" وحقيقة العشاء السريّ

"يا أبتاه، اغفرْ لهم لأنّهم لا يدركون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34)

 

على ضوء الفعّاليّات التي رافقت افتتاح الدورة الثالثة الثلاثين للألعاب الأولمبيّة في باريس، من المناسب والضروريّ التأكيد على النقاط التالية:

1-      الألعاب الرياضيّة عمومًا، والألعاب الأولمبيّة خصوصًا، هي اليوم مجال حضاريّ بامتياز يخدم تلاقي الشعوب وما تحمل من إرث ثقافيّ وحضاريّ وروحيّ في تفاعل إنسانيّ صحيّ وبروح أخويّة. 

2-      إنّ تنظيم الألعاب الرياضيّة يساعد على تنفيس الاحتقان الاجتماعيّ والنفسيّ، الجماعيّ والفرديّ، كما أنّه من شأنه أن يبدّد العدوانيّة الكامنة في النفوس عبر تجيير طاقات الأفراد والجماعات في سبيل يمكن معه ضبط النفس والحفاظ على رباطة الجأش في تعامل كلّ هذه المكوّنات مع بعضها البعض، دون اللجوء إلى العنف بكلّ أشكاله، الجسديّة أو اللفظيّة، المعنويّة أو النفسيّة.

3-      إنّ عالمنا اليوم يعاني من التنمّر بكلّ أشكاله وهناك جهود جبّارة تُسكب في سبيل مداواة هذه الآفة من نفوس حامليها، في تسليط للضوء على الطبيعة الإنسانيّة الواحدة الحاملة لإنسانيّتها في آنية خزفيّة، وذلك في سعي راشد ومسؤول لتكوين حلقة تعاضد وأخوّة تخفّف من تصدّع العلاقات الإنسانيّة وجنوحها إلى استخدام التنمّر وسيلة للتعبير عن الذات وتأكيدها أو إبراز تفوّقها على الآخرين، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات.

4-      إنّ عالمنا أيضًا تتجاذبه مفاهيم عديدة حول الحريّات، منها حريّة الأقليّات وحريّة التعبير، والتغنّي بقدسيّة هذه الحريّات والتسويق لها على غير صعيد، عبر استخدام مزدوج للمعايير بشأنها بين الجماعات، لتخدم مقاصد أصحابها ومصالحهم، دون أن تخدم دومًا –للأسف- بناء مجتمع إنسانيّ صحيح وعادل يعبّر عن ذاته في سلامة الربط التي تجمع بين أفراده، وفي السّلام الذي يحفظ إنسانيّته من عطب النزوات والشهوات ويشوّهها تحت مسمّيات كثيرة، إلى درجة فرضها كأمر واقع على المجتمع أن يتكيّف بشأنها.

5-      يشهد عالمنا تبدّلًا كبيرًا في القيم، على ضوء النسبيّة التي باتت تتحكّم بمطلقيها، بما يعرّضنا لاستنسابيّتهم في استخدامها وازدواجيّة باتت فاضحة ومفضوحة بآن، تهدّد الحياة الإنسانيّة المشتركة، كما نشاهد في ممارسات عدد من الدول والمؤسّسات والمنظّمات العالميّة، تأكيدًا لمصالحها وتحقيقًا لأهدافها المعلَنة وغير المعلَنة باعتداء صارخ على روح الإنسان الذي يستحقّ منّا كلّ خير وصلاح. 

6-      في هذا السياق، وعلى ضوء الاعتبارات السابقة الذكر، يبقى سرّ يسوع المسيح في عالمنا هدفًا للتنمّر والتجنّي والتشويه والتطاول والافتراء والاضطهاد واجهه يسوع نفسه بأن تجسّد من أجل خلاصنا وحمل طبيعتنا ورفعها إلى الآب السماويّ لتتمجّد معه كلّ مَن آمن به. وسرّ الشكر، سرّ العشاء السريّ، الذي أقامه عشيّة آلامه، إنّما هو سرّ حـمْلِنا هذا، بكلّ ما للكلمة من معنى، في عطب بشريّتنا وإنسانيّتنا، دون أن يأنف يسوع منها أو يتلفها، وهو الخالق الضابط الكلّ، بل تعهّدها وافتداها وجدّدها بالحبّ الإلهيّ الذي انكشف لنا به.

7-      إنّ محاولة استعراض هذا السرّ على النحو الذي جرى في افتتاح الألعاب الأولمبيّة في باريس إنّما يؤكّد لتلاميذ يسوع أنّ هذا السرّ قائم بكلّ قوّته اليوم بكلّ ما يحمل من محبّة الله للإنسان، وبكلّ ما يحمل معه من قدرة على رفع إنسانيّته إلى الكرامة التي يستحقّها في عين الله، وبكلّ طاقة الغفران التي سكبها يسوع من على الصليب بصلاته: "يا أبتاه، اغفرْ لهم لأنّهم لا يدركون ماذا يفعلون" (لوقا 23: 34)، حتّى يكون للإنسان نور فلا يمشي في الظلمة بعد اليوم.

8-      إنّ محبّة الله في يسوع المسيح هي التي تستفزّنا بالأحرى، وتضعنا في استنفار دائم في سبيل عيشها والشهادة لها وتجسيدها في عالمنا، أكثر بكثير من أيّ عمل، سواء كان فنيًّا أم لا، يستفزّ إيماننا أو يسخر منه أو يبخّسه أو يشوّهه، كما حصل في حفل الافتتاح. إنّ محبّة يسوع هي التي تحتضن الإنسان، كلّ إنسان، ولا تقصي عنها أحدًا، وتقوده إلى الحقّ، فيسوع يرعاه ويقوده إلى كماله، كمال الحريّة والمحبّة والإنسانيّة. 

9-      إنّ المصباح موضوع على المنارة ليضيء لكلّ أهل البيت (متّى 5: 15). والعشاء السريّ هو هذا المصباح الذي لا يمكن أن يحجب حقيقتَه الأزليّة شيءٌ على الاطلاق. هذا هو إيماننا وهذه هي الحقيقة التي تعيشها الكنيسة في أسرارها وخبرة الروح القدس الكامن فيها. أمّا الخارج، فهم مجال خدمتها ومحبّتها وشهادتها وصلاتها، حتّى يعرفوا ويؤمنوا وتكون لهم حياة أبديّة في نفوسهم.

* * * * *

فلنشكر الربّ على أنّه أعطانا حياته لتكون حياتنا في سرّ العشاء هذا. ولن يحجب هذه الحياة ما قمنا أو نقوم أو قد نقوم به، مهما كان. عسانا نطلبها من كلّ القلب فتكون لنا نورًا يضيء ونارًا تطهّر.

ألا بارك يا ربّ شهودك في الأرض الذين يخدمون قصدك من أجل خلاص أترابهم.

+سلوان

 

متروبوليت جبيل والبترون وما يليهما

(جبل لبنان)