لبنان
07 آب 2024, 10:40

"الحياة الرُهبانيّة حاجة في الكنيسة ولا شيء يحِلّ محلّها": البطريرك العبسي

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك يوسف العبسي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيّين الكاثوليك صلاة الغروب بمناسبة عيد التجلّي الإلهيّ في دير المخلّص-صربا التابع للرهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة وذلك إبّان زيارته الرعويّة بمناسبة ذكرى اليوبيل الـ ٣٠٠ للشركة مع الكرسي الرسوليّ.

 

ألقى البطريرك العبسي كلمة من وحي المناسبة شدّد فيها على ضرورة إحياء الذكرى المئويّة الثالثة للشركة مع الكرسي الرسوليّ، بالصلاة والتأمّل. قال البطريرك:

"فرحت لمّا قيل لي لنذهب إلى بيت الربّ". إنه فرح من يأتي إلى بيت للربّ وديرٍ يفوح منه عَرفُ قداسة ويُرى فيه نورٌ من السماء..."  

"من يدخلْ دير المخلّص يشعرْ بأنّه ينتقل من عالم الأرض إلى عالم الملكوت. بهذا يمتاز الدير عن باقي المطارح، يمتاز بأنّه عالم الله، عالم الملكوت...وقد حُقَّ أن يدعى مسكن العليّ وأن يقال عنه إنّه مكان مقدّس، يدعو ما فيه المرءَ إلى أن يترك كلّ اهتمام دنيويّ ولا يهتمَّ إلّا لما لله عملًا بطلب الرسول بولس: اهتمّوا لما هو فوق لا لما هو على الأرض لأنّكم قد متّم للعالم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله (كول3: 2-3)".  

أردف البطريرك قائلًا: "متنا للعالم وحياتنا مستترة مع المسيح في الله". هذا ما فعله آباؤنا الأوّلون الذين أسّسوا الرُهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة لمّا أتوا إلى دير السيّدة في البلمند ثمّ إلى دير يوحنّا الصابغ في الخنشارة. كانوا أربعة، جميعهم من حلب، غادروها وهجروا العالم طلبًا لعيش الحياة الرهبانيّة، لعيش الملكوت بعيدًا عن الهموم الدنيويّة في مكان يُروي ظمأ شوقهم إلى الله الذي كان يسكنهم وتحوّلوا إلى لابسين لله كما تصفهم الكنيسة في صلواتها رامزين إلى هذا التحوّل باللِباس الرهُبانيّ. وما لبثت مؤسّستهم أن نمت وتوطّدت وأضحت عماد الكثلكة في الكنيسة الأنطاكيّة نظير الرهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة...لا بدّ من الإقرار والتأكيد أنّ الرهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة كان لها الفضل في توطيد أبنائنا وانتشارهم وفي مرافقتهم وخدمتهم حتّى اليوم، وقد اضطُرَّت بهذا الفعل إلى الخروج عن النمط الرهبانيّ التقليديّ الصِرف إلى خدمة الرعايا، إلى الرسالات، في شتّى المناطق لأنْ، لم يكن بعد في كنيستنا إكليروسٌ أبرشيّ عددُه كافٍ وعلمه وافٍ، فاضطُرّت، مع شقيقتها الرهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة، إلى سدّ النقص ولجأت إلى إنشاء المؤسّسات التربويّة والطبّيّة والاجتماعيّة وغيرها. ولهما في ذلك فضل كبير".

أكمل البطريرك العبسي كلامه: "يتساءل البعض هل بعدُ من حاجة إلى الحياة الرُهبانيّة، في أيّامنا الحاضرة؟ ألا يدلّ النقص الكبير الحاصل في الدعوات الرهبانيّة على انتفاء الرغبة في اعتناق الحياة الرهبانيّة في الأوضاع المجتمعيّة الحديثة والتيّارات الفكريّة المعاصرة وعلى اندثار الرُهبانيّات بالتالي ولو شيئًا فشيئًا؟ ألا تنوب الحركاتُ المسيحيّة العلمانيّة الجديدة مَناب المؤسّسات الرهبانيّة التقليديّة؟ الجواب في رأينا كلّا. الحياة الرُهبانيّة حاجة في الكنيسة ولا شيء يحِلّ محلّها. حياة صعبة متطلِّبةٌ بلا أدنى شكّ. لكنّ صعوبتها لا تبرّر التخلّي عنها. إنّما اتّباع المسيح في الأساس، إنّما الحياة المسيحيّة العاديّة، صليب نحمله كلّ يوم كما أنبأنا الربّ يسوع. الحياة مع يسوع جذريّة، إمّا معَ وإمّا على وقد تكون أزمة الحياة الرهبانيّة في الجمع بين الـمَعِ والعَلى. الحياة الرهبانيّة تلبية لدعوة من السيّد المسيح إلى أن نتبعه في ما يعرض علينا وفق ما نسمّيه المشورات الإنجيليّة، تلبيةٌ لدعوة المسيح إلى أن نشهد للملكوت بهذه الطريقة. البعد العموديّ، العلاقة مع الربّ يسوع، هو القاعدة في الحياة الرهبانيّة وليس البعدَ الأفقيّ، العلاقةَ مع الناس. من هنا، ضرورة الصلاة في الحياة الرهبانيّة. وعندما تهبّ عاصفة في مؤسّسة رهبانيّة فلنبحث قبل كلّ شيء عن الصلاة: هل نصلّي أم لا نصلّي؟

الرهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة خدمت في معظم البلاد العربيّة وفي بعض بلاد الانتشار ولها فضل كبير في المحافظة على الكنيسة الملكيّة بتقاليدها وطقوسها وتاريخها وموروثها وفضلٌ في نموّها وانتشارها. لمع العديد من أبنائها باللّاهوت والفلسفة والقانون الكنسيّ والكتاب المقدّس والموسيقى الكنسيّة مستثمرين مواهبهم ووزناتهم لخدمة كنيستهم ومجتمعاتهم. وزوّدت الرهبانيّة كنيستنا برهبان كهنة ومطارنة وبطاركة ذوي فضيلة وبرّ وثقافة وكان لهم أثر حتّى في الكنيسة الجامعة من مثل الكردينال أكاكيوس كوسا وخصوصًا الذين شاركوا في المجمع الفاتيكانيّ الثاني. إن دلّ هذا على شيء فعلى أنّ الرهبانيّة الباسيليّة هي جزء من كيان كنيستنا ومن حياتها. ونحن كلّنا مَدينون لها".

تابع البطريرك العبسي: "الماضي والحاضر بما فيهما من ثراء وجمال وافتخار لا ينفصلان عن المستقبل ولا يُنسيانا إيّاه. تفكيرنا يتّجه إلى المستقبل. عمَّ نبحث فيه؟ خياراتٌ متنوّعة مبسوطة أمامنا، إنّما أيًّا يكن الخيار الذي ننتقي، بأهدافه وأساليبه، لا بدّ في البداية من تذكّر شيء أساسيّ جوهريّ: الدير هو بمثابة حجاب الهيكل من يدخل ورائه يدخل قدس الأقداس. يصير في حضرة الله، مقدّسًا لله، مدعوًّا إلى حمل الصليب واتّباع السيّد المسيح كلّ يوم، على خلاف ما قد يعتقده البعض من أنّ دخول الدير هو طلب عيشٍ أسهلَ وخالٍ من الهمّ والمسؤوليّة. ولا بدّ أيضًا من التذكّر أنّ الدير إمّا أن يكون ثابورًا وحرمونًا، منارة، نقطة استفهام، بوصلة، وإمّا أن يكون كغيره من المطارح في العالم، مطرحًا نكرةً، غارقًا في هموم العالم لا يشعر المارّ به أو الناظر إليه أنّه يمرّ بشيء غير عاديّ، يجذبه إليه، على الأقلّ من باب الاستعلام والاستفهام، بما أنْ لطالما كان الاستعلام والاستفهام بداية مسيرة مع الربّ يسوع".

ختم البطريرك كلامه بالقول: "نودّ، باسم كنيستنا أن نوجّه الشكر إلى الرُهبانيّة الباسيليّة الحلبيّة على الكثير الثمين الذي قدّمته على مدى السنوات الثلاثمئة، على مختلف الصعد. ونسأل الله أن يُفيضَ خيراته عليها وأن يدثّر أبناءها بثوب القداسة ويَزيدهم عددًا لتستمرّ في أداء الشهادة الإنجيليّة والشهادة للملكوت وفي عمل الرسالة والخدمة لتقود الناس إلى معرفة الحقّ والخلاص، مصلّين من أجلها مع الكنيسة وقائلين: "يا ربّ يا ربّ اطّلع من السماء وانظر وتعّهد هذه الكرمة وأنمها لأنّ يمينك قد غرستها". آمين.