"التّعايش من أجل حياة أفضل" في مطرانيّة سيّدة النّجاة
شارك في اللّقاء رئيس اللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحيّ- الإسلاميّ، ورئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع للرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران عصام يوحنّا درويش، ورئيس ملتقى ألأديان والثّقافات للتّنمية والحوار سماحة السّيّد العلّامة علي فضل الله، ورئيس اللّجنة الثّقافيّة في المجلس المذهبيّ لطائفة الموحّدين الدّروز الشّيخ الدّكتور سامي أبي المنى، والمنسّق العامّ لشبكة أمان للسّلم الأهليّ المحامي عمر زين ورئيس المؤسّسة الاجتماعية لحوار الحضارات في سيدني – أستراليا المهندس جوزف سكّر.
وحضر اللّقاء راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت أنطونيوس الصّوريّ، وراعي أبرشيّة زحلة المارونيّة المطران جوزف معوّض ممثّلاً بالأب وسام أبو ناصر، والشّيخ حسين شحادة، ووكيل المرجع الدّينيّ الكبير السّيّد صادق الحسينيّ الشّيخ محمد علي الفوعاني، ورئيس جمعيّة قولنا والعمل الشّيخ أحمد القطّان، والشّيخ مروان الميس والشّيخ نادر جمعة، والنّائب عبد الرّحيم مراد، النّائب السّابق شانت جنجنيان، والوزير السّابق محمود أبو حمدان، والدّكتور علي يعقوب، ومنسّق تيّار المستقبل في البقاع الأوسط، ورئيس بلديّة مجدل عنجر سعيد ياسين ممثّلاً بمحمود عجاج، ونائب رئيس بلديّة زحلة المعلّقة وتعنايل الأستاذ أنطوان الأشقر، ورجال الأعمال علي الجاروش وعامر الصّبوريّ، رئيس جمعيّة التّنمية الثّقافيّة علي الموسويّ، ومدير منظّمة الرّؤيا العالميّة في البقاع شربل الخوري، ورئيس "أفكار اغترابيّة" في سيدني – أستراليا الدّكتور جميل الدّويهيّ ووفد كبير من أبناء الجالية اللّبنانيّة في أستراليا، إضافة ألى المخاتير ورؤساء الأندية والفاعليّات الثّقافيّة والدّينيّة.
إستهلّ اللّقاء بالنّشيدين اللّبنانيّ والأوستراليّ من إنشاد المغنيّة الأوبراليّة العالميّة تيرا معلوف، وقدّم الاحتفال الصّحافيّ ميشال أبو نجم الذي لفت إلى "أنّ نهج الجهات المنظّمة للحوار يختلف عن اللّقاءات التّقليديّة الشّكليّة لأنّ هذه الجهات عملت لتكريس نمط حواريّ يتمسّك بالمواطنة حلاً لصراع العصبيّات، ويضع القيم الدّينيّة في خدمة المشترك والعام فيئد العصبيّة الدّينيّة والمذهبيّة." وتحدّث عن دور سيّدة النّجاة التّاريخيّ في الجمع والتّلاقي وقال: "إنّ النّهج الحواريّ عمل عليه بكدّ وجهد المطران عصام يوحنّا درويش المؤتمن على إرث مطرانيّة الرّوم الكاثوليك في التّمسك بلبنان الواحد الموحّد، لبنان الكبير بتنوعّه وبقيمه التي تأسّس من أجلها، وطنًا للحرّيّات والتّعدّديّة والإنسان."
ورحّب المطران درويش بالضّيوف وشدّد على "ضرورة التّعايش من أجل حياة أفضل" في كلمة أبرز ما جاء فيها:
"أودّ أن أشيرَ في بداية مداخلتي إلى وثيقة تاريخيّة أصدرها البابا يوحنّا بولس الثّاني وعنونها بنور الشّرق، ففي القسم الثّاني من هذا الإرشاد الرّسوليّ يتحدّث البابا عن المسافة العظيمة التي اجتازها الإنسان في التّعارف المتبادل. هذا التّعارف يسمح لنا أن نلتقي اليوم ونتحاور من أجل حياة أفضل، ونضرع معًا إلى الرّبّ الأوحد وأن نصلّي معًا ونصلّي بعضُنا لأجل بعضِنا ونسلك سبيل المحبّة.
أذكر أيضًا وثيقة أخرى صدرت عن الفاتيكان بعنوان Nostra Aetate"" في عصرنا وهي بمثابة شرعة الحوار المسيحيّ- الإسلاميّ وجاء فيها: "لا نستطيع أن ندعو الله أبا الجميع، إذا رفضنا أن نسلك أخويًّا تجاه النّاس المخلوقين على صورة الله. فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بأخوته البشر مرتبطتان إلى حدٍّ أنّ الكتابَ يقول: "إنّ من لا يحبّ لا يعرف الله" (1يوحنا 4/8).
إذن لا يمكننا أن نحبَّ الله ما لم نحبَّ الآخر كما لا يمكننا أن نحبَّ الآخر ما لم نحبَّ الله، تبعًا لذلك لا يمكننا أن نحبَّ الله ولا القريب إذا لم نعرفْهُما أيّ إذا لم ندخلْ معهما بعلاقة مودّة، فمعرفة الآخر هي أساس وهدف كلِّ حوار.
يبدو لي أنّ الخوف من الآخر هو العائق الأكبر للحوار، فكيف لنا أن نحوّلَ هذا الخوف إلى ثقة؟ والتّباعدَ إلى صداقة وتضامن؟ والمواجهةَ إلى التّضامن؟
الهدف الحقيقي للديانة هو السلام، تدرّب الإنسانَ وتنشئه على الحياة بسلام مع أخوته البشر، ولا أظن أن مسؤولا دينيًّا، مسيحيًّا كان أم مسلمًا، يدعو الى الكراهية والعنف والقتال، فالذي يصلّي ويدعو الناس الى الصلاة، هو إنسان ينعم بسلام عميق في قلبه، وعليه أن يوقظ في قلوب النّاس، حبَّ الآخر واحترامَه وقبولَه والتّضامنَ معه ويدرّبَه على الحلول السّلميّة لأيّ نزاع عنفيّ.
إنّ الأديان تساهم في الحلول ولم تكن أبدًا هي المشكلة، كما تقول وثيقة Nostra Aetate"" البشر ينتظرون من مختلف الدّيانات جوابًا على الألغاز الخفيّة، الغازِ الوضعِ الإنسانيّ، التي تهزُّ قلوبَ النّاس في الصّميم، في الأمس كما في اليوم: ما الإنسان؛ ما معنى حياتنا وغايتِها؛ ما الخيرُ وما الخطيئة؛ ما مصدرُ الآلام وما غايتُها وما السّبيلُ للحصول على السّعادة الحقيقيّة؛ ما الموتُ، وما القضاءُ والجزاءُ بعدَ الموت، ما هو أخيرًا ذلك السّرُّ النّهائيّ الذي لا يوصف والذي يلفُّ وجودنَا وعنه صدرنا وإليه نتّجه؟
أعتقد أنّه لا يوجد اليومَ نزاعٌ بين الأديان لو عرفنا أن نميّزَ بين قضايا السّياسة وقضايا الدّين، وكلُّنا يلاحظ أنّه في أحيانَ كثيرة يستعملُ رجال السّياسة، الدّين، ليبرروا سلوكَهم السّياسيّ أو ليبنوا مبادئَ بعيدةً عن الدّين، لذلك يمكننا أن نؤكّد بأنّ الإيمان بعيدٌ عن الممارسات والسّياسات التي ينتهجُها الإنسان، لأنّ الأديان لا يمكن أن تكونَ رافعةً للسّلطة." وإختتم قائلًا: "نحن مدعوّون أيّها الأخوة لأن نتشاركَ الغنى الذي تقدّمُه لنا الدّيانات، وهذا هو المدخل إلى كلّ حوار دينيّ يهدف إلى إيجاد أرضيّةٍ صالحة للإنسان يعيش فيها بحرّيّة وعدالة وأمان، وهذه هي دعوتنا نحن المؤمنين، أن نجعلَ النّاسَ يعيشون بفرحٍ وسلام، وأكثرَ من ذلك أن نجعلَ البشريّة عائلة واحدة، فلنعملْ إذن، على حدّ قول بولسَ الرّسول، "ما هو للسّلام، وما هو لبنيان بعضِنا البعض" (رو14/19).
صباح كلّ يوم تبزغ من شرقنا شمسٌ جديدة تعيد إلينا النّورَ الذي يضيءُ مستقبلَنا، فرجاؤنا بأن "كلمتنا السّواء" تجمعُنا، ودعوتُنا أن نسير معًا نحو الرّبّ الواحدِ ونحو بعضِنا البعض."
أمّا العلّامة السّيّد علي فضل الله فقال: " ليسَ أمرًا جديدًا أنْ نلتقيَ في مطرانيّةِ زحلة، فقدْ التقينا سابقًا وسنلتقي لاحقًا مع سيادتِه، ومعَه كلُّ هذهِ الرّعيّةِ، لنتعاونَ ونعملَ معًا من أجلِ تعميقِ اللّقاءِ بينَ الدّياناتِ والثّقافاتِ، ولإزالةِ الشّوائبِ التي يسعى البعضُ لإلصاقِها بالأديانِ، لتشويهِ صورتِها، أو لزرعِ الفرقةِ بينَ أتباعِها، أو للعبثِ بصيغةِ التّعايشِ في هذا البلدِ العزيزِ لبنان.
هذا البلدُ سيبقى، كما نريدُه، أنموذجًا لقدرةِ الأديانِ على التّلاقي والتّعاونِ في وجهِ كلِ الذينَ يقولونَ أنْ لا قدرةَ للأديانِ على ذلكَ، لكنْ ما يميّزُ هذا اللّقاءَ ويعززُه هو هذا الحضورُ الكريمُ من القادمينَ منْ بلادِ الاغترابِ، الذينَ اضطرَتهم الظّروفُ إلى أنْ يغادروا وطنَهم ويعيشوا حيثُ هم، ولكنَّهم لم ينسوا هذا الوطنَ... ظلّوا متعلّقينَ بأرضِه وترابِه، ومحافظينَ على قيمِه، وكانوا رسلَ سلامٍ ومحبّةٍ إلى العالم.
أيّها الأحبّةُ، لقد مَنَّ اللهُ علينا بالأديانِ التي نؤمنُ بها، والتي أرادَها بكلِ تنوّعاتِها أنْ تكونَ على صورتِه منَ المحبّةِ، ومنَ الرّحمةِ والسّلامِ الّذي ننشدُه لهذا العالمِ، فالأديانُ تمثّلُ الصّيغةَ الفريدةَ والوحيدةَ التي يمكنُ أنْ تؤسسَ لعلاقةٍ جذريّةٍ وأصيلةٍ تقومُ على الودِّ والوئامِ والاحترامِ بينَ البشر. ومهما ارتقَت الصّيغُ الإنسانيّةُ، فلنْ ترتقيَ إلى الصّيغةِ التي صاغَها اللهُ، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، وكيفَ لا تكونُ كذلكَ، والأديانُ في عمقِها الدّواءُ العميقُ لمعالجةِ شرورِ هذا العالمِ، لأنَّ الشّرَّ منبعُه الذّاتُ الإنسانيّةُ! فإذا سكنَ اللهُ هذهِ الذّاتَ، كما أرادَت الرّسالاتُ السّماويّةُ، سكنَ الحبُّ والرّحمةُ والسّكينةُ القلوبَ، وفاضَ الصّوابُ والحقُّ في العقولِ، وامتلأَت الحياةُ خيرًا وحبًّا وسلامًا.
نعم، أيها الأحبةُ، هذا هوَ الدينُ، هذا هوَ الإيمانُ، لذا أقولُ لكم: ليسَ من الدينِ منْ يدعو إلى الكراهيةِ والحقدِ والبغضِ، حتّى لو لبسَ لبوسَ الإسلامِ أو المسيحيّةِ أو حملُ عنوانَهما... إنَّ جوهرَ المسيحيّةِ في السّيّدِ المسيح الذي جاءَ ليقولَ: كونوا كالشّمسِ التي تشرقُ على البرِّ والفاجرِ، وينقلُ القرآنُ عنه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ}، وإنَّ جوهرَ الإسلامِ هوَ الحبُّ. لذا عندما سُئلَ رسولُ اللهِ عن تعريفِ الدّينِ، قال: الدّينُ هو الحبُّ، وعندما تحدثَ اللهُ عنه قال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{
المسيحيةُ تقولُ: "اللهُ محبةٌ، ومنْ يثبتُ في المحبةِ، يثبتُ في اللهِ واللهُ فيه"، والإسلامُ يقولُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{
كلُّ منْ يقولُ غيرَ ذلكَ هوَ جاهلٌ بالإسلامِ، وجاهلٌ بالمسيحيّةِ، حتّى لو ترنمّ بلسانِه بآيةٍ من هنا أو هناكَ... هوَ جاهلٌ لأنه لم يفهمْ ما قرأَه، وهو لم يعرفْ أنه إذا حملَت بعضُ الآياتِ هنا أو هناك قدراً من الغضبِ والعنفِ، فهي تختصُ بالأشرارِ، بالظّالمينَ، بالمحتلّينَ، بمغتصبي الحقوقِ، بكلِ أولئكَ الذينَ رفضوا الإصغاءَ إلى كلمةِ المحبّةِ، وإلى كلمةِ الرّحمةِ، وأصرّوا على أنْ يملأوا الأرضَ فسادًا.
إذًا، هوَ إما جاهلٌ بحقيقةِ الدّينِ.. ذلكَ الشّخصُ الذي يمارسُ الظّلمَ ويحرّضُ على الكراهيةِ باسمِ الدّينِ، وإما هوَ منْ لصوصِ الهيكلِ... لصوصِ الصّوامعِ... لصوصِ المساجدِ... منْ أولئكَ الذينَ يعبثونَ بالدّينِ لحسابِهم، أو لحسابِ الذينَ يخربونَ أوطانَنا، ويقسمونَ بلادَنا، وينهبونَ ثرواتِنا.
أيّها الأحبّة، هذهِ نقطةٌ أحببْتُ أنْ أثيرَها أمامَكم، ولا أظنُّكم تجهلونَ هذا الواقعَ، ولكنْ أردتُ فقط التّذكيرَ... لنكونَ جميعًا على بيِّنةٍ منْ كلِّ التّوجهاتِ التي تعملُ على تشويهِ الدّينِ؛ تشويهِ الإسلامِ، من خلالِ كلِّ ما مارسَته حركاتُ التّطرفِ الإسلاميِّ، وما ارتكبَته من جرائمَ ضدَ المسلمينَ والمسيحيّينَ والغربيينَ منْ جهةٍ، وكلِّ التّشويهِ الذي يلحقُ بالإسلامِ منْ خلالِ الحملاتِ المستمرةِ تحتَ عنوانِ ما يُسمى "بالإسلاموفوبيا" من جهةٍ أخرى، والتي تحركُها اتجاهاتٌ يمينيّةٌ متعصّبةٌ تدّعي النّطقَ باسمِ الإنجيلِ والمسيحيّةِ... والتي جاءُ الحادثُ المؤلمُ في نيوزيلندا ليؤكدَ خطورةَ مثلِ هذهِ الاتجاهاتِ، ومن أهدافِها فتحُ أبوابِ الصّراعِ بينَ الأديانِ، على خلفيةِ المقولةِ التي تروجُ لها اتجاهاتٌ سياسيّةٌ وازنةٌ في الغربِ، وذلكَ تحتَ عنوانِ الصّراعِ بينَ الحضاراتِ.
إنَّ مسؤوليّتَنا كبيرةٌ كمواطنينَ في لبنانَ، وكجالياتٍ مسلمةٍ ومسيحيّةٍ في الغربِ، أن نكونَ دعاةً للدّينِ، أن نبشرَ به، أنْ نسعى إلى التّبرؤِ من كلِّ الاتّجاهاتِ التي تدَّعي الانتماءَ إلى الإسلامِ أو المسيحيّةِ وإدانتِها، لنقولَ إنَّ الإسلامَ والمسيحيّةَ براءٌ من كلِ دعوةٍ لإحداثِ الشّقاقِ والكراهيةِ، ليسَ بينَ الأديانِ السّماويّةِ فحسب، بل بينَ كلِّ البشرِ.
إنّنا نريدُ منكم أنْ تكونوا الواعينَ لما يحاكُ، وخيرُ ردٍّ على كلِّ هؤلاء أنْ نعمقَ علاقاتِنا كمسلمينَ ومسيحيّينَ بعضُنا بالبعضِ الآخر، أن نجتمعَ معًا من كلِ الفئاتِ والطّبقاتِ والتّوجّهاتِ ومنْ علماءِ الدّينِ، لنؤكدَ متانةَ هذهِ العلاقةِ، أنْ لا نتقوقعَ أديانًا ومذاهبَ ومواقعَ سياسيّةً وجماعاتٍ، كما هو حالُنا.. أنْ نربيَ أسرَنا على التّواصلِ والودِّ والمحبّةِ، أنْ تكونَ مساجدُنا وكنائسُنا ونوادينا ولقاءاتُنا منابرَ لتأكيدِ الإيمانِ، ولترسيخِ القيمِ الأخلاقيةِ، وإشاعةِ كلِّ ألوانِ الخيرِ في النّفوسِ، لنعيدَ الجمالَ إلى صورةِ الدّينِ، ولنكونَ خيرَ ممثلينَ لرسالاتِ السّماءِ، منَ الذينَ يسعونَ للتّعبيرِ عنْ حقيقةِ الإيمانِ بالحبِّ والرّحمةِ والعدلِ، لتكونَ العلاقاتُ بينَنا على الصّورةِ التي أرادَها اللهُ.
نحنُ على اطمئنانٍ بأنكم سوفَ تكونونَ على قدرِ هذهِ المسؤوليّةِ الإيمانيّةِ. إنَّ التّعايشَ تجربةٌ... وإنْ شاءَ اللهُ، أنتم موفقونَ في إنجاحِ هذهِ التّجربةِ... فلا تنساقوا إلى كلِّ دعواتِ الانقسامِ والتّحريضِ التي يسعى إليها البعضُ ويحاولُ تسويقَها... كونوا دائمًا صمّامَ أمانٍ للوحدةِ والتّعايشِ، واعملوا على تحصينِ أنفسِكم، لتكونَ منيعةً في مواجهةِ كلِّ من يسعى إلى نقلِ أمراضِ المجتمعِ في هذا البلدِ، وخصوصاً الطّائفيّةَ بمعناها العصبيِّ والمنغلقِ، إلى صفوفِكم، ليأخذوكم إلى هذا الموقعِ أو ذاك، تحتَ عناوينِ الغبنِ والخوفِ... وهيَ عناوينُ وإنْ حملَت في بعضِ مراحلِ تاريخِنا قدراً منَ الحقِ، فإنها الآنَ في كثيرٍ منْ أوجِهها لا تحملُ إلا مطامعَ خاصةً أو طموحاتٍ غيرَ مشروعةٍ.
إنَّ واجبَكم الإيمانيَّ والإنسانيَ يقتضي منكم أنْ تقفوا جنباً إلى جنبِ في النوائبِ والمصائبِ... فإذا لم نقدمْ في هذا البلدِ الصورةَ التي عليها أديانُنا وقيمُنا، فتعصَّبنا وتنازَعنا، فقدموا أنتم النموذجَ والقدوةَ في تعزيزِ التواصلِ والتكافلِ والوحدةِ بينكم."
وتابع " إنّ في المجتمعاتِ التي تعيشونَ فيها الكثيرَ منَ القيمِ التي يمكنُ أنْ نستلهمَها لنعززَ مواقعَنا الإيمانيةَ والإنسانيةَ في مواجهةِ كلِ ألوانِ التطرفِ. أقولُ هذا وأنا أستحضرُ ما حدثَ في نيوزيلندا حينَ وقفَت، دولةً وحكومةً وشعباً، لتحتضنَ المسلمينَ بعدَ الحادثِ الإرهابيِ الذي استهدفَ المصلينَ في المساجد.
ما حدثَ في هذا البلدِ درسٌ لنا جميعاً، مسلمينَ ومسيحيينَ، في كيفيةِ إضعافِ أعداءِ التعايشِ، وعزلِ التطرفِ والإرهابِ وإضعافِه، وتعزيزِ الإخوةِ والمحبةِ بينَ أهلِ الأديانِ وأبناءِ الوطنِ الواحدِ... وأنْ نبدلَ أساليبَنا وردودَ أفعالِنا التي تزيدُ الأمورَ سوءاً عندما نتعرضُ لأشياءَ مماثلةٍ.
أنْ ترتديَ السيدةُ الأولى في نيوزيلندا الحجابَ، وهو رمزٌ للإسلامِ والمسلمينَ... أنْ تظهرَ مذيعاتُ التلفزيونِ الرسميِ باللباسِ ذاتِه... أنْ يُبثَ الأذانُ وشعائرُ صلاةِ الجمعةِ مباشرةً على جميعِ وسائل ِالإعلامِ النيوزيلنديِة، فهذا أمرٌ ليسَ عادياً، بما يحملُه من رموزٍ ودلالاتٍ.
إنَّ مثلَ هذا المشهدِ يظهرُ كيفَ يمكنُ للتضامنِ أنْ يتعززَ، وللتعايشِ أنْ يترسخَ، ليسَ بالكلماتِ فحسب، بل بالمواقفِ أيضاً، ليكونَ ما حدثَ في نيوزيلندا منْ أهمِ الرسائلِ التي تعبرُ عنْ أرقى أنواعِ التسامحِ واحترامِ الآخرِ، والتي تؤسسُ لتعايشٍ راسخٍ ووحدةٍ وطنيةٍ صلبةٍ."
وختم سماحته " إنَّ منْ واجبِنا أنْ نتمثلَ كلَّ هذه القيمِ الّتي تشكلُ جوهرَ أديانِنا السماويّةِ، والتي توجبُ علينا أنْ نتضامنَ مع كلِ مقهورٍ ومظلومٍ، أنْ نحتضنَ بعضَنا بعضاً، وأنْ نقفَ في مواجهةِ كلِّ متعصبٍ وحاقدٍ ومعتدٍ، أنْ نعملَ على تعميمِ مثلِ هذه الصورِ الإيمانيةِ والإنسانيةِ، لنبعثَ في الإنسانِ روحَ المحبةِ في نفسِه... والاعترافَ للآخرِ بحريتِه وكرامتِه وإيمانِه... فبذلكَ نثبتُ التعايشَ.
حمى اللهُ لبنانَ وحفظَه من كلِ الذينَ يعبثونَ بهِ في الداخل، ويكيدونَ لهُ في الخارجِ، ليبقى لكلِ أبنائِه واحةَ أمانٍ، وللخارجِ محطَّةَ محبةٍ وسلامٍ."
ابي المنى
الشيخ سامي ابي المنى تحدث في كلمته عن التعايش والتأقلم والتكيف في العيش مع الواقع وقال :
" إذا كان التعايش يعني التأقلُّم والتكيُّف في العيش مع الواقع، بما يعنيه هذا التأقلم والتكيُّف من احترام والتزام وطمأنة واطمئنان، وإذا كان العيش المشترَك يعني العيشَ معاً بمشاركة وشراكة وتقاسم الأفراح والأتراح وهموم الحياة وقضايا المجتمع والوطن والإنسانية، وإذا كان في التعايش اشتراكٌ في تحمُّل أعباء الحياة لا بدَّ منه، أكان عن قناعةٍ أم عن ضرورة، وفي العيش المشترَك تعايشٌ لا بدَّ منه، أي تأقلمٌ وتكيُّف، وفيه أيضاً تفاعلٌ وتكاملٌ واندفاعٌ إلى صيانة البناء المشترَك، فالعيش الواحد يحملُ معنى الاعتراف الضمني بأنَّ العيشَ هو هو للجميع، وبأنَّ كلَّ ما في الحياة الاجتماعية والوطنية واحدٌ لا فرق فيه، إذ لا فرق في العيش بين إنسانٍ وآخر وبين طائفةٍ وأخرى، فالجميع متساوون وموحَّدون، وما يصيب الواحد منهم أو الجماعة يصيب الآخر والجماعة الأخرى باعتبار الجميع واحدٌ.
أمَّا لماذا نميل إلى التأكيد على العيش الواحد فلأنه يشملُ العيشَ المشترك والتعايش ويتغذّى منهما، فبقدر ما يكون هناك تعايشٌ، أي تكيُّفٌ فعلي، وبقدر ما يكون هناك عيشٌ مشترَك، أي شراكةٌ قويَّة، بقدر ما يتحقَّقُ العيشُ الواحد ويرتقي المواطنون وأبناء المجتمع في وحدتهم."
وأضاف "لا يتحقّق العيش الأفضل في بلدٍ متنوِّع الطّوائف والمذاهب والاتّجاهات، كما هي الحال في لبنان، إلَّا بالارتقاء بالتّعايش المفروض والحتميّ بين أبنائه إلى مستوى العيش المشترَك الّذي لا شرعيّة لأيّ سلطةٍ تناقض ميثاقَه المنصوص عنه في الدّستور، ولا يمكن تحقيق الغاية الفضلى هذا العيش المشترك إلَّا بالارتقاء بمفهومه إلى مستوى العيش الواحد الموحَّد، الّذي تغيب معه كلُّ أسباب الخلاف والصّراع والتّنافس السّلبيّ.
لقد خَبرنا في مجتمعاتنا المتنوّعة، وفي مناطقِنا كافّة، وعلى الأخصِّ في منطقة الجبل، كلَّ أنواع التّدخلّات والتّحدّيات والصّراعات، السّياسيّة منها والدّمويّة، واكتشفنا وتأكَّدنا بما لا يقبل الشّكّ، أنَّ التّعايشَ هو الدّليلُ نحو السّلام، والعيشَ المشترَك هو أفضلُ السُّبُل لتحقيق السّلام، والعيشَ الواحدَ هو السّلام بحدِّ ذاته، بحيثُ تنتفي عنده الحاجةُ إلى خوض حروب الإلغاء والهيمنة وتحصيلِ الحقوق المغتصبة بالقوَّة.
فالعيش الواحد يعني عيشَ المحبّة الصّافية والأخوَّة الحقيقيّة، حيث لا طمع لأحدٍ بالآخر، ولا كراهيّةٌ، ولا اعتداءٌ على حقٍّ أو كرامة، إذ إنَّ الحياة الاجتماعية تحتِّم على الإنسان التواصل مع أخيه ونظيره الإنسان، والعيش في عالَمٍ متداخل بحاجة دائمة إلى تواصل وتعاون بين المجتمعات والدّول أيضًا، حيث لا يُمكنُ للإنسان أن يعيش منعزلاً، لكونه كائنًا اجتماعيًّا، كما لا يمكن للمجتمعات والدّول أن يستغنيَ بعضُها عن بعض."
وعن التحدّيات الّتي تواجه العيش المشترك قال "ممّا لا شكّ فيه، أنّ هناك تحدّياتٍ كثيرةً في أوطاننا تواجه العيشَ المشترك، منها تحدّياتٌ سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة ودينيّة، وإذا كان من الممكن أن يؤلّف الدّين عنصرًا مكوِّنًا للتّوتّر، فما علينا إلّا أن ننزع فتيله لكي يبقى رابطًا روحيًّا ورجالُه دعاةَ سلام وأتباعُه مواطنين صالحين، فمبدأ العيش المشترك هو جزءٌ من الإيمان الإسلاميّ وكذلك من الإيمان المسيحيّ، والحوار هو الطّريق الوحيد لتحقيق هذا العيش ولجعل أيِّ بلدٍ صعبٍ ممكنَ التّحقيق، والتّعايش يبقى مجرّدًا من المعنى إذا لم يقترن بإجراءات عمليّة مستمرَّة، تحوّله إلى عيشٍ واحدٍ موحَّد، من خلال المصارحة في التّعاطي والصّدق في المعاملة، وفق المبدأ المعتمَد لدى أهل الحوار والقائل بـ: "القبول بالمشترَك والتّعاون على أساسه، والإقرار بالمختلف والحوار في شأنه"، لأنَّ الحوار هو سبيل العيش المشترك، وهذا العيش لا يُمكن أن يتحقّق سليمًا إلّا إذا بُني على قواعد إنسانيّة ووطنيّة مشتركة."
وختم أبي المنى "هذه هي منطلقاتُنا، وتلك هي رسالتُنا، كموحِّدين، وكمسلمين ومسيحيّين، فالحياةُ الأفضلُ الّتي نتوقُ إليها هي تلك الّتي تُحفظ فيها كرامة الإنسان أيَّا كان، والّتي يتساوى فيها الجميع في الوطن والإنسانيّة في الحقوق والواجبات الأساسيّة، وإن اختلفت أديانُهم ومذاهبهم ومناطقهم وإمكانيّاتُهم، بحيث لا يكون هناك فضلٌ لامرئٍ على آخر إلَّا بالتّقوى، وبما ينفعُ به عيالَه ومجتمعَه ويفيد وطنه والعالَمَ من حولِه بما تقتضيه تلك الحياةُ الفُضلى وذلك العيشُ الواحدُ من تعايشٍ وعيشٍ مشترَكٍ، ولنا في أدياننا أسمى الآيات والمبادئ والسُّنَن الّتي تحثُّنا وتساعدُنا على بلوغ الغاية من وجودنا وتحقيق إنسانيّتِنا الّتي هي غايةُ الغايات."
المنسّق العامّ لشبكة الأمان للسّلم الأهليّ المحامي عمر زين، شدّد في كلمته على دور الأدب والشّعر، في توطيد الصّيغة اللّبنانيّة، وتكريس مبدأ المواطنة، وقال :
"في أزمات الوطن الكبرى، وعند المنعطفات المصيريّة الخطيرة، كما هي الحال في لبنان، وبعد أن فشلت السّياسة المشوهة الرّعناء في رأب الصّدع ومعالجة الدّاء العياء، وكانت هي بالذّات من أبرز أسباب ما يتخبّط به البلد، وفي هذه الأجواء المكفهرة، يرى المخلّصون من أبنائه، الخائفون صدقًا على المصير. أنّ من أولى واجباتهم البحث الدّؤوب المستنير عن كلّ الوسائل والعوامل الإيجابيّة الّتي من شانها تأمين الخروج من هذه الأزمات المتمادية إلى نعمة الاستقرار والأمن من جهة، وإلى تحقيق السّلم الاجتماعيّ بكافّة وجوهه من جهة ثانية. ويطرح في هذا المجال دور الأدب والشّعر، في توطيد الصّيغة اللّبنانيّة، وتكريس مبدأ المواطنة، وضرورة التّعايش واحترام الحرّيّات الدّينيّة من أجل حياة أفضل.
قد يبدو السّؤال غريبًا في زمن الغربة عن ضوء الكلمة وأنوار الإبداع، وبخاصّة لدى الغرباء عن تاريخ الشّعر والأدب، وما أنجزاه في حياة كثير من الدّول والأمم، وإطلاق ثورات التّحرّر فيها، حتّى انهيار أنظمة الفساد والطّغيان.
ولم يكن لبنان بعيدًا عن هذا الغنى الحضاريّ، بل كان خزّان الشّعر والأدب الّذي يفيض على الكون هدى ونورًا، وهل مجد لبنان إلّا ريشة فنّان ويراعة شاعر، وصدق الأخطل الصّغير يردّد:
وإنّي لمن معشر لولا يراعتهم ما كان لبنان غير الماء والطّين.
واسألوا زحلة، عبقر الشّعر ومدينة الفنّ والأدب الّتي هام بها أمير الشّعراء شوقي، والّتي جسّدت في تاريخها البعيد والقريب أساطير الإبداع اللّبنانيّ، وأطلقت هنا وفي القارّات كافّة كبار الشّعراء، وصنّاع مجد الكلمة الّذين أدهشوا العالم بروائع الشّعر، وسحر الفنّ والبيان، في سلسلة من العمالقة لا تنتهي بالمعالفة عيسى وشفيق وفوزي ورياض، وتستمرّ بسعيد عقل وميشال طراد وفرحات والصّايغ وآخرين مستمرّين وقد ساهموا وأضافوا إلى الأدب المهجريّ في الرّابطة القلميّة، والعصبة الأندلسيّة، وديار الاغتراب ما أثرى هذا الأدب، وجعل اللّبنانيّين المغتربين أشدَّ تمسّكًا بالوطن الأمّ وبوحدته، وجعل لبنان على صغر حجمه بحجم الكون. وأملنا أن تستمرّ هذه المدينة نموذجًا في الإبداع وفي العطاء المميّز.
ومن هنا يا سادة، فلا يستغربنَّ أحد قدرة هذين السّاحرين الشّعر والأدب في خلقٍ مناخات مؤاتية وفاعلة في توطيد التزام اللّبنانيّين بميثاق الصّيغة اللّبنانيّة الّتي تأبى زوالاً على الدّهر، وفي ترسيخ دعائم العيش الواحد لشعب واحد، وفي حماية الحرّيّات كافّة بما فيها الحرّيّة الدّينيّة، ذلك إنّ صوت الشّاعر هو أعلى الأصوات في ضمير الشّعب، وهو الأقدر والأدرى بمسالك التّأثير فيه".
وختم "إنّنا في المنسقيّة العامّة لشبكة الآمان للسّلم الأهليّ نثمّن عاليًا الدّور الّذي يلعبه سيادة المطران عصام يوحنّا درويش في العمل على تعميم ثقافة المواطنة والسّلم الأهليّ، ونعلن أنّنا أخذنا عهدًا على أنفسنا أن تتفاعل أفكارنا في حوارات دائمة مع كلّ الجهات المهتمّة بالحوار والسّلم الأهليّ والمواطنة، وحمل رسالة المحبّة في لبنان المقيم والمغترب كي ننتج مجتمعًا راقيًا في لبنان والعالم العربيّ يحمل رسالة الإنسانيّة في احترام الرّأي والرّأي الآخر مع حرّيّة التّعبير والمعتقد.
ومن أجل ذلك كان التّعاون وثيقًا بيننا وبين ملتقى الأديان والثّقافات للتّنمية والحوار وبصورة دائمة، إلى جانب نشاطات اللّقاء التّشاوريّ الّذي يعقد شهريًّا متنقلاً بين كلّ المحافظات اللّبنانيّة تحت مظلّة ورئاسة سماحة العلّامة المرجع السّيّد علي فضل الله.
واليوم نحن في هذه الفعاليّة الّتي نقيمها مع اللّجنة الأسقفيّة للحوار المسيحيّ الإسلاميّ ونادي الشّرق للحضارات، فلجهودهما كلّ الثّناء والتّقدير، هذا وسنشترك في بناء أوثق العلاقات مع الجامعات والمنتديات الفكريّة والثّقافيّة في لبنان المقيم والمغترب خدمة لإنسانيّة الإنسان ولتعميم ثقافة مناهضة العصبيّة، والمذهبيّة، والطّائفيّة، والعنف والإرهاب، وبناء الإنسان اللّبنانيّ المناهض للعدوّ الصّهيونيّ الّذي يمارس جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة ويحتلّ أرضنا ويمارس إرهاب الدّولة."
سكّر
الكلمة الأخيرة كانت للمهندس جوزف سكّر، تحدّث فيها عن شوق المغتربين إلى وطنهم الأمّ ودورهم في تعزيز مناخات السّلم والحوار فيه، وتأييدهم لأن يكون لبنان مركزًا لحوار الحضارات في العالم.
وكانت مداخلة للشّيخ محمّد فوعاني عرض فيها وجهة نظره من التّعايش، داعيًا الجميع إلى التّلاقي والتّعاون في سبيل الخير العامّ.
وفي نهاية اللّقاء قدّم المهندس سكّر دروعًا تكريميّة إلى المطران درويش والعلّامة فضل الله والشّيخ أبي المنى والمحامي زين.