لبنان
26 آب 2024, 05:40

"أناسٌ كثيرون فقدوا معنى الخطئية لإقصائهم الله عن حياتهم": البطريرك الراعي

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، البطريرك المارونيّ، يوم الأحد، الخامس والعشرون من آب/أغسطس 2024، بالقدّاس الإلهيّ في كنيسة الصرح البطريركيّ في الديمان، عاونه فيه النائب البطريركيّ العامّ ولفيف من الآباء الكهنة بحضور حشد من المؤمنين.

 

كانت للبطريرك الراعي كلمة من وحي الإنجيل بحسب القدّيس لوقا الفصل السابع متأمّلًا في الآية "مغفورة لها خطاياها الكثيرة لأنّها أحبّت كثيرًا" (لو 7: 47)

 

قال البطريرك الراعي: "إيمان وحبّ وتوبة. ثلاثة مترابطة يعلّمها الربّ يسوع في حادثة الإنجيل. إمتدح يسوع إيمان المرأة الخاطئة وحبّها وتوبتها، وبادلها حبّها بغفران خطاياها وحبّ أكبر.

آمنت المرأة بيسوع، وأدركت أنّه قادر على أن يغفر خطاياها ويشفيها، لكي تبدأ حياة جديدة. ولهذا قصدته في بيت سمعان الفريّسيّ. إستعدّت للتوبة، وقصدته بحبّ وثقة".

أضاف البطريرك: "لقد قامت تلك المرأة بمبادرة تعبيريّة مزدوجة، غنيّة بالمعاني:

أ- المبادرة الأولى: وقفت باكية عند قدمَي يسوع تبلّلهما بالدموع. هذه علامة انسحاق القلب والندامة. ندمت عن حياتها الماضية وعن الخطايا التي شوّهتها. بكت على حالها وماضيها، وأسفت وقرّرت تغيير مجرى حياتها. وبكت خجلًا على ما فعلت، وفي قلبها إيمان بأنّ يسوع سيتفهّمها ويغفر لها. الندامة هي هذا الانسحاق في القلب والأسف على الحالة السيّئة وفي طيّاتها قرار حاسم بتغيير مجرى الحياة.

ب- المبادرة الثانية: راحت تنشّف قدمي يسوع بشعرها وتقبّلهما وتدهنهما بالطيب. هذه علامة حبّها الكبير ليسوع، وهي جعلت حبّها له فوق كلّ الأشياء والأشخاص. أمّا يسوع فبادرها بغفران خطاياها قائلًا (لو 7: 49-50)".

أضاف البطريرك: " تساءل الجالسون إلى مائدة سمعان الفرّيسيّ في أنفسهم: "من هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضًا؟" (لو 7: 49).

يسوع الكاهن الأزليّ، الإله الذي صار إنسانًا، له سلطان ليغفر الخطايا. لكنّ الحاضرين لم يكونوا يعرفون يسوع إلهًا متجسّدًا. صحيح أنّ الله وحده يغفر الخطايا، كما أقرّ مرّة علماء الشريعة، قبلًا (مر 2: 5-7). هذا الإقرار مهمّ بحدّ ذاته وأساسيّ، لأنّه أوّلًا إقرار بالخطيئة، التي فقد معناها كثيرٌ من الناس، حتّى أنّهم لا يقرّون بها، على الرغم من الشرور والاعتداءات على الله والإنسان التي يقترفونها، وعلى الرغم من مخالفة وصايا الله المتمادية والمتكرّرة. والسبب هو أنّهم فقدوا معنى الله، لدرجة إقصائه عن حياتهم، وعدم الاعتراف بأنّه وضَع للبشر، كلّ البشر، وصايا ورسومًا لاتّباعها في حياتهم".

أردف البطريرك: "بما أنّ يسوع هو ابن الله، يقول عن نفسها "ابن الإنسان له السلطان ليغفر الخطايا على الأرض" (مر 2: 10). وهكذا مارس سلطانه الإلهيّ بقوله للمخلّع (مر 2: 5)، وللمرأة الخاطئة (لو 7: 48).

وبقوّة سلطانه الإلهيّ، أعطى الربّ يسوع سلطان الحلّ من الخطايا للبشر الذين أقامهم في الكهنوت لكي يمارسوه باسمه. فليلة قيامته من بين الأموات، وقد أجرى بموته على الصليب فداء الجنس البشريّ، وبثّ الحياة الجديدة بقيامته، أعطى رسله كهنة العهد الجديد هذا السلطان باسمه: "خذوا الروح القدس: من غفرتم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنع عنه" (يو 20: 22-23).

إنّ أعظم ما ترك لنا الربّ يسوع هو المصالحة. ففي بيت سمعان الفرّيسيّ تمّت مصالحة المرأة مع ذاتها ومع الله بمغفرة خطاياها، ثمّ مع الجماعة الحاضرة في البيت. فكانت نتيجة المصالحة السلام: "إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام" (لو 7: 50)".

أضاف البطريرك: "المصالحة هي حاجة مجتمعنا اللبنانيّ، فمعها تنتهي حرب المصالح الشخصيّة التي هي أخطر من الحرب المسلّحة. المصالحة تبدأ مع الذات بترميم العلاقة مع الله، وبتغيير المسلك والموقف والنظرة؛ وترتقي إلى مستوى المصالحة الاجتماعيّة بحلّ الخلافات والنزاعات وسوء التفاهم. ثمّ تنتقل إلى المصالحة السياسيّة بإعادة بناء دولة الوحدة الوطنيّة ودولة الحقّ والقانون الصالحة والعادلة. وتبلغ كمالها بالمصالحة الوطنيّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة يسهر على الوحدة الوطنيّة، ويحمي الدستور والميثاق، ويحصّن العيش معًا ومشاركة الجميع العادلة والمنصفة والمتوازنة في إدارة شؤون البلاد العامّة".

ثمّ استسمح البطريرك الراعي سامعيه أن يتكّلم ولو مرّة واحدة مارونيًّا منطلقًا من إقصاء الموارنة عن إدارة الدولة بدءًا بعدم انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، مرورًا بالوضع "المرحلة الذهبيّة" الذي تمتّع به لبنان لمّا كان زمام الحكم في يدهم إن على صعيد العلاقات بين الطوائف الإسلاميّة و المسيحيّة أو بين لبنان والعالم العربيّ أو بين لبنان والعالم الإسلاميّ وامتدح الصيغة الميثاقيّة بما فيها من سماحةٍ في التطبيق وبساطةٍ في التعايش وحرّيّة في الممارسة العامّة. ثمّ أعاد إلى الذاكرة كيفيّة تعامل رؤساء الحكومة اللبنانيّة مع الملوك والرؤساء العرب واستسذكر رؤساء المجلس النيابيّ وحقبة الأمراء المعنيّين فالشهابيّين ودور النخب المارونيّة إلى جانبهم . وذكر دور الموارنة في مجالات الوطن المختلفة إبّان السلطنة العثمانيّة، ليلفت إلى أنّ وحدة لبنان لم تهتزّ إلّا عندما أُضعف دور الموارنة وهُمّش.

مع ذلك أضاف الراعي: "تقتضي الموضوعيّة التاريخيّة الاعتراف، بالمقابل، بأنّ قيادات وتيّارات وأحزابًا مارونيّة تتحمّل جزءًا من تراجع المسيحيّين".

ختم البطريرك قائلًا: "لنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل المصالحة الروحيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، لمجد الله تعالى الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".