يونان في رسالة الميلاد: ما بالنا نحن البشر لا ننظر إلى فعل محبّة يسوع؟!
إذا كان كلمة الله قد تواضع وتجسّد ليحرّرنا من ربقة الخطيئة، فما بالنا نحن البشر لا ننظر إلى فعل محبّته هذا ونعكسه على تصرّفاتنا وعلاقاتنا ببعضنا البعض، كلّ منّا حسب الدّعوة الّتي دعي إليها، وخاصّة المسؤولين المدنيّين عن مصير شعوبنا ودولنا، والّذين تولّوا المسؤوليّة وتبوّأوا مناصبها لخدمة الشّعب. فإذا بهم غالبًا ينسون الشّعب وهمومه ويتلهّون بصغائر الأمور.
فليس من المقبول في لبنان مرور أكثر من ستّة أشهر على إنجاز الانتخابات النّيابيّة من دون أن يتمكّن دولة الرّئيس المكلّف من تشكيل حكومته، رغم اتّفاقه مع فخامة رئيس الجمهوريّة على العناوين العريضة لهذه الحكومة، فيما الشّعب اللّبنانيّ يرزح تحت وطأة الأعباء المعيشيّة اليوميّة الصّعبة الّتي تهدّد دورة الحياة الاقتصاديّة في وطننا بالانهيار التامّ، فضلاً عن التّحدّيات والتّهديدات الأمنية الّتي يواجهها لبنان وسط محيط إقليميّ يسوده التّوتر الشّديد. لذا نرفع الصّوت مطالبين جميع المسؤولين أن يتحمّلوا تبعة تقاعسهم وعرقلتهم تشكيل الحكومة وما يترتّب على ذلك من مخاطر جسيمة تطال الوطن برمّته، فيقوموا بإتمام التّشكيل في أقرب وقت لتكون الحكومة الجديدة بمثابة هديّة عيد الميلاد للوطن وشعبه.
وكما يلاحظ الكثيرون، ها هو عيد ميلاد الرّبّ يسوع يحلّ ثقيلاً على المواطنين الّذين، بدل أن يحتفلوا به بالفرح والرّجاء الّذي لا يخيب، نراهم يعملون ويكدّون للحفاظ على وظائفهم وأعمالهم، كي يؤمّنوا الاحتياجات الأساسيّة لمنازلهم وعائلاتهم. هذا الوضع يكاد لا يحتمل! وتأتي أزمة النّزوح لتزيد من معاناة شعبنا، حتّى بتنا أمام صورة قاتمة لا يمكن أن يضيء ظلمتها سوى التّمسّك بإيماننا ورجائنا بطفل المذود الإلهيّ الحامل معه الفرح والطّمأنينة إلى قلوب المؤمنين. وفيما نشكر الدّولة اللّبنانيّة بكلّ مكوّناتها على استقبال النّازحين من بلادهم في سوريا والعراق رغم المصاعب الاقتصاديّة التي يعانيها لبنان، نشدّد على ضرورة عودتهم إلى أرضهم ووطنهم من أجل المحافظة على حقوقهم المدنيّة وعلى حضارتهم وثقافتهم.
وإلى الطّفل الإلهيّ نبتهل كي ينير درب القيّمين على هذا الوطن، فيجعلوا من الإنسان اللّبنانيّ أولويّتهم، ومن مصلحة وطنهم، أرضًا وبيئة واقتصادًا، هدفًا أساسيًّا لإعادة بناء لبنان وطنًا سليمًا معافى، اقتصاديًّا وبيئيًّا واجتماعيًّا.
وما يمرّ على لبنان، لا يختلف كثيرًا عما تعانيه سوريا منذ أكثر من سبع سنوات، يوم عصفت يد التّدمير في الوطن ومؤسّساته، وتشتّت الشّعب في أصقاع العالم. ولا يمكننا إلّا أن نعبر عن ارتياحنا للتّحسّن الملموس الّذي طال معظم المدن والمحافظات السّوريّة، وقد لمسنا الجهود الحثيثة الّتي تبذلها السّلطات الرّسميّة بالتّعاون مع المؤسّسات العامّة والخاصّة، من أجل أن يستتبّ الأمان على كامل أرض الوطن، وتتمّ إعادة إعمار ما هدمته يد التّطرّف والإرهاب الّتي عبثت بأمن الوطن وسلامه، فتنهض سوريا من كبوتها، ويرجع إليها من يستطيع من المواطنين الّذين اضطرّوا مرغمين أن يهاجروا. وهكذا تستكمل مسيرة إعادة بناء سوريا، مسيرة انطلقت وملؤها الرّجاء لتحقيق ما يستحقّه الشّعب السّوريّ الأبيّ.
أمّا العراق، فقد مرّ عامان على دحر داعش والتّكفيريّين وتحرير الموصل وسهل نينوى من إرهابهم، وانتخب الشّعب مجلسًا نيابيًّا جديدًا بدأ بتشكيل الحكومة الجديدة الّتي يتمّ العمل حاليًّا على الانتهاء من تأليفها، وستنتظرها مهام متشعّبة وصعبة، أبرزها توفير الأمان والاستقرار في كامل أنحاء العراق، وخاصّة لشعبنا المسيحيّ في بغداد والبصرة والموصل وسهل نينوى، حتّى يبقى وجودنا حرًّا وفاعلاً، إذ أنّ دورنا الّذي بدأ مع نشأة بلاد الرّافدين يجعل منّا نقطة التقاء مختلف مكوّنات الشّعب العراقيّ. وهكذا يعمل الجميع سويّة ويدًا بيد لإعادة العراق إلى مصاف الدّول الكبيرة الآمنة والمتطوّرة، حيث تتوفّر الحرّيّة وقبول الآخر واحترامه مهما اختلف بالعرق والدّين واللّغة، ممّا يساهم بعودة كثيرين ممّن أرغمتهم ظروف المعاناة والاضطهادات وأعمال العنف والاقتلاع على مغادرة أرضهم إلى بلاد أخرى. وإنّنا نناشد المسؤولين في الدّولة العراقيّة، وقد التقيناهم مؤخّرًا مع إخوتنا بطاركة الشّرق الكاثوليك، أن يسعوا بجدّ لتثبيت حقوق شعبنا، فتأتي عودته ثابتة ومستمرّة، ويسهم في ترسيخ دعائم الوحدة الوطنيّة والسّلم الأهليّ.
أمّا أبناؤنا وبناتنا في الأردنّ، فيسرّنا أن نعلّمهم أنّنا باشرنا إجراءات الاستحصال على اعتراف المملكة الأردنيّة الهاشميّة بطائفتنا ككيان دينيّ مستقلّ، ما يفعل وجود كنيستنا في المملكة ونشاطاتها الرّوحيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة. وفي هذا الإطار، نجدّد شكرنا للجهود الّتي يبذلها المسؤولون في المملكة لخدمة أبناء شعبنا المهجّرين والنّازحين القادمين إليها من سوريا والعراق.
كما نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في الأراضي المقدّسة، ونصلّي معهم ليحلّ الطّفل الإلهيّ المولود في بيت لحم أمنه وسلامه في تلك الأرض الّتي تباركت بتجسّده في سبيل خلاص البشريّة. كما نجدّد رفضنا كلّ الممارسات الّتي تسبّب الصّراعات وتبعد الأمل بإحلال السّلام في الأراضي المقدّسة، ومنها القرار بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارات بعض الدّول الأجنبيّة إليها، لما في ذلك من تحدّ للإرادة الدّوليّة الّتي تدعو إلى إنهاء الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ، وتفعيل حلّ الدّولتين، وتأمين حقّ الدّيانات الثّلاث بأماكنها المقدّسة.
ونؤكّد تضامننا الكامل مع إخوتنا وأبنائنا المسيحيّين في مصر، والّذين يتعرّضون لشتّى أنواع التّهديدات وأعمال العنف والإرهاب. ونثمّن مواقف الرّئيس والحكومة المصريّة في العمل على تخفيف وطأة الخطاب الدّينيّ المتطرّف، لما فيه خير مصر وأهلها واستقرار مستقبل شعبها.
ونتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار في أوروبا وأميركا وأستراليا، ونحثّهم جميعًا على التّمسّك بالإيمان بالرّبّ يسوع، والافتخار بكنيستهم وأوطانهم والإخلاص لها أينما كانوا، وعلى تربية أولادهم على محبّة الله والكنيسة والوطن، غير ناسين ضرورة الحفاظ على تراث آبائهم وأجدادهم في بلاد نشأتهم في الشّرق، ليكونوا جميعًا على الدّوام شهودًا لنور الميلاد وسلامه أينما حلّوا.
تصادف هذا العام الذّكرى السّبعين لتوقيع الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الّذي كان للبنان دور أساسيّ في صياغته من خلال مقرِّر لجنة الصّياغة شارل مالك، الّذي انطبعت أفكاره في هذا الإعلان، والّذي انفرد بوضع مقدّمته، حيث شدّد على حقوق البشر المتساوية بالحرّيّة والعدل والسلام. وقد أكّد هذا الإعلان على أنّ البشر يولدون أحرارًا متساوين في الحقوق والواجبات، وفي طليعتها حرّيّة الضّمير والمعتقد، والّتي يضمنها فصل الدّين عن السّياسة والحياة العامّة. وكم نحتاج في شرقنا المعذّب لتطبيق مبادىء هذه الشّرعة وأحكامها، بدل التّطرّف ورفض الآخر الّذي بات شعار مختلف المجتمعات ومعظم التّيّارات السّياسيّة والدّينيّة".
وفي كلمته الرّوحيّة، تحدّث البطريرك يونان عن تجسّد الطّفل يسوع المسيح، كلمة الله، وتواضعه وحلوله بين البشر ليخلّصهم ويرفعهم إليه، منوّهًا أنّ التّواضع هو نهج الطّفل الإلهيّ، وهو السّبيل لمعرفة الله وإدراك سرّ حبّه، وعلامة حضوره في حياة المؤمن، متوجّهًا بالتّهنئة إلى المسيحيّين والعالم بعيد الميلاد المجيد وبحلول العام الجديد.