لبنان
21 نيسان 2025, 07:05

يونان في رسالة الفصح: قيامتك رجاؤنا

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان رسالة عيد القيامة بعنوان "قيامتكَ رجاؤنا"، قال فيها:

"إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام

وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل،

وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب

اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في بلاد الشرق وعالم الإنتشار

نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:

"ܩܝܳܡܬܳܟܣܰܒܪܰܢܗ̱ܝ"

قيامتكَ رجاؤنا"

1. مقدّمة

يسرّنا، ونحن نستهلّ رسالتنا بمناسبة عيد قيامة الرب يسوع من بين الأموات، أن نتقدّم بالأدعية الأبوية والتهاني القلبية والتمنّيات الخالصة بهذا العيد المجيد، إلى جميع إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين، اللائذين بكرسينا البطريركي الأنطاكي، في لبنان وسوريا والعراق وبلدان الخليج العربي والأراضي المقدسة والأردن ومصر وتركيا، وفي أوروبا والأميركتين وأستراليا.

وإلى الرب يسوع القائم، نضرع كي يهب عالمنا نِعَمَه وبركاته، ويجزل عليه خيراته وعطاياه، فيمنح الناس الثقة بدل الشكّ، والرجاء بدل اليأس، والطمأنينة بدل الخوف، والمحبّة بدل البغض، وينهي الحروب والنزاعات، وينشر سلامه وأمانه في القلوب والنفوس وبين الأمم، لتنعم الشعوب والمجتمعات والأوطان بالحياة الفضلى والفرح، بروح الألفة والوئام.

2. القيامة أساس إيماننا ومحوره 

لقد غَمَرَ الحزن واليأس النساء حاملات الطيب، فذهبْنَ في الصباح الباكر لزيارة قبر سيّدهنَّ الحبيب يسوع. تبدَّدت آمالهنَّ، فيسوع مات على الصليب ودُفِن. واليوم، في خضمّ المِحَن الكثيرة واليأس الشديد الذي يسود عالمنا، حيث نعاين آثار الدمار والموت، تواصل الكنيسة إعلان رسالة قيامة المسيح، رسالة الفرح والرجاء.

"تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، شَمَلنا بوافر رحمته فَوَلَدَنا ثانيةً لرجاءٍ حيّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات، ولميراث لا يفنى ولا يتدنَّس ولا يضمحلُّ، محفوظ لكم في السماوات" (1بط1: 3-4). قام يسوع المصلوب من بين الأموات! غَلَبَتِ الحياةُ الموتَ وانتصرَتْ عليه! لذلك، بإيماننا ورجائنا، لا ينبغي أن نخاف، ولا أن نيأس عندما نرى ما يحدث في عالمنا اليوم، بل أن نواجِهَهُ بشجاعة. فبرؤية القبر الفارغ، وسماع صوت الملاك، نكتشف، وسط الظلمة المحيطة بنا، حياةً من النور والفرح والمحبّة والتجدُّد.

القيامة هي أساس إيماننا ومحوره، وهي العلامة الساطعة على تدخُّلِ الله في تاريخ بشريتنا. "وإن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطل وإيمانكم أيضاً باطل" (1كور15: 14). قيامة المسيح تعلن انتصاره النهائي على الخطيئة والموت، وتؤكِّد أنَّ الحياة الأبدية ليست مجرَّد وعد، بل حقيقة مُحقَّقة في المسيح. إنَّها تُظهِر قدرة الله العظمى على قلب موازين الحياة والموت وحبّه غير المحدود للبشرية، إذ أرسل ابنه الوحيد ليهبنا حياة جديدة بالنعمة. في هذا الإطار، يذكِّرنا البابا بنديكتوس السادس عشر أنّه "في قيامة يسوع، تَبَيَّنَ أنَّ المحبّة أقوى من الموت، وأقوى من الشرّ. المحبّة هي التي جعلت المسيح يتجسَّد، والمحبّة هي أيضاً القوّة التي بها قام من الموت" (من موعظة قداس عشيَّة عيد القيامة، 7 نيسان 2007).

3. القيامة عربون رجائنا

يتحدّث القديس بطرس في رسالته الأولى عن الرجاء الحيّ. فما هو هذا الرجاء الحيّ؟ هل هو أمنيات؟ أو تفاؤل؟ على مبدأ "تفاءلوا خيراً تجدوه". للكثيرين، الرجاء هو أمنيات بأن يتغيّر الحال وأن تتبدّل الظروف. التمنّي رغبة داخلية غير مؤكَّدة التحقيق، أمرٌ نتمنّاه لكنّنا لا نملك ضماناً لتحقيقه. أمّا الرجاء فهو مبنيٌّ على حقيقة مؤكَّدة، هي قيامة المسيح، والتي تضمن لنا الحياة الأبدية. التمنّي قد يُخَيِّب، لكنَّ الرجاء لا يُخَيِّب أبداً، على حدّ تعبير سفر الأمثال: "لأنّه لا بدَّ من ثوابٍ، ورجاؤكَ لا يخيب" (أم23: 18).

في الإطار عينه، يشير قداسة البابا فرنسيس في الفقرة الثالثة من مرسوم الدعوة إلى اليوبيل العادي لسنة 2025، إلى أنَّ "الرجاء المسيحي لا يخدع ولا يُخَيِّب أبداً" (را. رو5: 5)، وهو نورٌ يقودنا وسط ظلام الحياة. كما يشدّد قداسته على أنَّ "الرجاء ليس مجرَّد شعور أو تفاؤل، بل هو يقينٌ بأنَّ الله أمين لوعوده، وأنّنا لسنا وحدنا في صراعات الحياة". هذا الرجاء ينبع من الإيمان بقيامة الرب ووعوده بالخلاص، فالقيامة تؤكِّد أنَّ لنا الرجاء الحيّ بميراثٍ أبدي لا يزول (را. 1بط1: 3-4). في أوقات المِحَن والصعاب، يمنحنا الرجاء القوّة لمتابعة المسيرة، وهذا ما يعزّينا وسط الأوجاع والتجارب، لأنَّنا على يقين أنَّ الألم ليس النهاية، بل أنّ فجراً جديداً من الحياة السعيدة سيبزغ بعد ليل الألم، إذ أنّه كما قام المسيح، سنقوم معه نحن أيضاً.

وها هو القديس مار يعقوب السروجي يصف بتأثُّر بالغ الرجاءَ الذي عمّ الراقدين إذ حلّ بينهم الرب يسوع فأقامهم وأبهجهم، بعد أن لفّهم ظلام الموت: "ܐܰܘܕܰܘܡܺܝ̈ܬܶܐܠܗܰܘܕܰܫܦܰܪܠܶܗܘܰܗܘܳܐܡܺܝܬܳܐ܆ܘܢܽܘܗܪܳܐܘܚܰܝ̈ܶܐܢܒܰܥܘ̱ܡܶܢܡܰܘܬܶܗܥܰܠܦܰܓܪ̈ܰܝܟܽܘܢ. ܘܟܰܕܥܳܐܶܠܗ̱ܘܳܐܩܪܶܒܘ̱ܘܰܣܓܶܕܘ̱ܠܶܗܐܳܕܳܡܘܚܰܘܳܐ܆ܘܟܽܠܙܰܕ̈ܺܝܩܶܐܘܰܐܒܳܗ̈ܳܬܳܐܕܡܺܝܬܘ̱ܥܰܠܣܰܒܪܶܗ. ܐܰܝܠܶܝܢܕܰܣܥܰܘܒܺܝܫܳܐܘܡܰܘܬܳܐܘܰܐܟܡܰܪܘ̱ܐܶܢܽܘܢ܆ܒܗܳܢܳܐܝܰܘܡܳܐܕܢܰܚܗ̱ܘܳܐܢܽܘܗܪܳܐܘܰܐܦܨܰܚܐܶܢܽܘܢ". وترجمتها: "أيُّها الراقدون أشكروا ذاك الذي حَسُنَ له وأضحى ميتاً، ومِن موته نَبَتَ النور والحياة لأجسادكم. فحين جاء، دنا آدم وحواء وسجدا له، ومعهما جميع الصدّيقين والآباء الذين رقدوا على رجائه، أولئك الذين هاجمهم الشرّير وأحزنهم الموت، فأشرق عليهم اليوم النور وأبهجهم".

4. التلاحم بين القيامة والرجاء 

الرجاء ينبع من القيامة ويرتبط بها ارتباطاً وثيقاً. ليس الرجاء مجرَّد شعور إيجابي، بل هو يَقينٌ مُستندٌ إلى عمل الله، ولا يهدف فقط إلى العزاء، بل يشجّعنا على مواجهة آلام الحياة ومآسيها، والنظر إلى المستقبل بثقة حتّى وسط الظلام. في عالمٍ يعاني من الحروب والظلم، يبقى الرجاء شهادةً على أنَّ الله لا يتخلّى عنّا حتّى "إذا كنّا غير أمناء ظلّ هو أميناً، لأنّه لا يمكن أن ينكر نفسه" (2تيم2: 13).

تذكّرنا قيامة المسيح أنّه، في نهاية المطاف، يسود الله، إله الحياة، على كلّ قوى الخطيئة والموت التي تشوِّه البشر والخليقة وتسعى إلى هلاكهم. القيامة هي مصدر حياة جديدة، تُعيد خلقَ كلّ شيء وتُجدِّدُه في المسيح. وكما أنَّ المسيح لم يبقَ في القبر، هكذا أيضاً لن تبقى الخليقة أسيرة الفساد والموت. القيامة مصدر شفاء واكتمال وتجديد، إنَّها فرحٌ للحزانى، ونورٌ للذين يعيشون في الظلمة، وتحريرٌ للمظلومين، إنَّها تقود البشر إلى الوحدة والمصالحة. تمنح قيامةُ المسيح العالمَ فرصةً ثمينةً لبداية جديدة مليئة بالرجاء، فبعد أن ولج يسوع دنيا الألم، حرّرنا بموته، ودخل مثوى الأموات مانحاً آدم وذرّيته الحياة الأبدية. المسيح قام، فسادت الحياة، نحن إذاً خليقة جديدة بالمسيح (را. ٢كور٥: ١٧).

يؤكّد آباؤنا السريان على هذه الحقيقة الراسخة بنزول الرب يسوع ومكوثه في مثوى الأموات وتعرُّف آدم عليه إلهاً مساوياً للآب السماوي، بصلاةٍ تردّدها الكنيسة: "ܩܪܳܝܗ̱ܝ̱ܡܳܪܰܢܠܳܐܕܳܡ: ܐܳܕܳܡ܆ܠܡܳܢܳܐܒܰܫܝܽܘܠܕܰܡܺܝܟܐܰܢ̱ܬܩܽܘܡ. ܫܡܰܥܐܳܕܳܡܩܳܠܶܗܕܰܒܪܳܐ܆ܘܫܰܪܺܝܕܢܺܐܡܰܪܗܳܟܰܢܳܐ: ܟܡܳܐܒܰܣܺܝܡܩܳܠܳܐܗܳܢܳܐ܆ܘܰܟܡܳܐܚܰܠܝ̈ܳܢܢܶܥܡ̈ܳܬܶܗ. ܕܳܡܶܐܗܳܢܩܳܠܳܐ܆ܠܗܰܘܕܰܩܪܳܢܝ̱ܒܶܝܬܐܺܝܠܳܢ̈ܶܐ". وترجمتها: "دعا ربنا آدمَ قائلاً: آدم، لماذا أنت نائمٌ في الهاوية، قم. سمع آدم صوت الإبن، وبدأ يقول هكذا: ما أجمل هذا الصوت، وما أعذب نغماته. إنّه يشبه ذاك الصوت الذي دعاني بين الأشجار (في الجنّة)".

5. القيامة والرجاء دعوةٌ إلى العيش في نور الرب

القيامة حقيقة تاريخية وعقيدة إيمانية تدعونا لحياة ننعم بها في نور المسيح القائم. بها ننالُ نعمةَ الرجاء الذي يُلزِمنا بالعمل من أجل تحقيق العدالة وإحلال السلام وعيش المحبَّة. نحن مدعوون كي نكون شهوداً للرجاء، متغلّبين على كلّ ما يعترض حياتنا من آلام وصعوبات وتحدّيات. 

يعتبر قداسة البابا فرنسيس في تعليمه "أنَّ المسيحي الذي لا يحمل الرجاء هو كالشجرة التي لا تثمر. يدعونا الرجاء كي نكون "صانعي السلام" (را. مت5: 9)، وكي نحمل النور إلى الأماكن المظلمة في حياتنا وحياة الآخرين. من هنا، وكمؤمنين بالرب يسوع، تمنحنا القيامة رسالةً نحملها إلى العالم. فهي تدعونا لنعيش برؤية مستقبلية، مؤمنين بأنَّ ملكوت الله يتحقَّق تدريجياً من خلال عمل النعمة فينا".

"أنا القيامة والحياة... وكلُّ من يحيا ويؤمن بي لن يموت أبداً" (يو11: 25-26). من كلمات الرب يسوع هذه نستلهم الرجاء ونشارك به الآخرين، ليكونوا جميعاً شركاء في وعد الحياة الأبدية. يدعونا الرب كي نشهد لقيامته من خلال حياتنا اليومية، بالفرح والسلام النابعين من الرجاء. لذا يتوجّب علينا أن نسعى باذلين كلّ جهد ممكن لنضحي آنيةً مختارةً "لسلام الله الذي يفوق كلّ إدراك" (في٤: ٧).

6. صدى العيد في عالمنا اليوم

في خضمّ المآسي والمِحَن التي تعصف بعالمنا اليوم، يبقى يقينُنا راسخاً بأنّ يد الله لا تزال فاعلةً في قلب التاريخ، وأنّ نوره أقوى من كلّ ظلمة. قيامته لم تكن حدثاً عابراً، بل هي حقيقة إيمانية لها وعد الخلاص الإلهي بالحياة الجديدة. لذا، نُجدِّد إيماننا بالقيامة المجيدة، متعالين على الصعوبات مهما اشتدّت، حاملين مشعل الرجاء في قلوبنا، ورافعين صلاتنا إلى الرب القائم من بين الأموات، كي يفتقد أوطاننا برحمته، ويقيم شعوبنا من أوجاعها إلى رجاءٍ جديد.

في لبنان، نسأل الرب أن يشرق بقيامته المجيدة على هذا الوطن الذي لا يزال يعاني الأزمات المتفاقمة، أمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فينهض نحو قيامة وطنية شاملة من ظلمات الانهيار إلى نور الرجاء. نجدِّد مطالبتنا أن تُعاد ودائع الناس والمؤسَّسات المسلوبة في المصارف منذ سنوات، بإجراء تعسُّفي هدّد ويستمرّ بتهديد أسس الدولة وكرامة المواطن، ممّا يُفاقم من مشاعر الإحباط وفقدان الأمل لدى فئة الشباب الذين توسَّموا الخير بانتخاب فخامة الرئيس العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وبتشكيل حكومة جديدة واعدة للنهوض بالبلد والقيام بالإصلاحات الضرورية في القطاعات كافّةً.

وفي هذا السياق، لا بدَّ من التأكيد على ضرورة العودة إلى منطق الدولة العادلة، الجامعة، الضامنة للحقوق، والمبنيَّة على أسس الشراكة الحقيقية والتمثيل المتوازن والمحاسبة والشفافية، والتي لها وحدها الحقّ أن تحمل السلاح، كما أعلنت الحكومة في بياناتها، وتفرض سيادة القانون، واحترام الإنسان، أيّاً كان انتماؤه وطائفته ومذهبه. وهنا لا يسعنا إلا أن نجدِّد استنكارنا التهميش المزمن الذي يطال المكوِّن السرياني، ويحرمه من حقّه المشروع في التمثيل الصحيح والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية اللبنانية، بما يتناسب مع تاريخه العريق ودوره البنّاء في قيام الدولة ونهوضها والدفاع عنها.

كما ندعو جميع اللبنانيين عامّةً، وأبناءنا وبناتنا بشكل خاصّ، ولا سيّما الشباب، إلى ممارسة واجبهم الوطني وحقّهم الدستوري بالمشاركة في الانتخابات البلدية والاختيارية القادمة، ترشُّحاً واقتراعاً، إيماناً بدورهم في صنع التغيير. فالانتخابات فرصة ثمينة لبثّ الحياة والترفّع عن المحسوبيات الفردية والعائلية في المؤسّسات المحلّية، بعد تمديد دام لأكثر من ثلاث سنوات. فلنحوِّل الإيمان إلى التزام، والرجاء إلى فعل وانطلاقة جديدة نحو وطن يليق بأبنائه.

وفي سوريا، لا تزال آثار الحرب الطويلة ترخي بثقلها على الشعب المنهَك سياسياً واقتصادياً ومعيشياً. أمام هذا الواقع الصعب، تستمرّ معاناة المسيحيين كما سائر المكوِّنات الوطنية المهمَّشة، خاصّةً من جراء الفوضى والفقر والهجرة. إنّنا نؤكِّد أنّ السريان والمسيحيين عموماً ليسوا طارئين في سوريا، بل هم مكوِّن أصيل، مؤسِّس، ومتجذّر في عمق ترابها منذ آلاف السنين. وهنا نوجّه نداءً إلى أبنائنا وبناتنا السريان في هذا البلد للتمسُّك بفضيلة الرجاء، مؤكّدين لهم أنّهم أبناء هذه الأرض، ولهم فيها دور لا يُنتزَع، وأنّ مشروع بناء دولة مدنية وديمقراطية في المستقبل لن يتحقّق من دونهم، فهم ليسوا مُكوِّناً مستورَداً، بل شركاء في التاريخ والمصير. وندعوهم ليكونوا جسور مصالحة وسلام، وروّاداً فاعلين في إعادة إعمار الوطن.

وفي العراق، الذي يمرّ بدوره بمرحلة دقيقة من التقلُّبات السياسية والتحدّيات الأمنية، فإنّ الوجود المسيحي لا يزال مهدَّداً بالتهجير والذوبان رغم المبادرات الوطنية والدولية الداعمة. إنّنا، إذ نثمِّن الجهود المبذولة من أجل ترسيخ الأمن وتحقيق التوازن في التمثيل، نعوّل على وعي المسؤولين السياسيين كي ينظروا إلى المسيحيين كشركاء مؤسِّسين في تاريخ العراق وبناة لحاضره ومستقبله. ونشدّد على أنّ بقاء أبنائنا وبناتنا السريان في بلاد الرافدين ومشاركتهم الفاعلة في الحياة الوطنية هو بمثابة شهادة حيّة لإيمانهم الراسخ ولأمانتهم لجذورهم العميقة في أرضهم.

أمّا في الأراضي المقدسة، حيث وُلِدَ ربّنا وأتمّ تدبيره الخلاصي وتألّم ومات وقام، نصلّي كي يبقى الحضور المسيحي في تلك الأماكن حيّاً، نابضاً، رغم التحدّيات السياسية والضغوط المتزايدة. وجود المسيحيين هناك هو شهادة حياة، وامتداد لحضور المسيح في أرضه. إليه نضرع من أجل انتهاء هذه الحرب المدمِّرة والمستمرّة منذ أكثر من سنة ونيّف، والتي تسبَّبت بقتل الآلاف وتدمير المدن والقرى، ولا سيّما في قطاع غزّة. كما نجدّد المطالبة بالعمل الجادّ على إحلال السلام والأمان في أرض السلام، بإطلاق سراح جميع الرهائن، وإيقاف أعمال العنف، وتوفير مقوّمات الحياة الإنسانية الضرورية للسكّان.

وفي مصر والأردن وبلدان الخليج العربي، نثني على الحضور الفاعل لأبنائنا في هذه البلدان، حيث ينعمون بالاستقرار وبالعيش الكريم مع سائر المكوِّنات الوطنية، في ظلّ دور جامع ومتكافئ للسلطات، وبروح الانفتاح والحوار والمواطَنة الحقّة.

وفي تركيا، نُثمِّن الحضور المسيحي التاريخي المتجذِّر، ونثني على أبنائنا وبناتنا لمحافظتهم على إيمانهم وتراثهم ولغتهم رغم التحدّيات، ونشجّعهم على متابعة شهادة المحبّة الفاعلة والمتميِّزة في أرض الآباء والأجداد.

وإلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الإنتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، نتوجّه بالمحبّة الأبوية، مؤكّدين لهم أنّهم امتداد حيّ لكنيستهم وشعبهم في أرض المنشأ في الشرق. ونشجّعهم على المحافظة على الإيمان بالرب يسوع فادينا، والتمسُّك باللغة السريانية، والتراث الأصيل، والمبادئ السامية للعائلة وقدسيّتها، وعلى تربية أولادهم التربية المسيحية الصالحة، فيغدوا مؤمنين ومواطنين صالحين. وهكذا يصبح أبناؤنا في تلك البلاد بمثابة جسور تواصُل بين الجذور والانتشار، بين الشرق والغرب، بين الماضي والمستقبل، مخلصين للأوطان الجديدة التي احتضنَتْهم، فهم الرجاء المتجدِّد لكنيستنا وشعبنا، وهم مرآة الحضور السرياني في العالم.

كما نحثّ أبناءنا وبناتنا في بلاد الانتشار على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: "فعزمَ التلاميذ أن يُرسِلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية" (أع11: 29).

تصادف هذا العام 2025 ذكرى مرور 1700 سنة على انعقاد مجمع نيقية المسكوني الأول سنة 325، حيث دافع آباء المجمع بإصرار ودون هوادة عن جوهر الإيمان بالرب يسوع ومساواته لله الآب، فضلاً عن نقلِهم إلينا أسرار الثالوث الأقدس، والخلق، والتجسُّد الإلهي، والفداء بالآلام والموت والقيامة، وسرّ التقديس بالروح القدس وماء المعمودية. نضرع إلى الرب كي يجعلنا أمناء للإيمان به، ورسلاً جادّين على درب وحدة المؤمنين، طبقاً لدعوته أن يكون التلاميذ "بأجمعهم واحداً" (يو17: 22). وهذا ما نعيشه بشكل مميَّز هذا العام في غمرة إحياء الكنيسة لسنة الرجاء اليوبيلية التي دعا إليها قداسة البابا فرنسيس، والذي نصلّي لأجل شفائه العاجل والتامّ. فالرجاء وحده يعزّز شهادتنا الإيمانية بخلاص الرب وسط عالم يتخبّط بالشكوك ويسوده اليأس.

ولا يغيب عن بالنا أن نكرّر المطالبة بحلّ كلّ نزاع في العالم بالحوار والتفاوض والتفاهم، وخاصّةً من أجل انتهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وقد طال أمدها، وخلّفت الدمار، بشراً وحجراً.

كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المرضى والمعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.

7. خاتمة

أيّها الرب يسوع القائم ممجَّداً من بين الأموات، إمنحنا بجاه قيامتك هذا الرجاء الحيّ، الذي منحتَه تلاميذَك الخائفين في العلّية والمشكِّكين بآلامك الخلاصية وموتك الفدائي وقيامتك المجيدة، فأضحوا وكأنّ لا رجاء لهم، إذ "في الرجاء نلنا الخلاص" (رو8: 24). شدِّد عزيمتنا، قوِّنا لعيش مفاعيل قيامتك وخلاصك في أعماق نفوسنا وقلوبنا، كي نشعّ في حياتنا ومجتمعنا. فنسير واثقين بوعد قيامتك الصادق دون تعب وعناء، وننمو وننطلق بفرح لا يزول، لنستحقّ سعادة الحياة الأبدية.

وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد. وكلّ عام وأنتم بألف خير."