لبنان
08 تشرين الأول 2019, 08:45

يوم للأخوّة الإنسانيّة في طرابلس!

أحيا دير مار فرنسيس الأسيزيّ في الميناء- طرابلس "يوم الأخوّة الإنسانيّة في طرابلس"، في ندوة حوار مسيحيّ- إسلاميّ، لمناسبة مرور 800 سنة على زيارة مار فرنسيس الأسيزيّ الدّيار المقدّسة ولقائه السّلطان كامل الأيّوبيّ.

حاضر في الندوة مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشّعّار، رئيس أساقفة طرابلس للموارنة المطران جورج بو جودة، السفير البابوي المطران جوزف سبيتيري، مطران اللاتين في لبنان سيزار آسيان، بحضور ممثل السفارة الإيطالية ماركو دي ساباتينو، وحشد من المؤمنين والطلاب ومهتمّين.
أولى الكلمات كانت لسبيتيري الّذي قال: "إسمحو لي أن أحيّيكم بالكلمات الجميلة التي استخدمها دائمًا القديس فرنسيس: "السلام عليكم وكل الخير معكم". أنا سعيد جدًا لوجودي هنا للاحتفال بعيد القديس فرنسيس الأسيزي في مدينتي طرابلس والميناء التاريخيتين، حيث عاش المسيحيون والمسلمون معًا لقرون، أشكر المنظمين على دعوتكم الكريمة للمشاركة، ليس فقط في الوظيفة الدينية، ولكن أيضًا، في هذا المنتدى المهم بين الأديان، أودّ أن أتقدم إليكم جميعًا، بأطيب تمنيات وصلاة صاحب القداسة البابا فرنسيس.
نحتفل بمرور ثمانمئة عام على اللقاء التاريخي أثناء الحملة الصليبية الخامسة، بين الحاج المسيحي فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل في دمياط بمصر، بالقرب من دلتا النيل، كانت لحظة نادرة للسلام خلال فترة الحرب الطويلة بين الشرق والغرب، كان هناك تبادل حقيقي يقوم على الاحترام المتبادل أظهر أنّ تنوّع القناعات لا يستبعد العلاقات الأخوية، حتى في خضم النزاع المسلح، وبقي هذا الاجتماع منارة للأمل في العلاقات بين المسيحيين والمسلمين، ولم يسمح القديس فرنسيس بزيارة الأراضي المقدسة فحسب، بل سمح أيضًا لأبنائه وبناته الروحيين، بالحفاظ على وجود دائم وهامّ في المنطقة.
بعد ثمانية قرون من هذا الحدث الاستثنائي، قام فرنسيس آخر بحج السلام إلى الشرق الأوسط، لاحتضان زعيم روحي مسلم، ووقّع قداسة البابا فرنسيس وإمام الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام والعيش المشترك في العالم، في 4 شباط 2019، في حضور قادة سياسيين ودينيين من جميع أنحاء العالم المجتمعين في أبو ظبي.
لقد قدّموا شهادة مشتركة مؤيدة للعلاقات الأخوية السلمية القائمة على الاحترام المتبادل والحوار الصادق، الذي لا يلغي التنوع، بل يعتبرونه هدية تثري الأسرة البشرية بالمواهب اللانهائية لمختلف الأخوة والأخوات، واسمحو لي أن أؤكد أنّ وثيقة أبو ظبي، هي ثمرة فترة طويلة من التأمل والصلاة، من قبل الأزهر، الدكتور الطيب ومستشاريه، والكرسي الرسولي، البابا فرنسيس ومستشاريه، إنّها ليست مجرّد إرشادات، إنّها مثل طوباوية، توصي باتخاذ إجراءات ملموسة، وفقًا لاستراتيجية العيش والعمل معًا في سبيل السلام.
إنّ وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام والعيش المشترك في العالم، يمكن اعتبارها حقًا نبوية، لأنّها تتطلع بشجاعة إلى المستقبل، إنّها تتطلّب استجابة محددة واعية من المؤسسات، كما هو الحال مع جميع الأشخاص ذوي النوايا الحسنة، وضدّ الظلم لصالح التنمية المتكاملة وحماية الأخلاق، إنّه يشجّع الإجراءات التي يتخذها القادة السياسيون وصانعو السياسات، وكذلك الحركات الشعبية، إنّه يتصور إجراء حوار، لا يقتصر على السلطات المدنية والأكاديميين، ولكنه يشمل جميع الأشخاص الملتزمين بالقيم الدينية والثقافية، إنّه يحثّنا على أن نكون حماة الأخوة، في ظلام الصراعات المسلّحة أو الإيديولوجية، حتى تسعى البشرية جاهدة، لإيجاد حلول مناسبة لمآسي العالم.
منذ يومين، وفي عيد القديس فرنسيس الأسيزي، زرع البابا فرنسيس شجرة بلوط هولم من أسيزي في حدائق الفاتيكان، وتذكّرنا هذه الإيماءة، بأنّ كل بذرة نزرعها في بداية النمو الطويل، إذا غذّينا الجذور، فإنّ الشجرة تنمو طويلاً وتزهر، دعونا نسأل الله تعالى بحكمته ورحمته، أن يرشدنا على طريق الحوار، حتّى تزداد قوّة جهودنا وأعمالنا المشتركة مثل أرز لبنان.
الله يبارككم ويرحمكم، حتى نعطي الأمل والشجاعة لجميع إخواننا وأخواتنا، وخاصة أولئك الذين يحتاجون إلى حبّنا وحمايتنا، على طول طريق الاحترام والحوار والإخاء."
أمّا المطران آسيان فتحدّث كفرنسيسكانيّ، وقال: "أريد أن أخبركم ما أفكر به، من ذاك اللقاء الذي شاركت فيه في أبو ظبي خلال القداس، الذي احتفل به قداسة البابا فرنسيس، وأن نستذكر معًا ما قرأناه وما نعرفه عن لقاء القديس فرنسيس الأسيزي بسلطان الملك الكامل في دمياط سنة 1219، نحن نعرف جميعًا أنّ القديس فرنسيس الأسيزي، أخذ نهج حياة الإنجيل المقدس، وطلب منا جميعًا أن نعيش إنجيل سيدنا يسوع المسيح بحذافيره، وهو أيضًا كان يريد كمرسل، أن يأتي إلى المناطق التي لا تعرف يسوع، أو أنهم يعرفونه بطريقة مختلفة، حتى يعيش بين غير المؤمنين المسيحيين، رسالة يسوع المسيح. من بعد أوّل محاولة وثاني محاولة، فشل فيها فرنسيس لأسباب متعدّدة، وفي محاولته الثالثة عام 1219، يأتي إلى دمياط، ويأتي إلى تلك المدينة مع عساكر يشكّلون الصليبيين في ذاك الحين، بعد حرب بين المسلمين والصليبيين، الذين يخسرون تلك المعركة، فيذهب فرنسيس الأسيزي أخيرًا للقاء السلطان الكامل، ولهذا اللقاء أهمية كبيرة خارج كل الأشياء التي يمكننا التحدث عنها، فقد طرح في ذاك اللقاء سؤال مهم على فرنسيس من قبل السلطان، وهو: أيّ يسوع مسيح تتكلمون عنه؟ هل هو يسوع المسيح الذي أنت تتكلم عنه، من خلال كلماتك وحياتك وفقرك وشهادتك؟ أم يسوع المسيح الذي يتكلم عنه الصليبيون؟
السؤال يطرح ذاته، من هو يسوع المسيح الذي نحن نشهد له اليوم؟ والسلطان معه حق أن يطرح هكذا سؤال، فأمامه كان هناك تفسيران لحياة يسوع المسيح، هل هو التفسير الذي يأتي
مع الصليبيين والسيف وغير ذلك؟ أو هو الذي يحمله فرنسيس الأسيزي بحياته؟ لذلك اللقاء بين فرنسيس والسلطان كان لقاء صداقة وأخوّة ومحبّة، لأنّ فرنسيس كان آتيًا باسم الرب المحبّ والغفور، والقائل (أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مبغضيكم)، فالأب فرنسيس لم يكن يعرف غير إنجيل يسوع المسيح المصلوب، الذي يقدّم حياته لكلّ واحد بيننا، وفرنسيس الذي تاب ورفض حياته القديمة، بأن يبقى فارسًا بالشكل القديم المحارب والمقاتل، واكتشف حينها فرنسيس أنّ السلاح الوحيد، الذي يملكه الإنسان هو المحبة، ولذلك فالسلطان عند خروج فرنسيس يبادره قائلاً "صلّ لي حتى ربنا يدلّني على الطريق" ويعود فرنسيس إلى المعسكر، حيث يسأله الجنود ماذا حصل؟ ليجيبهم قائلاً: مطلوب منّي أن أشهد ليسوع المسيح، أمّا التوبة والارتداد فهذا يعود إلى الرب فقط.
يأتي البابا فرنسيس ليقول لنا، إنّ نبوءة فرنسيس الأسيزي تريد أن تكمل اليوم، وأريد أن أقول للعائلة الفرنسيسية إنّ هذه الدعوة، يجب أن تكمل، وهي رسالة من صلب دعوتنا، لأنّها رسالة تركها لنا فرنسيس عندما أتى إلى دمياط، وعندما عاد وعلّمنا فعلا، أنّنا مرسلون لنشهد لصورة يسوع المسيح الحقيقية، وهي نقطة لا رجوع عنها.
اليوم البابا فرنسيس يأتي إلى جامعة الأزهر في مصر، يلتقي بالشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر والآخرين ويطرح السؤال: هل داعش تفسّر القرآن الكريم وتفسّر الإسلام أم لا؟ وهو ذات السؤال الذي طرحه السلطان الكامل على فرنسيس الأسيزي، والذي لم يزل إخواننا المسلمون يطرحوه علينا اليوم، وقد طرحه البابا فرنسيس بطريقة معاكسة، من يقول لنا اليوم ماذا يقول القرآن الكريم؟ هل نستطيع أن نعيش مع بعضنا؟ أم لا؟ أمام العنف الذي يطال المنطقة كلها، ماذا نريد قوله لأولادنا؟ وهذا الأمر يردّنا لقراءة روحية وإلى فصل من سفر التكوين، ويكون قايين قد قتل هابيل، حين يأتي الرب ويسأل قايين أين أخوك؟ فيجيبه هل أنا مسؤول عن أخي؟ فيجيبه الرب صوت صراخ أخيك قد وصل إلى السماء، واليوم من يسمع صوت صراخ دم الإنسان في هذه المنطقة؟
البابا فرنسيس والشيخ الطيب، يقولان نحن نسمع، وأمام هذا الدمّ نحن نسمع ولن نسكت، نلتقي مع بعضنا البعض، ونحدد في وثيقة طويلة النفس احترام الديانتين، ونقول إنّه ممنوع منعًا باتًا أن نقتل باسم الرب، وممنوع أن نعيش العنف مع بعضنا البعض باسم الرب، ولذلك وثيقة أبو ظبي تنطلق من حقيقة تقول، إنّ الرب هو خالق الجميع، وهو الذي أرادنا، ولا يحق لأحد أن يمحينا، ولا حق لأحد أن يمحي الآخر، أو يقتل الآخر، أو أن يقلل الاحترام اتجاه الآخر، لأننا لم نأت من ذاتنا إلى الحياة، نحن لدينا الرب، فهو الخالق، وهو الذي أراد أن نكون موجودين، وعلينا جميعًا الطاعة للرب، وأن نستسلم لقرار الرب، ونخلق طرقًا للحوار مع بعضنا البعض، ووثيقة أبو ظبي تنطلق من الإيمان بالرب الخالق وإرادته أن نعيش مع بعضنا بإخوة، وأن نستمع إلى صراخ البشر، الذين يتعذّبون شتى العذاب الموجود على وجه الأرض، والذي لم يعد يحتمل التعزية إلّا من الرب، حيث علينا جميعًا أن نتجنّد من أجل ذلك، وهذه الوثيقة يجب أن نشارك جميعًا في تحقيقها، من أصغرنا إلى أكبر واحد فينا، وأن نلتزم جميعًا لأننا جميعًا أبناء الله.
لذلك البابا والشيخ الطيب، يدعواننا إلى ثقافة الحوار، وأن نتعلّم، أن نحكي مع بعضنا البعض، وأن نحترم بعضنا بعضًا، وأن نلتقي، وهذا يتطلّب من كلّ واحد منّا التوبة في الأذهان والأفكار، التي لدينا، وأن نتعلّم من التاريخ الصعب، الذي سبق وعشناه انطلاقًا من رغبة الرب وإرادته في هذه الأخوّة، من خلال العودة إلى الأساس والعائلة والصلاة، وإلى خارطة طريق علينا جميعًا احترامها".
من جهته، قال الشّعّار: "في هذا اللقاء النوعي الذي نلتقي فيه حول مضامين الرسالات السماوية، التي نحدّدها في تحقيق الأخوّة الإنسانية في ما بيننا، فاللقاء ليس إسلاميًا وليس مسيحيًا، وإنّما هو لقاء في إطار مضامين الرسالات السماوية، تحقيق الأخوة الإنسانية هذه الأخوّة هذه العلاقة، هذه الصّلة التي ينبغي أن نحافظ عليها، هي التي جاء بها جميع الأنبياء والمرسلون، وإذا كان من تقدّم تناول هذه القضية من خلال الأناجيل، فإنّني سأتناولها من خلال القرآن والأحاديث النبوية.
الإسلام ينظر إلى العالم كله على أنهم يعودون إلى أصل واحد، لذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم (يا أيّها الناس) وكلمة الناس، إذا ذكرت في القرآن الكريم أو في حديث النبي محمد، فإنها تتناول جميع البشر جميع بني آدم، يقول ربنا في القرآن الكريم (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). الناس يعودون إلى أصل واحد، وإلى أب واحد وهو آدم وإلى أمّ واحدة وهي حواء، ثم جعلنا الله تعالى شعوبًا وأقوامًا وقبائل وجنسيات وألوانًا، لماذ؟ قال لتعارفوا، لذلك فإنّ البشرية مدعوّة أن تحقق التعارف لأنّه طريق التآلف، فلا يجوز أن يعيش البشر في مجتمع متنافرين أو متخاصمين أو أعداء يتصادمون في ما بينهم، ينبغي أن نحقّق في ما بيننا الغاية من الخلق "لتعارفوا" لأنّ التعارف هو طريق التآلف، وهو الذي يحقّق الأخوّة الإنسانية في ما بيننا.
ولذلك قال النبي: "كلّكم لآدم وآدم من تراب، الإنسان أخو الإنسان، لا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى" أي بالعمل الصالح وبمكارم الأخلاق وبحقيقة التّديّن، التي يجيب عنها النبي بأنّها "خير الناس أنفعهم للناس" خير الناس من هم؟ أفضل الناس في مجتمعنا هم أكثرهم خيرًا للآخرين.
من هنا، نعلن أنّ الأخوّة الإنسانيّة ليست قضية ثانوية أو قضية شكلية أو قضية مزاجية، وإنّما هي قضية دينية، أمر بها الإسلام، وأمرت بها المسيحية، وجاءت بها التوراة، وجاء بها جميع الرسالات السماوية كلها، عندما تراجع الناس عن معرفتهم بالإسلام أو معرفتهم بالمسيحية أو معرفتهم بالتوراة، عادوا وانقسموا وعادوا إلى قبائل وإلى مذاهب وإلى جماعات، كل جماعة تظنّ أنّها أفضل من غيرها، وكل جماعة تريد أن تتفاضل وأن تتقدّم على غيرها، لذلك فإنّني أعلن بأنّ العودة إلى مضامين المسيحية وإلى مضامين التوراة وإلى مضامين الإسلام والقرآن، هي وحدها التي تعيدنا إلى الأخوّة الإنسانية، التي نشعر بها أنّنا إخوان يحبّ بعضنا بعضًا، يألف بعضنا بعضًا، نعيش حياة إنسانية كريمة، كل واحد منّا يريد أن يقدّم الخير للآخر.
هذه الأخوّة الإنسانية، هي كانت من أهم وأوّل ما فعله النبي، عندما جاء إلى المدينة، وأعلن الوثيقة النبوية في المدينة المنوّرة، التي تحدد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين واليهود، وبين المسلمين وحتى المشركين، الذين كانوا يعبدون الأصنام، وجعلهم رسول الله أمة واحدة، كيانًا واحدًا، دولة واحدة، هم يد واحدة على من عاداهم.
لا يمكن أن نستعيد حقيقة الأخوّة الإنسانية، إلّا إذا عاد المسيحيون إلى دينهم، وإلّا إذا عاد المسلمون إلى دينهم، ولا يعتقدن أحد أنّ الإنسان مبرأ من الخطأ، الخطأ، الانفعال، الغضب، الثأر يسيطر على الإنسان، ولكن لا يجوز أبدًا أن يكون هو السمة الغالبة لعلاقاتنا مع بعضنا، ينبغي أن نعود إلى بعضنا، إلى تقوى الله تعالى، وأن نعود إلى قيمنا الدينية والسماوية، وقصّة قابيل وهابيل التي تفضل بها أخي صاحب السيادة، أخ أراد أن يقتل أخاه، ماذا يفعل الآخر؟ يبادره بالغضب؟ يسبقه إلى القتل؟ لا، قال هابيل لأخيه قابيل: لإن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك. لماذا؟ قال لأنّي أخاف الله رب العالمين. تقوى الله، القيم، الإيمان، مكارم الأخلاق، مضامين الرسالات السماوية، هي التي تهذّب طبائعنا، وهي التي تضبط حركتنا، وهي التي تجعلنا يحبّ كلّ منّا الخير لأخيه لأنّ النبي قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه".
أريد الآن أن أطرح سؤالاً كيف نتعرّف على بعضنا؟ كيف نبادر لتحقيق الأخوّة في ما بيننا؟ رسول الله محمد، بين لنا في الحديث النبوي الصحيح منهجًا، حيث قال: "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا"، إذا لا يمكن أن يتحقّق الإيمان بدون محبّة، كيف نحبّ بعضنا؟ قال: "أفلا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟"، قال: "أفشوا السلام بينكم"، ليبادر كل واحد منّا بالسلام على أخيه وبالمصافحة وبالمحبة، الآن نسلّم على بعضنا، في مرة قادمة، كل واحد منّا يسأل أخاه عن حياته عن عائلته عن عمله، هذه طريقة تحقّق المحبة والمودّة، وهي عين الأخوّة، التي جاءت بها الرسالات السماوية.
الأخوّة الإنسانيّة ليست قضية جديدة، لكن الذي حدث في قمّة أبو ظبي من التقاء أكبر مرجعيتين دينيتين على مساحة العالم، قداسة الحبر الأعظم وفضيلة الإمام الأكبر، كانت تذكيرًا للناس بهذه الأخوّة، التي جاء بها الأنبياء والمرسلون السابقون. نبيّنا محمّد يقول لنا في الحديث الصحيح: "أنا أولى بعيسى بن مريم منكم" من قال إنّ عيسى هو للأخوة المسيحيين وحدهم؟ نحن نؤمن به، ونعتبر أنّ السيدة البتول مريم عليها السلام الطاهرة المطهرة، لها سورة في القرآن، ويضيف النبي: "لأنّ الأنبياء أخوة" كل الأنبياء تلقّوا الوحي من الله تعالى، كلّ يكمل رسالة من سبق، هذا معتقدنا وهذا ديننا فالأنبياء أخوة، وكيف تتحقّق هذه الأخوّة؟ قال النبي: "لأنّ أمهاتهم شتى ولكن دينهم واحد".
أساس الأديان والرسالات، إنّما يقوم على الإيمان بالله تعالى الواحد الأحد، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وعلى الإيمان بالكتب السماوية وجميع الأنبياء والمرسلين، وجميع الأديان جاءت بقيم واحدة، الأخلاق القيم كلّها متجانسة ومتطابقة، ولا فرق فيها بين المسلمين والمسيحيين، في جانب العبادات هناك تنوّع كانت بعض الأحكام تتناسب لجيل أو لعصر يختلف عن الآخر.
سرّني ما سمعت من اللقاء، بعد الحروب الصليبية، الصحيح أنّها ليست حروبًا صليبية، هي حروب الإفرنجة، لأنّ المسيحية لم تأت لقتل المسلمين، كما أنّ الإسلام لم يأت لقتل المسيحيين، القتل، العنف، التطرف، لا علاقة له بالأديان، ولا بالكتب السماوية، ولا بالدين، ولا بالله تعالى، كل هذه المظاهر، التي تحدث في عالمنا، وفي حياتنا الحاضرة، مفبركة من أجل أن يتقاتل السنة مع الشيعة، وأن يتقاتل المسلمون مع المسيحيين، حتّى يضع الآخرون يدهم على بلادنا، وعلى اقتصادنا، على قاعدة فرّق تسد.
ذكر أخي صاحب السيادة في لقائنا الداخلي، أنّ العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وأنّ الأخوّة الإنسانية، نحن نعيشها في لبنان منذ مئات السنين، بل وأكثر من ذلك، منذ أن كانت المسيحية، ومنذ كان الإسلام، ولك الأيادي الغريبة الطامعة في بلادنا، هي التي غزلت وحاكت المؤامرات، حتى يصطدم المسلمون والمسيحيون، أدعو إلى تحقيق الأخوّة في ما بيننا، بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين والمسيحيين وبقية البشر، لأنّ جميع الناس يعودون إلى أصل واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب.
لا يسعني بعد هذه المداخلات السريعة، إلّا أن أتوجّه بالشكر إلى إخواني أصحاب السيادة، الذين أجادوا وأمتعوا وأفاضوا، وأن أخصّ هذا الدير والقائمين عليه، بتحية كبيرة لهذا اللقاء الإنساني، الذي نحقّق فيه الأخوّة الإنسانية، المستمدّة من قيم السماء ومضامين الرسالات".
وكان للمطران بو جودة مداخلة قال فيها: "لن أتوقّف في كلمتي اليوم، عند النظريات والمبادئ والأفكار المتداولة، في المجتمعات العالمية في مختلف البلدان، عن الحوار بين الأديان والثقافات، وعن المؤتمرات العديدة، التي تعقد للبحث في هذه المواضيع ودراستها، لأنها غالبًا، على أهميتها، تبقى نظرية لا يمكن لأيّ منا، إلا الأصوليون، أن يرفضها، ويتصرّف بطريقة مخالفة لها، معتبرًا ومؤكدًا أنه هو وحده على حق، وأنّ غيره هو دائمًا على خطأ، فالحركات الأصولية، التي تنتشر اليوم، بسرعة مذهلة في مختلف الديانات والحضارات، تخلق جوًا من العداوة والعنف، كما حصل مؤخرًا في نيوزيلندا وسيريلنكا، وما يحصل منذ سنوات عندنا في الشرق، حيث يسقط الضحايا، نتيجة لتصرفات يقوم بها أصوليون من مختلف الديانات، وهذا ما يتناقض جذريًا مع مبادئ وتعاليم هذه الديانات، وبصورة خاصة مع المسيحية والإسلام.
كلمتي هي شهادة عن خبرة عشتها وأعيشها مع إخوة لي بالإنسانية، عبّر عنها في 4 شباط 2018 قداسة البابا فرنسيس والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، في وثيقة أبو ظبي، التي عنوانها "الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك". خبرتي الشخصية في العيش المشترك، لم تبدأ عندما أصبحت أسقفًا لأبرشية طرابلس، التي يعيش فيها المسيحيون والمسلمون منذ نشوء الإسلام في القرن السابع، ووجود المسيحيين فيها منذ نشوء المسيحية قبل ذلك بما يقارب السبع مائة سنة، وانتشارها في مختلف بلدان الشرق الأوسط.
خبرتي بدأت، عندما كنت طالبًا إكليريكيًا في جمعية الآباء اللعازريين، حيث كان رئيسي والمسؤول عن تنشئتي الكهنوتية، كاهن اختصاصي في الدراسات الإسلامية، حائز على دكتوراه في دراسته وأبحاثه عن الغزالي، هو الأب فريد جبر، الذي كانت تربطه علاقات صداقة وعمل مشترك مع الدكتور الشيخ صبحي الصالح، وغيره من الأساتذة المسلمين في الجامعة اللبنانية. يومها كنّا نمضي عطلة الصيف في حصرون، وكان الشيخ صبحي يمضي صيفه في بشرّي. وكانا يعملان معًا على كتابين عن المسيحية والإسلام، بشكل أنّ الشيخ صبحي يكتب في كتابه عن المسيحية والأب جبر يكتب في كتابه عن الإسلام. وكنت، كطالب إكليريكي، أنقل ما كتبه الشيخ صبحي إلى الأب جبر، وما كتبه الأب جبر إلى الشيخ صبحي، ليعطي كل منهما رأيه في الموضوع. وتتابعت اللقاءات بين الاثنين، فصار الشيخ يزورنا باستمرار، ويمضي معنا الوقت في الحديث عن كل المواضيع المتعلّقة بالعيش المشترك في لبنان، فيعملان معًا على محاولة جعل من خبرتهما الشخصية مثالاً يحتذى به في سائر البلدان العربية.
في الشيخ صبحي رأيت الصورة الحقيقية للإسلام المنفتح، وفي الأب جبر رأيت صورة المسيحية المنفتحة، وكلتاهما تدعو إلى حوار الحياة، وإلى ترسيخ العيش المشترك، من بلاد سيقول عنها، بعد ذلك البابا القديس يوحنا بولس الثاني، بأنّها ليست مجرد بلاد كغيرها من البلدان، بل هي رسالة للشرق والغرب وللعالم أجمع. ولذلك أسمح لنفسي أن أقول إنّ وثيقة أبو ظبي، ليست أمرًا جديدًا بالنسبة لنا في لبنان، بل إنّ لبنان كان وما زال مثالاً، يجب أن يقتدى به، لأنّه يعيش هذه الأفكار والتعاليم والمواقف منذ مئات السنين.
هذه الخبرة الصغيرة، جعلتني أعيشها شخصيًا، عندما عيّنت رئيسًا لدير مار يوسف للآباء اللعازريين في مجدليا، وبعدها منذ انتخابي رئيسًا لأساقفة أبرشية طرابلس المارونية منذ أربعة عشرة سنة. إذ كنت طوال هذه السنوات، على علاقة دائمة مع إخوة لي في الإنسانية، التي تكلّمت عنها وثيقة أبو ظبي، ودعت للعمل على نشرها وترسيخها بين المؤمنين، إلى أي دين أو ثقافة انتموا.
الصعوبة الأساسية لعيشي هذه الحياة المنفتحة على الآخرين، كانت في ثمانينات القرن الماضي، حيث سيطرت على المدينة حركات أصولية متطرّفة، اضطهدت المسيحيين وأرغمتهم على مغادرتها، والانتقال إلى مناطق أخرى، فكانت تلك ضربة قاسية للعيش المشترك، حيث كان الأهالي يعيشون مع بعضهم بعضًا، في الأفراح والأتراح، والتلاميذ يجلسون على المقاعد الدراسية ذاتها، من دون أن يعرفوا أو يسعوا إلى معرفة جارهم، ما إذا كان مسيحيًا أم مسلمًا، بل يتشاركون كل النشاطات والمناسبات بروح أخوّة مميزة.
كان من حظّي عندما انتقلت لأسكن في دار المطرانية في طرابلس، أن أتعرّف إلى الشيخ الدكتور مالك الشّعّار، رئيس المحاكم الشرعية آنذاك، ثم مفتي طرابلس والشمال بعد ذلك ولغاية اليوم. الحركات الأصولية المتطرّفة، التي عاثت في المدينة فسادًا، لم تكتف بمضايقة المسيحيين واضطهادهم، بل تعدّت كذلك بعنف، على أبناء دينهم المعتدلين. وقد وصل الأمر معهم إلى تهديد المفتي نفسه، فاضطر إلى مغادرة المدينة، على عجل، وكان قد أطلعني على الأمر، فعرضت عليه بكل روح صداقة وأخوّة ومحبة، أن يأتي فيسكن معي في المركز الأول التاريخي للأبرشية في كرمسدة، وهو ما زال يذكر ذلك في أحاديثه لغاية اليوم، ومنذ ذلك الوقت، ترسّخت علاقتنا، فأصبح كل منا يتّصل بالآخر، ويلتقي به في كل المناسبات الاجتماعية، وعندما تحصل بعض الأحداث الأليمة في المدينة، نتلاقى مع الأساقفة الآخرين، المطران أفرام قرياقوس والمطران إدوار جاورجيوس ضاهر، للبحث في هذه الأحداث ومعالجتها، كما أنّنا كنا نلتقي دائمًا، عندما يقوم أحد المسؤولين المحليين أو الأجانب، بزيارة طرابلس، لنتبادل معه الأحاديث والتعبير عن أنّنا نعمل معًا كرؤساء دينيين، لترسيخ الأمن والسلام بين المواطنين.
لقد وافقنا على إنشاء جماعة، تضمّ رجال دين من مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية، تلتقي دوريًا، للبحث تحت اسم الشبكة المستدامة لرجال الدين المسيحيين والمسلمين، وهم يسعون الآن لتوسيعها، لتصل إلى الشباب، كي يتعرّفوا على بعضهم بعضًا، ويعملوا لمعالجة التحديات التي تعترضهم على جميع الأصعدة".
بعد النّدوة، ترأّس المطران آسيان قدّاسًا إلهيًّا احتفالاً بعيد القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، بحضور السّفير البابويّ في لبنان والمطارنة والآباء، بعده، تمّت مباركة تمثال مار فرنسيس الأسيزيّ، في حديقة الدّير، وأقيم كوكتيل للمناسبة.

 

المصدر: الوكالة الوطنيّة للإعلام