يوحنّا العاشر :نشدّد على ضرورة احترام حقوق أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة في التّعيينات والوظائف
وشدّد البطريرك يوحنّا العاشر على ضرورة احترام حقوق أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة في التّعيينات والوظائف، والكفّ عن قضم هذه الحقوق كما حصل في التّعيينات الدبلوماسيّة والأمنيّة الأخيرة، داعيًا للإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنيّة قادرة على التّصدّي للتّحدّيات الجسام التي يواجهها لبنان، وذلك بروح المسؤوليّة الوطنيّ وبعيدًا عن الحسابات الضيّقة الآنيّة.
بعد الصّلاة، تلى المطران أنطونيوس (الصّوري) كلمةً، قال فيها:
"لا يخفى عليكم أنّ فرحًا عظيمًا عمّ كرسيّنا الأنطاكيّ المقدّس يوم انتخابكم بطريركًا على عرشه في السّابع عشر من شهر كانون الأوّل العام ٢٠١٢ وهو الفرح النّابع من آمال كبيرة عقدناها عليكم جميعًا، رعاة وأبناء، ونعقدها لدفع حياة الكنيسة إلى مزيد من النّمو الرّوحيّ والرّعائيّ والتّجدّد في المسيح والنّضج والفعاليّة والشّهادة لمجد اسم الرّبّ. وإذ نشكر الرّبّ على ما تحقق رغم كل ما واجهكم من صعوبات.
نذكر يا صاحب الغبطة ما حملتموه من آلام شعبكم نتيجة الحرب التي تعصف حولنا، حرب الشّيطان على الإنسانيّة، وما واجهتموها من ثبات في: الإيمان والرّجاء والمحبّة، وبالتّالي إنّ وجودكم معنا في رعايا وقرى هذه الأبرشيّة هو عرسنا الذي انتظرناه، هو حضور أنطاكية وعرسها في قلب زحلة، وحضور زحلة وعرسها في قلب أنطاكية العظمى".
بدوره، ردّ البطريرك يوحنّا العاشر بكلمة شاكرًا، فقال:
"بسلام المسيح أوافيكم حاملاً من القلب طيب السّلام لزحلة، لقلب لبنان ولقلوب أبنائها. ومن قلب لبنان الجغرافيّ، من هذه المدينة، يطيب لي ويحلو أن أطلّ على قلوب أهلنا ههنا بالسّلام والمحبّة في هذه الزّيارة السّلاميّة.
سلامي لزحلة المستظلة بفيء لبنان، سلامي للّتي تدقّ أجراسها انغراسًا في الأرض وتأهيلاً بكلّ ضيفٍ. سلامي لـ"جارة الوادي" الغافية على كتف البردوني وللثّملة بسلاف المحبّة. سلامي لـ"عروس البقاع" التي تدقُّ أجرانَها نبضَ حياةٍ وتجلو بحمرةِ قرميدها بعضًا من اتقاد محبّتها لله والوطن والإنسان. سلامي لبعلبك لتوأم العراقة في هذا الشّرق، لمدينة الشّمس العظيمة ولأهلها الطّيبين وللهرمل والبقاع بكل ما يحمل من قيم.
هل تعلمون، أحبّتي، أنّ هذه الأبرشيّة حتّى مطلع عشرينيّات القرن الماضي كانت تمتدّ بين لبنان وسوريا، وهي في الوقت ذاته الممرّ الطّبيعي ما بين الشّام وبلودان والزّبداني وبعلبك، وهي بالتّالي بهذا التّكامل مع ريف دمشق مثال حيٌّ للوحدة الأنطاكية!
في هذا اليوم المبارك، الثّامن من أيلول ميلاد العذراء مريم، أحمل إليكم بركات سيدة صيدنايا ومحبّة أهلها وبخور شاغورتها وصلوات راهباتها. وأحمل إليكم بركة الدّار البطريركيّة بكنزها، الكنيسة المريميّة التي تستظلّ بستر العذراء منذ فجر المسيحيّة. وأرفع صلاتي معكم إلى العذراء مريم أن تحمي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما وتحميكم جميعًا.
إنّ كلامًا ليس له أن يعبّر عمّا في قلبي من فرح وأنا بينكم ههنا. وفرحي أيضًا لوجودي في هذه الأبرشيّة المباركة أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما، وهي التي سلّمتها العناية الإلهيّة لسيادة الأخ أنطونيوس الصّوري. إنّ غرس الرّبّ الذي أثمر على يديكم أيّها الأخ العزيز لهو ظاهرٌ في وجوه الأحبّة وبادٍ على أكثر من صعيد. كيف لا وأنتم الذين تكرستم لله راهبًا أحبّ النّاس فاصطفاه الله لخدمة أحبته؟ نحن فخورون بكم أيّها الأخ الحبيب وندعو لكم دومًا بالصّحّة والقوّة. ونحن هنا نقدّر ونجلّ أتعابكم وأتعاب كلّ من سبقكم في خدمة هذه الأبرشيّة الطّيبة ونخصّ بالذّكر بركتنا جميعًا الأخ والأب المطران اسبيريدون خوري الذي قام على محرس رعاية هذه الأبرشيّة قرابة نصف قرنٍ وامتاز بوداعته وسلامه وهدوئه ومحبّته. واسمحوا لي أيضًا أن أنوّه بالأخ العزيز المطران نيفن صيقليّ، ممثل بطريرك أنطاكية لدى بطريرك موسكو وسفير محبّتنا الأنطاكيّة إلى المدى الرّوسيّ. ولا أنسى الإخوة الأساقفة وسائر الإكليروس والرّهبان والرّاهبات العاملين بنشاطٍ في حقل الرّبّ.
في كلّ مرّة أكون فيها وسط أحبّتي وأسمع فيها صوت أجراس الكنائس تعود بي الذّاكرة والخيال إلى أولئك الأوّلين الذين جعلوا من جرس الكنيسة شيئًا لصيقًا بكينونتنا المسيحيّة المشرقيّة. واليوم إذ أسمع أجراس زحلة أقف لوهلةٍ أمام تاريخ سحيق. أجراسنا أجراس أفراحنا وهي أيضًا أجراس أتراحنا وأحزاننا. هي أجراس أصوامنا وأعيادنا وأجراس أعراسنا ومعموديّاتنا. هي أجراس استقبالنا وأجراس أديارنا وصلواتها اليوميّة. وهي بالأحرى أجراس كينونتنا المسيحيّة المتغلغلة في هذه الأرض والباسقة إلى سمائها. علّقها أجدادنا في أيامٍ عدموا فيها لقمة الخبز، ربّما، لكنّهم لم يعدموا قوّتهم بالله وبقدّيسيه. علّقها آباؤنا عندما نحتوا بعرقهم حجارة الكنائس وقنْطروها سفينة خلاصٍ في بحر هذي الدّنيا. عندما نقرع أجراسنا، نغلُّ كياننا معها وبإصرارٍ إلى أسفل الأرض، إلى باطنها.
نحن مسيحيّي هذا الشّرق كنّا وسنبقى من صميمه ومن جبلته وهو منا جبلةٌ وكيان.
نحن أبناء هذه الأرض، وفيها تلقّينا إيماننا وورّثناه جيلاً فجيلاً.
نحن ومض صليبها ووهج قيامتها.
من فولاذها صهرنا أجراس كنائسنا. وفي روابيها ووديانها قرعناها نشيدَ محبةٍ للخالق والخليقة.
من صخرها نحتنا حجر أديارنا وأقمنا موائد كنائسنا.
من كرومها عصرنا "كأس" شكرنا ومن قمحها عجنّا قرباننا ابتغاءًا لمرضاة القدّوس.
وزحلة هي في قلب هذا الشّرق الذي اتشح المسيح ووشح الدّنيا به.
ونحن هنا لا ننسى الدّور الكبير لمطارنة ورعاة زحلة إبّان الحرب الآثمة في لجم العنف وبثّ روح الحوار والوفاق في المدينة ونطاقها في زمن كان البلد فيه يغلي على نار الصّراعات الإقليميّة والطّائفيّة التي لم توفّر بقعةً من هذا البلد. أحيّي اليوم إخوتي الحاضرين مطارنة الكنائس الشّقيقة. إنّ حضوركم يا أحبّة لهو بحق خير شهادةٍ على أصالة شهادةٍ مسيحيّةٍ أنطاكيةٍ نسعى دومًا لتكون أهلاً بمجد أنطاكية التي تمجدت أولّاً باسم المسيح.
ومن هنا، نطلّ إطلالة المحبّة على إخوتنا في المواطنة والعيش المشترك، الإخوة المسلمين بكلّ أطيافهم. كما يطيب لنا أيضًا أن نكرّر على مسامعكم بعضًا من كلمات البطريرك غريغوريوس الرّابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق في 22 تشرين الثّاني سنة ١٩١١ عندما زار هذه المدينة:
"إنّني أحبّ أبناء وطني من جميع المذاهب على السّواء. ولا فرق بينهم عندي. ألستُ وإياهم أبناء أب واحد وأم واحدة. أوَ لسنا جميعًا صنعة خالق واحد. أوَ لسنا نسكنُ أرضًا واحدة ونستنير بضوء شمس واحدة ونستظلُّ بسماء واحدة وترفرف فوقنا رايةٌ واحدة هي راية الوطن العزيز؟ أوَ لسنا نحن والمسلمون توحّدنا جامعة الانتساب إلى أرض واحدة ووطن واحد؟"
صلاتنا اليوم من أجل استقرار لبنان وسلام سوريا والشّرق والعالم أجمع. ونصلّي من هذه المدينة التي تحمل بين ثناياها رمزًا للحضور المسيحيّ في الشّرق ونلفت من هنا أنظار العالم إلى قضيّة مطراني حلب يوحنّا ابراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ أكثر من خمسة أعوام، ونصلّي من أجل عودتهما سالمين. إنّ ملفّهما يختزل شيئًا ممّا يتعرّض له الإنسان المشرقيّ عمومًا، والمسيحيّ خصوصًا، وسط ادلهمامية الإيديولوجيّات المظلمة وعقدة المصالح الكبرى واسترخاص القيم البشريّة في زمن الحروب.
نصلّي ونعمل كي تكتمل مسيرة العهد الرّئاسيّ الحاضر في النّهوض بالبلد وإنسانه على كافّة الصّعد. ونتّخذها مناسبة لنؤكّد من جديد على:
دعم الجهود التي يبذلها المسؤولون في لبنان، وعلى رأسهم فخامة الرّئيس من أجل بناء الوحدة الوطنيّة، والسّهر على انتظام العمل الدّستوريّ والمؤسّساتيّ، لما فيه خير اللّبنانيّين.
الدّعوة للإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على التّصدي للتّحدّيات الجسام التي يواجهها لبنان، وذلك بروح المسؤوليّة الوطنيّة وبعيدًا عن الحسابات الضّيقة والآنية.
مطالبة المسؤولين العمل على وضع خطط عمليّة لدعم الاقتصاد اللّبنانيّ وتحريك العجلة الاقتصاديّة والسّهر على تحقيق الإنماء المتوازن وإيجاد مشاريع إنتاجيّة تثبت أبناء القرى في أرضهم ومناطقهم وتحول دون نزوحهم وهجرتهم.
الانصراف للعمل على بناء ثقة المواطن بالدّولة، من خلال تفعيل ثقافة المحاسبة والشّفافية والحدّ من الفساد ومنطق تقاسم الغنائم.
إخلاص الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية للبنان والتزامها العمل من أجل ازدهاره ونموّه، وعلى استعداد أبنائها الأرثوذكس لخدمته بكلّ طاقاتهم وفي كلّ المجالات. وهنا نشدّد على ضرورة احترام حقوق أبناء الطّائفة الأرثوذكسيّة في التّعيينات والوظائف والكفّ عن قضم هذه الحقوق كما حصل في التّعيينات الدبلوماسيّة والأمنيّة الأخيرة.
التّعبير عن فرحتنا لعودة الحياة إلى طبيعتها في سوريا. وهنا، نعود ونؤكّد على وحدة كافة أراضيها. ولا ننسى اليوم إخوة لنا في محردة يتعرّضون لظروف صعبة في هذه الأيام. ونشدّد على أنّ الكنيسة الأنطاكيّة تلتزم العمل من أجل فك الحصار الاقتصاديّ الذي يرزح تحته الشّعب السّوريّ، والذي لا يسلم من نتائجه الضّارة أبناؤنا في لبنان ولاسيّما في هذه الأبرشيّة. وإذ نشير إلى أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تعمل بنشاط وفعالية في العمل الإغاثيّ، نؤكّد من جديد أنّنا سنبقى إلى جانب شعبنا لإعادة إعمار ما هدمته الحرب الآثمة، وما إعادة إعمار وترميم دير القدّيسة تقلا – معلولا وعودة الحياة إليه، على سبيل المثال، إلّا دليلٌ على تشبّثنا بأرضنا وإصرارنا على البقاء الكريم والفاعل فيها، مهما عتت الأيام. وهنا، نلفت إلى أهمية عودة النّازحين السّوريّين إلى ديارهم.
مصلّين من ههنا، من قلب لبنان، أن يلهم الله قلوب القيّمين عليه لما فيه خيره واستقراره.
أتوجّه إليكم جميعًا الإخوةَ الحاضرين وأبناء زحلة وبعلبك والبقاع بالسّلام القلبيّ، وأتوجه بالبركة الرّسوليّة إلى أبنائنا في هذه الأبرشيّة المباركة؛ ولا أنسى أيضًا أبناء هذه الأبرشيّة في بلاد الانتشار والذين تبقى هذه الأرض بأوابدها وتراثها في قلوبهم دمغة حنين إلى الوطن والكنيسة.
بوركت زحلة بأصالة أبنائها وبوركت قلوبكم العامرة بالمحبّة أيّها الإخوة. سلامي من القلب إلى قلوبكم".
بعد ذلك، جرى تبادل الهدايا الكنسيّة بين البطريرك يوحنّا العاشر وراعي الأبرشيّة المتروبوليت انطونيوس الصّوري.
أما بعد، ولأنّ أبناء زحلة يعتبرون أنّ المدينة هي مدينة غبطته، قدّم رئيس بلدية زحلة أسعد زغيب مفتاح المدينة للبطريرك يوحنّا العاشر؛، مؤكّداً "أنّ حضوركم يا صاحب الغبطة هو حضور يدلّ على الايمان الرّاسخ وحجارة الإيمان الصّامدة، وزيارة غبطتكم ستنحفظ في مدينة الإيمان والكنائس والثّقافة والعلم".