لبنان
24 أيلول 2019, 05:00

يوحنّا العاشر من زحلة: هذا الشّرق هو قطعة منّا وفيه ننغرس كأرز لبنان

في إطار الغداء التّكريميّ الّذي أقيم في زحلة على شرف المعتمد البطريركيّ لدى كنيسة روسيا المتروبوليت نيفين صيقلي في يوبيل كهنوته السّتّين، ألقى بطريرك الرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر كلمة قال فيها:

 

"أيّها الحضور الكريم،
نجتمع اليوم لنكرّم هامة أنطاكيّة بزغت في زحلة وأبزغت زحلة في قلوب محبّيها وهم كثر. نجتمع اليوم لنستذكر مسيرة ذاك الشّابّ الّذي شبّ على مخافة الله وشاب على محبّته ومحبّة كنيسته. نجتمع اليوم لنكرّم، والتّكريم ههنا لا يعني إسباغ كرامةٍ بل إعلانها جلية واضحة. نحن اليوم نقف بمهابة أمام محبّة حبرٍ جليل جلّلته سنو خدمته بإكليل الفخّار وخمّرته المحبّة الأنطاكيّة فانساب كبردونيّ زحلة ليعكس صفاء وطيبة أهلها. نقف اليوم في تكريم لسيّدنا "نيفن صيقلي" واسمه يتأتّى في اليونانيّة من اليقظة والصّفاء والانضباط. ولعلّ فيه من ينظر شيئًا من عراقة هذا الشّرق المستمدّة من عتاقة إيمان أنطاكية والمصقولة على أصالة زحلة والمزروعة كأرز لبنان والمفيضة لمحبّته ومحبّة أبنائه وسط زمهرير روسيا.
في مثل هذه الأيّام وقبل ستّين عامًا، مَثَل سيّدنا نيفن الزّحلاويّ الأصل بين يدي المثلّث الرّحمة المطران نيفن سابا الأنطاكيّ الأصل ليقول له: أنا على محراث الخدمة والخدمة رسوليّةٌ مستمدّةٌ من رسوليّة كنيسة أنطاكية ومن عراقة أحبارها العظام. يختصر سيّدنا نيفن في حياته هذه شيئًا من عظمة كنيسة أنطاكية ومن اتّقاد غيرة أبنائها ومن موقعها وسط العالم الأرثوذكسيّ.
مسيحيٌّ شرب من أصالة زحلة ومن لهفة أهلها. مصقولٌ على خدمة الرّبّ وكنيسته. شرب من معين أبيه المثلّث الرّحمة الخوري غفرئيل صيقلي. أوفده المطران نيفن الّذي أعطاه اسمه إلى روسيا ومنذ سبعينيّات القرن الماضي كان نيفن صيقلي سفيرًا لكنيسة أنطاكية وممثّلاً لبطريركها لدى البطريرك الرّوسيّ. وفي مهمّته هذه، لم يستطع ثلج روسيا أن يخمد شرارة الرّوح في قلبه فأحال الثّلج إكسير حياة التقت فيه أنطاكية وموسكو وتلتقيان على شهادة الإنجيل ومحبّة يسوع.
أعوامٌ وأعوام مرّت على المطران نيفن. وتكريمه الآن يختصر شيئًا من عتاقة عهدٍ عرفناه فيه. فعلى مثال المطران ميخائيل في القرن العاشر، والّذي عمّد أرض روسيا وشعبها، انبرى نيفن صيقلي ليعمّد في أزمنةٍ لم يكن فيها التّعميد مسموحًا.
زحلاويٌّ أصيل حمل زحلة بأصالتها وانفتاحها المسيحيّ في كلّ زمان. لبنانيٌّ أصيل شامخٌ كالأرز وسفير قضايا لبنان وهمومه إلى العاصمة البيضاء. مشرقيٌّ أصيل مختمرٌ بحبّ مشرقه وبحبّ ناسه من كلّ الأطياف. أنطاكيّ في الصّميم يرى في كنيسة أنطاكية عمود الحقّ للمسيح غسلت شباكه منذ فجر المسيحيّة وبثّت إنجيله على أفواه رسله وأصفيائه.
أصحاب السّيادة والسّعادة،
نجتمع اليوم في زحلة في قلب لبنان قلب الشّرق والعالم القديم كما اعتاد ابن زحلة الشّاعر الكبير سعيد عقل أن يقول. ورسالتنا للقاصي والدّاني، نحن كمسيحيّين منبثقون من قلب هذا الشّرق العظيم وملتحفون قلبه دائمًا. نمدّ أيدينا إلى العالم في انفتاحٍ وأصالةٍ ومحبّةٍ ستذوب أمامها كلّ الإيديولوجيّات من تكفير وعنفٍ وتزمّتٍ وإرهابٍ. نجتمع اليوم لنقول إنّ وجودنا ههنا مع إخوتنا المسلمين تحكمه الجغرافية ويمتِّنه التّاريخ ويكفله ويصونه صوت الحكمة والتّعقّل. كفى هذا الشّرق حروبًا. كفاه مسرحًا لمصالح الكبار. كفاه ساحة يُتغنّى فيها بحقوق أقلّيّةٍ وأكثريةٍّ. نحن كمسيحيّين لم نكن يومًا غرباء عن تاريخه. هذا الشّرق هو قطعة منّا وفيه ننغرس كأرز لبنان. لقد سددنا ضرائب الحروب دفاعًا عن وجودنا وأهلنا وناسنا وعيشِنا الواحد مع بقيّة الأطياف. وما جرى ويجري في سوريا من حربٍ آثمة وظالمةٍ، ما هو إلّا فصلٌ دامٍ دفعنا فيه ومع غيرنا الكثير الكثير لنبقى في الأرض الّتي شاءنا الرّبّ عليها. وما قضيّة مطرانينا مطراني حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ أكثر من ستّة أعوام، رغم كلّ الجهود الحثيثة والمشكورة، إلّا دليلٌ على ما جارت به الأيّام علينا من تعامي البعض وتباكي آخرين وتعاجز كثيرين في وقتٍ انتظرنا فيه، ولا نزال، لغة الأفعال لا الأقوال ممّن أنيط بهم ذلك.
نتطلّع إلى بلدنا لبنان ونرى فيه ذاك البلد الملتقى والمنارة. وندعو الجميع إلى اعتماد لغة الحوار والتّواصل صونًا للبنان ورأفةً بإنسانه. وهنا نؤكّد أنّ لبناننا يكبر بدعم مسيرة العهد في النّهوض بالأعباء وبالحفاظ على المؤسّسات وبتضافر جهود كلّ أبنائه ومن جميع الأطياف. لبنان يكبر عندما نفترق ساسةً بالسّياسة ونتّفق ساسةً بما يخصّ إنماءه وخير إنسانه عامّة. وما ملفّ الكهرباء والنّفط والبيئة والمال وغيرها من الملفّات إلّا دليل على أنّ اللّبنانيّين توّاقون أوّلاً وأخيرًا إلى العيش بكرامة قبل الدّخول في دهاليز السّياسة الخارجيّة.
نرحّب بسيادة المطران هيلاريون رئيس قسم العلاقات الخارجيّة في بطريركيّة موسكو وسائر روسيا وبالوفد المرافق له. ونبعث عبره بالسّلام القلبيّ إلى قداسة أخينا كيريل بطريرك موسكو وسائر روسيا وإلى كلّ إخوتنا في الكنيسة الرّوسيّة وإلى الشّعب الرّوسيّ عامّةً.
ونخصّ بالذّكر أيضًا سيادة راعي الأبرشيّة المطران أنطونيوس الصّوريّ قوّاه الله على محراث الخدمة الّتي ائتمنه عليها حصادًا وإكمالاً لمسيرة المثلّث الرّحمة المطران اسبيريدون خوري الّذي يحتلّ في قلبنا كلّ إكرامٍ وعرفان. رحمك الله يا سيدنا اسبيريدون وطيّب ثراك خالدًا في نفوس أبنائك في زحلة وفي قلوبنا جميعًا. بوركت هذه الأبرشيّة بناسها الطّيّبين وبقاعها الغالية من البقاع إلى الهرمل إلى بعلبك إلى قلبها زحلة وكلّ قراها الّتي تنبض بالمحبّة.
ختامًا، ومن القلب إلى القلب، إذ نكرّمكم اليوم يا صاحب السّيادة نكرّم كلّ عمّال حقل المسيح في الأرض الّتي تسمّت أوّلاً باسمه ونجلّ تلك الأصالة الّتي ما خرجت إلى الدّنيا إلّا لتبثّ عبق الإنجيل وسلام المسيح، له المجد إلى الأبد، آمين".