سوريا
30 نيسان 2019, 08:44

يوحنّا العاشر في إثنين الباعوث: نرفع قرابيننا في هذا اليوم من أجل سلام العالم أجمع

ترأّس بطريرك الرّوم الأرثوذكس يوحنّا العاشر قدّاس اثنين الباعوث، في الكاتدرائيّة المريميّة- دمشق. وألقى للمناسبة عظة قال فيها:

 

"المسيح قام، حقًّا قام!

"ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا. ونعمةً فوق نعمةٍ. لأنّ النّاموس بموسى أعطي، وأمّا النّعمة والحقّ فبيسوع المسيح صارا" . هذه خاتمة إنجيل القيامة بلسان القدّيس يوحنّا الإنجيليّ والّتي نسمعها في كلّ نهار فصح. والأجدر بنا أن نتأمّل هذا الكلام ونسقطه على واقعنا المعاش. المسيح له المجد يكمل في كلّ إنسانٍ فينا ما سقط من إنسانٍ قديم. يسوع المسيح هو آدم الجديد الّذي أعاد الجبلة البشريّة إلى الحضن السّماويّ. فيه وبه لنا ولكلّ النّاس ملء النّعمة وملء الحقّ والبرّ. ولعلّ أحوج ما يكون له إنسان اليوم هو أن يفتح ويبسط قلبه لتُسكب فيه نعمة الله العلي. وعندما تنسكب النّعمة في النّفس فإنّها تجلوها بالبرّ والحقّ والعدل والاستقامة.

وعيد الفصح هو عيد العبور بالنّفس البشريّة من عتاقة الزّمن الأوّل ورعونة القلب وفظاظته إلى إشراقة النّور والمحبّة والنّعمة في القبر الفارغ. عيد الفصح هو العبور من منطق العبوديّة والخوف بين البارئ والبرّيّةِ إلى منطق المحبّة والنّعمة. هو التّرقّي والتّقدّم من مجرّد التّعبّد عن مخافة وإجلال، وهو أمر مطلوب دومًا، وبلوغ التّعبّد المليء بالمحبّة والمفعم بالنّعمة والفائض بالرّحمة بين الخالق والخليقة. هذا العيد هو الذّي يجوز بالإنسان من عهد عتاقة النّاموس والشّريعة إلى عهد إنجيل المحبّة. هذا العيد هو فاتحةُ عهد الله المكتوبِ لا على ألواحٍ حجريّةٍ فحسب، لا بل على قلوبٍ لفظت حجريّتها وذابت محبّةً ببارئها الرّؤوف. هذا العيد هو الّذي يجوز بالإنسان من عهد المخافة إلى طور البنوّة، من لُجّةِ الوعيد إلى ضفّة الرّأفة الّتي اكتملت بيسوع المسيح ربًّا حلّ فيما بيننا، ربًّا أراق محبّته على الصّليب دمًا زكيًّا فأفاح للدّنيا عبير القيامة من جنبات القبر الفارغ.

وغير خافٍ عليكم، يا أحبّة، أنّ قيامة المسيح كانت نهاية جلجلة واعتلان نصرٍ. قيامته نهاية درب آلامٍ واعتلان مجدِ ربٍّ قائمٍ وأناسٍ وضعوا فيه رجاءهم. قيامة المسيح مسحٌ لدموع بطرس وشفاء لحرقة البتول. قيامته جلاء لوجل التّلاميذ وسلامٌ لنفوسهم الخائفة. قيامة يسوع تعزية لبكاء المجدليّة ويقينٌ لشكّ توما. فصح المسيح فصح نفوسنا نحن الّذين نعيه ربًّا يحمل ونحمل معه أثقال حياتنا وضغوطاتها. فصح المسيح فصح نفوسنا الّتي تعيه حاملاً معنا أوزار الحياة وطارقًا أبواب قلوبنا برجائه العذب ومكحّلاً حياتنا بفيض القيامة.

نرفع قرابيننا في هذا اليوم من أجل سلام العالم أجمع. نرفعها من أجل السّلام والطّمأنينة في بلادنا، في هذا الشّرق العظيم مهد المسيحيّة. نرفع قرابيننا مصلّين من أجل السّلام في سوريا الّتي اكتوت بنار الإرهاب. نرفعها من أجل كلّ مشرد ذاق ويلات الحرب وتاق إلى السّلام. لقد تلوّى الشّعب السّوريّ بنار الحرب والإرهاب الآثم. ونحمد الله أنّ الأمور تنحو إلى التّحسّن في أكثر المناطق. لكن، يبقى أن نقول كلمة حقّ وفي هذه الظّروف بالذّات. نريد هذا البلد آمنًا وواحدًا بكلّ بقاعه. نصلّي أن تنتهي فيه جبهات القتال ونصلّي أيضًا أن تزول ما تسمّى بخطوط التّماس والّتي يدفع فيها شعبنا الكثير الكثير إصرارًا منه ومنّا على البقاء في أرض الأجداد. نرفع الصّوت من جديد ونناشد الأسرة الدّوليّة رفع الحصار الاقتصاديّ الخانق الّذي يطبّق على النّاس كحربٍ صامتة.

لقد آن لصوت الحرب أن يُخنق في أرض السّلام، في هذا الشّرق الّذي أريد له أن ينشر إنجيل السّلام للدّنيا. من حقّنا كمواطنين أصلاء في هذا الشّرق أن نحظى بالأمان وبالسّلام. ومن حقّنا أيضًا ومن أخلاقيّات العالم، ألّا يتاجر بالملفّ المسيحيّ. نحن لسنا ورقةً تُباع وتشترى ولا أقلّيّةً يُتغنّى بضرورة حِمايتها. لنا دورنا ووجودنا التّاريخيّ والرّياديّ منذ ألفي عام، بغضّ النّظر عن الكثرة أو القلّة. نصلّي أن يزيح المسيح ثقل الحجر عن كلّ مشرّد ومخطوف ومفقود وأن يبلسم جراح النّاس كلّها.

نصلّي من أجل وحدة تراب سوريا بكلّ شبر من أراضيها بما فيها الجولان العربيّ السّوريّ والّذي يبقى في قلبنا مهما طال الزّمان أم قصر مهما اشتدّت عليه المؤامرات. ليس لأحد في هذه الدّنيا أن يضفي على الاحتلال شرعة السّيادة على أرض محتلّة. الجولان، الّذي بمياهه اعتمد يسوع المسيح، كان وسيبقى قطعة من كياننا وقطعة من هويّتنا المشرقيّة المسيحيّة والأنطاكيّة أيضًا. وأرضنا ليست سلعة للبيع ولا ورقة انتخابيّة بجيب أحد ولا محطًّا لمكرّمات زائفة من أحد لآخر.

نلفت ههنا إلى ملفّ المخطوفين ومنهم مطرانا حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي واللّذان أكملا ومنذ أيّام سنة سادسة من الخطف. وهنا نؤكّد ونقول: إنّ خطف هذين الأخوين يشكّل صفعةً في وجه منظومة القيم الإنسانيّة الّتي تستغلّ قُدسيّتها في كثير من الأحيان. وإنّ الصّمت الدّوليّ المهين والمستنكر تجاه هذا الملفّ لهو أقسى في كثير من الأحيان من مفاعيل الخطف المدان.

وفي هذا اليوم المقدّس نصلّي من أجل لبنان. إنّ رسالة لبنان والدّور التّاريخيّ المناط بهذا البلد يضعان أمانةً لدى الجميع بضرورة المحافظة على هذا الإرث التّاريخيّ. إنّ العيش الواحد والحفاظ على الميثاقيّة والابتعاد عن الشّحن الطّائفيّ وتحييد الخلاف السّياسيّ عن أولويّة المسؤوليّة الخدماتيّة هي أهمّ ما يبنى عليه المستقبل. نصلي ونأمل أن يبقى لبنان ساحة للتّلاقي والحوار ومساحة للحرّيّة البنّاءة لما فيه خير اللّبنانيّين جميعًا.

نصلّي أيضًا من أجل كلّ بقعة من هذا الشّرق. نصلّي من أجل العراق وفلسطين الجريحة وقدسها الشّريف وشعبها الأبيّ.

بسلام الفصح العظيم "المسيح قام" نتوجّه بالبركة والمعايدة لأبنائنا الأنطاكيّين في الوطن وفي بلاد الانتشار. نذكر ههنا أبناءنا في أنطاكية ولواء الإسكندرون والجوار وأبناءنا في الخليج العربيّ وفي أوروبا والأميركيّتين وأستراليا وسائر بلدان العالم. فليضئ نور المسيح قلوبكم يا أحبّة وليزنّر حياتكم بوهج محبّته وسلامه.

قام المسيح والظّلمة تهاوت.
قام المسيح والملائكة فرحت.
قام المسيح والأحزان تلاشت.

قام المسيح والخليقة تجدّدت.

قام المسيح فضمّ موتانا إلى قلبه الطّاهر ومسح من العيون كلّ دمعة.
كل عام وأنتم بخير.
المسيح قام، حقًّا قام!".