يوحنّا العاشر: لا يوجد فساد، يوجد فاسدون يعملون فسادًا، ويوجد صالحون يعملون صلاحًا
يا أحبّة، بعدَ الحدَثِ الّذي تمَّ أمس هنا في البلمند، وأعني به حفلَ تخرُّجِ طُلّابِنا في الجامعة في نهاية هذا العام الدّراسيّ، لا بدّ أن نتوقف عنده، لأنّه ليس حدَثًا بسيطًا، بِالنّسبة إلينا في كنيستِنا الأُرثوذكسيّة وبشكلٍ عامّ في لبنان، منذ سنوات بعيدة، حوالى عام ١٨٣٠م، كان الدّيرُ المدرسةَ الإكليريكيَّةَ، وهي المكانُ الّذي تتمّ فيه تهيئةُ مَن يُريدُون أن يُصبِحوا كهنة وتعليمُهم.
واجَهَت تلكَ المدرسةُ ظُروفًا صعبة، أُغلِقت أبوابُها في الحرب العالميّةِ لأسبابٍ معروفة، وأُعيد فَتحُها عِدّةَ مرَّات، إلى أن أُنشئ المعهدُ اللّاهوتيّ، سنة ١٩٧٠م، في أيّامِ البَطريرك الياس الرّابع، وكانَ أوَّلَ عميدٍ آنذاك، سيّدُنا اغناطيوس (هزيم).
وفي وقتٍ لاحِقٍ انطلَقَتِ الثّانويةُ بِفَرعِها الفرنسيّ، ومِن ثَمَّ الفرَع الإنكليزيّ، وضَمَّتا أعدادًا كبيرةً مِنَ الطُّلّاب. إلى سنة ١٩٨٨م، حين استَحصَلَ البطريركُ إغناطيوسُ الرَّابع آنذاك، على رخصةٍ رَسميّة، لإنشاءِ جامعةٍ، فكانت الانطلاقةُ مع كلّيّاتٍ ثلاث:
الألبا، معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، وكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة.
إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم. أَذكُرُ تمامًا، تَخريجَ الدُّفعةِ الأُولى، كانوا ٣٣ طالبًا، ونشكُرُ الرَّبَّ لأنَّ هذهِ الجامعةَ نَمت بِقُوّةٍ، فقد تخرَّجَ في هذا العام الدّراسيّ ٢٠٢٠ – ٢٠٢١م، ١٤٥٠ طالبًا تقريبًا في كُلِّ المجالاتِ والاختصاصات.
هذا مؤشِّرٌ هامٌّ جدًّا إذ يُثبِتُ أنّنا في مؤسَّساتِنا التّربويّة، ننشّئُ جيلاً جَديدًا من حيث الشّخصيّة، والعلم، والتّربية، والثّقافة، واللّغات، وهذا أمرٌ في غاية الأهمّيّة.
كُلُّنا يُدركُ أنَّ موضوعَ التّربيةِ أيّ التّنشئة أمرٌ أساسيّ، من هنا يأتي موضوعُ العائلةِ أوّلاً، لأنّها المدرسةُ الأُولى الّتي ينشأ فيها كلُّ إنسانٍ، لذلك نُشَدِّدُ على صَونِ العائلةِ المَسيحيّة، وهذا ما أولاهُ المجمعُ المُقدَّسُ الأخير عنايةً كبيرة، وتناوَلَ كيفيّةَ الحفاظِ على عائلاتِنا المَسيحيّةِ، من خلال التّنشئةِ المسيحيّة للأولادِ، وتربيتِهم لِمُواجَهةِ تحدّياتِ العصر.
وتأتي أهمّيّةُ موضوعِ المدرسةِ والجامعة أيضًا، فالطّالبُ الّذي ينتسبُ إلى جامعةِ البلمند، ويقضي فيها سنواتِ دراسته، في حماية العذراءِ مريم، يَكتَسِبُ إلى جانِبِ العلمِ والثَّقافةِ ميزاتٍ أخلاقيّة فريدة تُضفيها عليه نفحةُ هذه التّلّة البلمنديّة.
وفي نَظرةٍ إلى الوضعِ الّذي وَصلت إليه بلادُنا، إن منَ النّاحيةِ السّياسيّةِ- وكلُّنا نصليّ ونرجو أن يتِمَّ تشكيلُ حُكومةٍ في الأيّام المُقبلة، لِما فيهِ خيرُ لبنانَ واللّبنانيّين- أو من النّواحي المَعيشيّة والماليّة والاقتصاديّة، هذا الوضع الحَرِجُ الّذي وصلنا إليه، وفيه يواجه كلُّ مواطِنٍ تحدّياتٍ خطيرة، لاسيّما كلُّ ربّ عائلة لِجِهَةِ تأمين لُقمةِ عَيشِهِ والقدرة على الاستمرار وتعليم الأولاد... لذلكَ فسياسة الجامعة خلال السّنتين الماضيَتَين، وهذه المرّة الأُولى الّتي أتكلَّمُ فيها على هذا الموضوع، سياستُها أن تُسانِدَ أساتِذَتها ومُوظَّفيها في ظِلِّ انهيارِ اللّيرة، وأن تُبقي الأقساطَ دون تغييرٍ في سعر صرف الدّولار، مع العلم أنّ العديد من المؤسَّسات في لبنان أُغلِقت.
أمام التّحدّيات الكبيرة، نشكر الرّبّ، لأنّه بالحكمة والإدارة السّليمة وبالتّعاطي السّليم بين الإدارة والأهل والموظّفين والطّلّاب أُنجِزَ هذا العامُ الدّراسيّ، واستَطَعنا في خلاله تقديمَ خدمة كبيرة لأولادنا.
خصوصًا أنّ الجامعة قدّمت منحًا جامعيّة بقيمة كبيرة جدًّا.
رغم ذلك كُلِّه تَجِدُ مَن يقول: ما الّذي تُقَدِّمُه الكنيسة؟ نَشكرُ الرّبّ لأنَّنا عبر مؤسّساتِنا الكَنسيّةِ نقومُ بخِدمةِ البِلادِ وبتنشئةِ جيلٍ جَديد وهذا أهمُّ دورٍ، وجميعُ المُخلِصينَ مِمَّن يعملون معنا يَعرِفونَ ذلكَ جيِّدًا.
رسالتُنا أن نَجمَعَ، رسالتنا أن ننشّئ الإنسان الصّالح والواعي، لاحِظوا التّشرذُمَ وعدمَ التَّفاهم، بينَ الطّوائف، وبينَ السّياسيّين، كلُّ فريقٍ يهتَمُّ لنفسِه وينسى الآخر.
لذلكَ ذكرنا أمس في الصَّلاة الّتي تلَيتُها في مُستَهلِّ حفلِ التَّخرُّجِ، أن يقوّيَ الرّبُّ طُلّابَنا الخرّيجينَ ليحمِلوا الرّسالةَ الّتي تنشَّأوا عليها، كي يبقَوا شُهودًا للحقّ، للصّدقِ، للإخلاصِ للخدمة، لبناءِ الإنسانِ، وبناءِ المجتمعِ والوطن.
هل المشكلةُ في فقدانِ البنزين والمازوت؟ كلُّ إنسانٍ بحسبِ أدبيّاتِهِ، وأخلاقِهِ وتنشئتِهِ يَرسُمُ تاريخًا معيَّنًا، ويفَتَعِلُ مشاكِلَ معيَّنة. فعندما ينشأ رجال كبارٌ يتعلَّمون التّعالي عن مصالحِهم الشّخصيّة، وأن يَعملوا من أجلِ الآخر وبنائه، هذا يصبّ مباشرة في إيجاد الحلول للمشاكل الّتي تواجهنا في لبنان العزيز على قلوبنا. نحن نفخر بكلّ ما نقوم به على كلّ الأصعدة لاسيّما على الصّعيد التّربويّ. وكما تعلمون يوجد في سائر مطرانيّاتنا العديد من المراكز التّربويّة، لأنّنا نؤمن بأنَّ هذه رسالة الكنيسة، أن ننشّئ الإنسان الّذي يبتغيه الله، أن يكون إنسانَا يعي محبَّةَ الآخر، ويسعى معه لبناء عائلاتِنا ومجتمعاتِنا ووطنَنا، فنسيرُ دومًا نحو الأفضل.
نحن نصلّي بشكلٍ خاصّ من أجل الاستقرار في لبنان، وفي سوريا وفي العراق وفي فلسطين، كلّ منطقة الشّرق الأوسط الّتي تعاني وتواجه صعوبات كثيرة في أيّامنا.
نصلّي إلى الرّبّ، أن يُلهِمَنا كي نكونَ وحدةً متماسكة، حتّى من النّاحية الطّائفيّة، إذ لن ينهَضَ بلدٌ قائمٌ على الطّائفيّة بمعناها السّلبيّ.
نُصلّي ونعمل لتنمية روحِ المُواطَنة، واحترام كلِّ انسانٍ لأخيه الإنسان، وهذا الدّورُ الّذي تلعبُه المدرسةُ والجامعةُ والبيتُ، وهو أيضًا دورُ الكنيسةِ في تنشئة جيلٍ يتبنّى هذه المفاهيم والقيم والأخلاق، ويتعاطى في كلّ الأمور السّياسيّة والاجتماعيّة والتّربويّة والفلسفيّة والماليّة بأدبيّاتٍ وأخلاق ملؤها الصِّدقُ والاستقامة.
نصِلُ إلى موضوعِ الفسادِ، كيفَ انتَشر الفساد؟ لا يوجدُ فسادٌ، يوجد فاسدون يعملُونَ فسادًا، ويوجد صالِحونَ يعمَلون صلاحًا، ولذلكَ أعودُ وأُشَدِّدُ على أهمّيَّةِ التّربيةِ في بناءِ الأوطان.
صلاتُنا للرّبِّ، أن تكونَ هذه التّلّة البلمنديّة واحةً روحيّة وتربويّة لتنشئةِ أجيالِ المُستقبَل على الأخلاقِ والإيمانِ والمحبّةِ وبِناءِ الأوطانِ بِشفاعةِ العذراءِ مريمَ حاميةِ هذه التلّة وحارِستِها.
مهما اشتدَّتِ الصِّعابُ نحن باقون. أسألُكم جميعًا، ألّا تبقى عيونُكم شاخصَةً إلى المهاجرِ، وأن لا يكون استعدادُكم إلى حزم الحقائب والسّفر. فلنتحمّل، ولنصمُد، ولنبقَ لنواجِهَ معًا، نحن أقوى بمقدار تعاضُدِنا، لن نرزَحَ تحت ثقل الصُّعوبات، وبذلك نحافظ على عائلاتِنا، وكنيستِنا، ولُبنانِنا. والرّبُّ هو المبارَك والمُمَجَّد إلى الأبد، آمين."