لبنان
14 تشرين الثاني 2022, 09:45

يوحنّا العاشر دشّن بناء وقف دير راهبات سيّدة صيدنايا البطريركيّ في حاصبيا

تيلي لوميار/ نورسات
قام البطريرك يوحنّا العاشر بتدشين بناء وقف دير راهبات سيّدة صيدنايا البطريركيّ في حاصبيا وذلك بحضور عدد كبير من الشّخصيّات الرّسميّة والدّينيّة والاجتماعيّة والأمنيّة، بالإضافة إلى حشد شعبيّ كبير من أبناء المنطقة والجوار.

تخلّلت الاحتفال كلمات لكلّ من رئيس بلديّة حاصيبا السّيّد لبيب الأحمر ومتروبوليت صور وصيدا وتوابعهما المطران الياس الكفوري الّذي قال: ""هذا هو اليوم الّذي صنعه الرّبّ . فلنفرح ولنتهلّل به " ( مز 117: 24).

اليوم تفرح حاصبيا بقدومكم وتتهلّل. تفرح لأنَّ إمام أحبار أنطاكية يباركها بحضوره بعد طول غياب، آتيًا ليزرع فيها مقام السّيّدة العذراء (سيّدة صيدنايا) المحجّ الثّاني للمسيحيّين بعد القُدس.  

حاصبيا "أم السّبع كنائس" تلبس اليوم حلّتها الجديدة بتكريس مقام السّيّدة، بقرب كنيسة القدّيس العظيم في الشُّهداء جاورجيوس اللّابس الظَّفَر (الخضركما يسمّيه المسلمون). حاصبيا تميَّزتْ بعيشها المشترك ووحدتها الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيّين والموحِّدين الدّروز منذ قديم الزّمان. يعيش أبناؤها عائلة واحدة دون تفرقة أو تمييز بين مواطن وآخر فَهُم متّحدون في السّرّاء والضّرّاء في مواجهة كلّ الصّعاب والتّحدّيات، والكلّ سواسيّة أمام الله وأمام القانون. هذه الوحدة ناضل واستشهد من أجلها كمال بك جنبلاط . كما ناضل من أجلها رجل الاستقلال المير مجيد أرسلان.

أيّها الأحبّاء: نجتمع هنا في سفح جبل الشّيخ (جبل حرمون) كما يسمّيه الكتاب المقدّس حيث تجلّى السّيّد المسيح على قمّته مع النّبيَّيْن موسى وإيليّا، والرّسل الثّلاثة بطرس ويعقوب ويوحنّا. كما تطلّ علينا خلوات البيّاضة ببركاتها فتزيد المشهد جمالاً ورونقًا وقداسة .

صاحب الغبطة: إنّ قدومكم إلى عاصمة وادي التّيم يذكِّرنا بتاريخ هذه المنطقة المجيد. تاريخ النّضال المشترك في سبيل المحافظة على السّلم الأهليّ وترسيخ الوحدة الوطنيّة (هذه الوحدة هي سلاحنا الأمضى في الدّفاع عن وطننا والحفاظ على كرامة شعبنا).

منطقة جنوب لبنان أعطت رجالاً عظماء نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: فارس بك الخوري من الكفير. نسيب أفندي غبريل. والمحافظ إسكندر غبريل. الأمير خالد شهاب. الدّكتور أسعد قطيط من حاصبيا. سلام الرّاسي "شيخ الأدب الشّعبيّ" من إبل السّقي. الدّكتور مايكل دبغي "أعظم طبيب قلب في أميركا" من مرجعيون. الوليد غلمية "مدير المعهد الوطنيّ للموسيقى" من مرجعيون أيضًا. والشّاعرين جورج وفؤاد جرداق والدّكتور منذر الحوراني من مرجعيون أيضًا وأيضًا.  

ولا يسعنا في هذا المقام إلّا أن ننوّه بمساهمة الإخوة بني معروف في بناء استقلال لبنان والحفاظ على عروبته، على ما جاء في مقدّمة اتّفاق الطّائف الّتي أصبحت جزءًا من الدّستور "لبنان وطن نهائيّ لجميع أبنائه. عربيّ الهويّة والانتماء" لبنان بلد الحرّيّة والانفتاح. بلد الفكر والجمال. مهبط الأديان وموئل الثّقافات. إنّ تعدّد الثّقافات في لبنان وتفاعلها أعطى العالم نموذجًا فذًّا في الرّقيّ والحضارة والعيش الكريم.

إنّ منطقة وادي التّيم رائدة في المجالين الرّوحيّ والثّقافيّ.

فمن النّاحية الرّوحيّة: هنا يتعانق النّبيّ إيليّا (مار الياس الحيّ) مع الشّيخ الفاضل (في عين عطا). برعاية خلوات البيّاضة حيث ينصرف المؤمنون للتّأمّل والعبادة والتّخشّع أمام الله عزّ وجلّ على وقع أجراس الكنائس الّتي تُرَجِّعُ صداها جبال ووديان المنطقة.  

أمّا من النّاحية الثّقافيّة: فإنّ المكتبات ملأى بالمؤلّفات الّتي هي عصارة فكر أبنائها الّذين خاضوا كلّ المجالات فأبدعوا أيّما إبداع.

أمّا بعد: فإنّ وجود مقرّ دائم لدير سيّدة صيدنايا في حاصبيا بركة مضافة. لا بلّ هو نعمة من الله. لأنّ شفاعة سيّدتنا مريم العذراء وبركتها تشمل المنطقة بأسرها . كم نحن بحاجة، في هذه الظّروف الصّعبة إلى معونتها من أجل خير وسلام وازدهار لبنان.

شكرًا يا صاحب الغبطة على هذه المكرمة الّتي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بإذن الله. هذا العمل يذكّرنا بشعار بطريركيّتكم الّذي رفعتموه عند جلوسكم على عرش أنطاكية: "بالنّعمة ننمو، وبالخدمة نسمو، وبالمحبة يتناسق البنيان" لقد بدأتم تطبيق هذا الشّعار من خلال ما قمتم به من أعمال مجيدة ولا زلتم. والشّكر أيضًا موصول إلى مَن سعى وساهم وتبرّع. وعلى رأسهم رجل الخير والعطاء المحسن الكبير الأستاذ غسّان شحاده قنتيس. نشكر أيضًا الجنديّ المجهول حارس الكنيسة وخادم أوقافها، الوكيل الأمين، الابن الرّوحيّ فارس اللّحّام على جهوده المتواصلة وتضحياته. وأخيرًا وليس آخرًأ الشّكر كلّ الشّكر، بعد الله سبحانه وتعالى لأهالي حاصبيا الكرام وخاصّة المجلس البلديّ برئاسة الأستاذ لبيب الحمرا على احتضانهم هذا المشروع الحيويّ .

عاشت الشّراكة الوطنيّة بين أهل الجنوب. عشتم وعاش لبنان".

 

ثمّ كانت كلمة للبطريرك يوحنّا عبّر فيها عن أهمّيّة هذا التّدشين وعن عراقة روابط الأخوّة بين جميع مكوّنات هذا الوطن، فقال: "على إسم العذراء مريم أردنا أن يكون اجتماعنا اليوم. وعلى عبق بخور شاغورة صيدنايا جئنا نلاقي وجوهكم الطّيّبة. من مجد أنطاكية المسيحيّة، جئنا حاملين في صلواتنا حاصبيا بأهلها الطّيّبين وبجوارها الرّحب. ومن شاغورة صيدنايا الّتي تبخّر ثرى حرمون، الجبل الكتابيّ الأشمّ، جئنا نحيّي جنوب العزّ وبقاع الشّهامة ولبنانَ الغالي الّذي يستمدّ اسمه من بياض الثّلج المكلّلِ قممه الشّامخة والمستمدِّ سطوعَه من شموخ وصلابة الأرز.

أتوجّه بالشّكر بادئ ذي بدء لله العليّ القدّوس الّذي جمعنا اليوم وارتضانا مذيعين بهاء مجده ببهاء لقيانا. وأشكر أيضًا الإبن الرّوحيّ غسّان شحاده قنتيس الّذي جادت أريحيته وترجم محبّته لكنيسته فشيّد هذ البناء وأعطى بتهليلٍ فكان مصداقًا لقول الرّسول بولس "إنّ الله يحبّ المعطي المتهلّل".

ومن وجه غريغوريوس الرّابع حدّاد بطريرك أنطاكية وابن عبيه بتاريخها وأعلامها يحلو لي ويطيب أن أحيّي إخوتنا في طائفة الموحّدين الدّروز بني معروف. أحيّيكم اليوم إخوتي الحاضرين وأؤكّد أنّنا وإيّاكم أبناء الجبل الأشمّ وأبناء البقاع الرّحب وأبناء كلّ ذرّةٍ من تراب هذا الوطن الّذي يجمعنا لا بل يضمّنا دومًا إلى ترابه الّذي نعشق. أستذكر اليوم وإيّاكم بعض ما قاله هذا البطريرك الحكيم ابن جبل لبنان ومطران طرابلس لاحقًا وبطريرك أنطاكية 1906-1928: "إنّني أحبّ أبناء وطني من جميع المذاهب على السّواء. ولا فرق بينهم عندي. ألستُ وإيّاهم أبناء أب واحد وأمّ واحدة. أوَلسنا جميعًا صنعة خالق واحد. أوَ لسنا نسكنُ أرضًا واحدة ونستنير بضوء شمس واحدة ونستظلُّ بسماء واحدة وترفرف فوقنا رايةٌ واحدة هي راية الوطن العزيز؟ أوَ لسنا نحن والمسلمون توحّدنا جامعة الانتساب إلى أرض واحدة ووطن واحد؟".  

هذا لسان حال بطريرك العرب كما لقّبه معاصروه. هذا لسان حاله ولسان حال بطاركة أنطاكية دومًا وأبدًا. هذا لسان حال كنيسة أنطاكية الأرثوذكسيّة الّتي جمعت الكلّ دومًا. وليس غريبًا ولا مستغربًا أن يكون أربعةٌ من بطاركتها في القرن العشرين من أبناء جبل لبنان وهم غريغوريوس الرّابع حدّاد ابن عبيه الّذي لم يعرف رغيفه التّمييز بين مسيحيّ وغيره أيّام مجاعة الحرب الأولى وأرسانيوس حدّاد ابن عبيه أيضًا وثيودوسيوس السّادس بو رجيلي ابن بحمدون والياس الرّابع معوّض ابن جورة أرصون الّذي وعلى غرار أسلافه إنجبل بالعيش الواحد وترجمه في محطّاتٍ ومحطّات كان أبرزها مشاركته في مؤتمر لاهور- القمّة الإسلاميّة من أجل القدس سنة 1974 فكان صوتًا مسيحيًّا أرعد حقًّا في لاهور فأكّد أنّ قضيّته الأولى والأخيرة كمسيحيّ هي القدس بما تحمل من رمزيّةٍ. لم يعرف إلى القوقعة سبيلاً وكان لسان حال كنيسة أنطاكية الّتي ترى في وجه الآخر بعضًا من رحمانيّة الله.

نجتمع اليوم لنؤكّد أنّنا كمشرقيّين، مسيحيّين ومسلمين من كلّ الأطياف، مجبولون من رحم هذه الأرض ومن كنف هذا الجبل ومن أريحيّة هذا السّهل. نجتمع لنؤكّد أنّنا أبناء هذه الدّيار. من ترابها عُجِنَّا وإلى ثراها سنعود إلى جوار أجدادنا مهما قسى عليها وعلينا وجه التّاريخ. نحن معكم ومنكم يا إخوة ونبقى وسنبقى كما تبقون أنتم من رحم هذه الأرض المشرقيّة. معًا بنينا أديارنا ومعًا بنينا خلواتنا وصوامعنا. معًا بنينا كنائسَ ومعًا بنينا جوامع. معًا عشنا ومعًا سنعيش رغم وعورة التّاريخ ورغم صواعده ونوازله. نحتنا من صخر هذه الأرض معابدنا عربون عرفانٍ لساكن السّماء الّذي عبّرنا عنه بالنّور. والنّور وجدناه في النّفس ومن النّفس مشرقًا أوّلاً وأخيرًا.

نجتمع اليوم في حاصبيا وعلى مقربةٍ من عيد الاستقلال. نجتمع وعلى مقربةٍ منّا قلعة راشيّا الّتي ضمّت قبل حوالي ثمانين عامًا بين جدرانها رجالات الاستقلال. لم يسأل المستعمر يومها عن دينهم وعن طوائفهم. كانوا من كلّ الأطياف ومن كلّ بقاع هذا الوطن الحبيب لبنان. بتضامنهم وتكاتفهم لا بغيره نالوا استقلال أرضهم. نحن اليوم نستذكر هؤلاء ونقول كم نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ في هذه الأيّام الّتي يعاني فيها لبنان من الفراغ أو الشّغور- سمّوه ما أردتم- في سدّة الرّئاسة الأولى.

نحن بحاجةٍ إلى رجال دولةٍ يعون ويثقون ويدركون، وعلى الرّغم من وجود تأثيرات أو ارتدادات خارجيّةٍ، أنّ انتخاب رئيسٍ هو أوّلاً وآخرًا مسؤوليّة نوّاب الأمّة دون سواهم وأنّ التّحجّج بتوازنات الخارج ما هو إلّا ذرٌّ للرّماد في العيون للتّهرّب من مسؤوليّةٍ تاريخيّةٍ أنيطت بهم وحدهم. نقول هذا ونهيب بنوّاب الأمّة تحمّل مسؤوليّاتهم التّاريخيّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة اللّبنانيّة. لبنان لا يتحمّل أن يكون محطًا للتّرف السّياسيّ. ولا يتحمّل أن تكون منابره موطنًا للمناكفات وأن تكون مؤسّساته مرتعًا للاهتراء وأن يكون إنسانه لقمةً للفقر وللعوز وللتّهجير.  

ندعو من ههنا إلى إحقاق العدالة في ملفّ انفجار مرفأ بيروت ذاك الجرح الّذي لم يندمل منذ أكثرَ من عامين. وإذ نطلب العدالة في هذا الملفّ، نصلّي من أجل الّذين قضوا وانتقلوا سائلين لهم الرّحمة الإلهيّة. نصلّي من أجل الجرحى ونسأل الله أن يعزّي قلوب الجميع. نصلّي أن يلهم الله المسؤولين لما فيه خير بلدنا لبنان.

يكفي هذه الأرض ما واجهت وتواجه. ويكفي إنسانَ هذا الشّرق ما مرَّ عليه من ويلات طالت الجميع. ليس أوّلها ولا آخرها ما جرى في سوريا وما يجري إلى الآن من حصار اقتصاديّ يطال أولّاً وأخيرًا إنسان هذه المنطقة.

نقول هذا ونضع أمام العالم أجمع قضيّة مطراني حلب يوحنّا إبراهيم وبولس يازجي المخطوفين منذ ما يقارب السّنوات العشر. إنّ قضيّتهما تختزل شيئًا يسيرًا ممّا عاناه ويعانيه إنساننا المشرقيّ الّذي يرفض أن يكون سلعةً في سوق مصالح الدّول الّتي تصمّ آذانها في كثيرٍ من الأحيان وتستيقظ في أحيانٍ أخرى.

نفتتح اليوم هذا الدّير الصّامت وسط عالمٍ يعجّ بضجيج الحروب. نفتتح هذا الدّير على اسم العذراء، تلك الفتاة الصّامتة وسط ضوضاء هذا العالم، تلك النّقيّة السّاهرة على كلّ مريضٍ، تلك الخفرة الّتي ترقّب هذا العالم المترنّح تحت أمواج الصّلف. نفتتح هذا المكان لنقول إنّ جبروت صمتها أقوى من بليغ الكلام. نفتتح هذا المكان لنقول إنّ جبروت صمت الصّلاة أقوى من أزيز الحروب ومن قعقعة النّزاعات.  

"إن لم يبن الرّبّ البيت باطلاً يتعب البنّاؤون" هكذا يقول الكتاب المقدّس. والرّبّ بنى فينا وفيكم إخوتي صورة مجده فانجلت صورة مجده في البشر عمرانًا في الحجر. تبارك إلهنا أبو الأنوار وبوركت تلك الجهود النّيّرة الّتي زرعت صيدنايا بما تحمل في قلب حاصبيا. بوركت وجوهكم الطّيّبة إخوتي الحاضرين الّتي ينعكس بتجلّي أخوّتها ووئامها وتآلفها ومحبّتها شيءٌ من جلال العليّ القدّوس، له المجد والرّفعة إلى الأبد آمين".

 

في الختام، قلّد البطريرك يوحنّا العاشر السّيّد غسّان قنتيس وسام القدّيسين بطرس وبولس من رتبة كومندور تقديرًا لتقديماته.  

 

بعد ذلك انتقل الجميع إلى مبنى الدّير حيث ترأّس البطريرك صلاة التّدشين ونضح المكان بالماء المقدّس. هذا وقد خدمت الصّلاة جوقة معهد القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ اللّاهوتيّ في البلمند.

تجدر الإشارة إلى أنّ البطريرك يوحنّا العاشر كان قد زار قبل وصوله إلى حاصبيا دار المطرانيّة في مرجيون كما وقام بزيارة خلوات البيّاضة بعد انتهاء احتفال التّدشين.