وصيّة من البابا فرنسيس إلى مرسلي الرّحمة، ما هي؟
وللمناسبة، ألقى الأب الأقدس كلمة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "أردت أن ألتقي بكم مرّة أخرى لأنّي أوكلت إليكم الخدمة الأعزّ على قلبي: أن تكونوا أداة فعّالة لرحمة الله. أرى أنّ عدد مرسلي الرّحمة يزداد كلّ عام. وهذا الأمر يمنحني الفرح، لأنّه يعني أنّ حضوركم في الكنائس الخاصّة يعتبر مهمًّا ومؤهّلًا. كما كتبت في الدّستور الرّسوليّ Praedicate Evangelium "تتمّ البشارة بشكل خاصّ من خلال إعلان الرّحمة الإلهيّة، من خلال أساليب وتعابير متعدّدة. ولهذه الغاية، يساهم العمل المحدّد لمرسلي الرّحمة بطريقة خاصّة". لذلك آمل أن تتمكّنوا من أن تنموا أكثر، ولهذا أوجّه أمنيتي إلى الأساقفة لكي يحدّدوا كهنة قدّيسين ورحماء، ومستعدّين للمغفرة، لكي يصبحوا مرسلين للرّحمة.
في لقائنا الأوّل (٩ شباط فبراير ٢٠١٦) توقّفت لأتأمّل معكم في شخصيّة نوح، وحول البطّانيّة الّتي وضعها عليه أبناءه لكي يحموه من عار عريته. في تلك المناسبة دعوتكم إلى "تغطية الخاطئ بغطاء الرّحمة، لكي لا يخجل بعد الآن ويستعيد فرح كرامته البنويّة". في لقائنا الثّاني (١٠ نيسان أبريل ٢٠١٨)، بكلمات النّبيّ أشعيا، طلبت منكم أن تكونوا علامة عزاء لكي يشعر الّذين يقتربون منكم بأنّ الله لا ينسى أحدًا أبدًا، ولا يتخلّى عن أيّ شخص لدرجة أنّه أراد وشم اسم كلّ مخلوق على يده. أمّا اليوم فأرغب في أن أقترح عليكم شخصيّة بيبليّة أخرى يمكنها أن تُلهم خدمتكم، وهي راعوت، المرأة الموآبيّة الّتي، على الرّغم من قدومها من بلد أجنبيّ، دخلت بشكل كامل في تاريخ الخلاص. والسّفر المخصّص لها يقدّمها على أنّها جدّة داود الكبرى ويذكّرها إنجيل متّى بين أسلاف يسوع. كانت راعوت فتاة فقيرة من أصل متواضع؛ أصبحت أرملة فيما كانت لا تزال شابّة وتعيش في بلد أجنبيّ يعتبرها دخيلة ولا تستحقّ حتّى تضامن الآخرين. إنّها حالة لا يمكن لأحد في ثقافة اليوم أن يفهمها تمامًا. لقد اعتمدت راعوت دائمًا على الآخرين في كلّ شيء: قبل الزّواج اعتمدت على والدها وبعد الزّواج على زوجها؛ كأرملة كان يجب أن يحميها أبناؤها، ولكن لم يكن لديها أبناء؛ كانت مهمّشة في القرية الّتي تعيش فيها، بدون دعم وبدون أيّ دفاع. بإختصار، كانت حياتها من بين أسوأ ما يمكن تخيّله ويبدو أنّها لم يكن لديها مستقبل.
وكما لو أنّ كلّ هذا لم يكن كافيًا، يضيف الكاتب المُلهم أنّ الشّخص الوحيد الّذي كانت راعوت مرتبطة به هو حماتها نُعمي. ولكن، حتّى حالة نُعمي لم تكن أفضل بالتّأكيد: لقد كانت أرملة وفقدت ابنيها وكانت متقدّمة في السّنِّ لكي تُنجب آخرين؛ لذلك كان مقدّر لها أن تموت دون أن تترك نسلاً. فقرّرت نعمي، الّتي كانت قد هاجرت إلى أرض موآب، أن تعود إلى بيت لحم، بلدها الأصليّ، وبالتّالي كان عليها أن تواجه رحلة طويلة ومرهقة. لكن نعمي كانت تعتقد أنّ الله لم يكن راضيًا عنها، وتؤكّد ذلك بوضوح: "يد الرّبّ قد ارتفعت عليّ". ووصل حزنها إلى درجة أنّها لم تعد تريد أن يُطلق عليها اسمها نُعمي، الّذي يعني "حلوتي"، بل مُرَّة. على الرّغم من كلّ هذا، قرّرت راعوت أن تربط حياتها بحياة حماتها وبقناعة قالت لها:"لا تلحّي عليّ أن أتركك وأرجع عنك، فإنّي حيثما ذهبت أذهب وحيثما بتّ أبت شعبك شعبي وإلهك إلهي، وحيثما تموتي أمت! وهناك أدفن. ليصنع الرّبّ بي هكذا وليزد هكذا إن فرّق بيني وبينك غير الموت". كلمات سخيّة حقًّا ولاسيّما شُجاعة، لأنّ المستقبل الّذي ينتظر راعوت لم يكن هادئًا بالتّأكيد.
سافرت المرأتان إلى بيت لحم، ولكن كان يتعيّن على راعوت أن تذهب كلَّ يوم للبحث عن الطّعام لتعيش؛ وكانت أيّامها تمرّ في عدم اليقين وعدم الاستقرار. ويأتي من الطّبيعيّ أن نسأل: هل كانت راعوث محقّة في الارتباط بحماتها؟ كانت لا تزال شابّة، وكانت بالتّأكيد ستجد زوجًا آخر في موآب... بإختصار، لماذا هذا القرار الجَسِر؟ يقدّم الكتاب المقدّس إجابة أولى: لقد وثقت راعوت بالله وتصرّفت من منطلق مودّة كبيرة تجاه حماتها المسنّة، الّتي لولا ذلك لكانت ستبقى وحدها وتُترك. لكنَّ قصّة راعوت ستحظى بنهاية سعيدة: فبينما كانت تلتقط وراء الحصّادين، التقت ببوعز، وهو نبيل ثريّ ونالت حظوة في عينيه؛ واعترف أنّ سخاءها إزاء حماتها قد منحها كرامة، لم تعد تُعتبر بموجبها أجنبيّة، وإنّما جزءًا من شعب إسرائيل. لقد نالت المرأة الأجنبيّة والفقيرة، الّتي أُجبرت على البحث عن طعامها اليوميّ، مكافأة وافرة على أمانتها وصلاحها. وبالتّالي نجد استباقًا لكلمات نشيد مريم، في حياة راعوت: "رفع المتواضعين [...] واشبع الجياع خيرًا".
يمكننا نحن أيضًا أن نستخلص درسًا رائعًا لأنفسنا. لم تكن راعوت ابنة لابراهيم بحسب الدّمّ، بقيَت موآبية وسيُطلق عليها هذا الاسم دائمًا، ولكنَّ أمانتها وسخاءها سمحا لها بدخول شعب إسرائيل بكلّ الحقوق. إنَّ الله في الواقع لا يتخلّى عن الّذين يسلِّمون أنفسهم إليه، بل يذهب للقائهم بمحبّة تفوق كلّ رغبة. لقد أظهرت راعوت صفات الرّحمة عندما لم تترك نعمي وحدها، بل شاركتها مستقبلها؛ عندما لم تكتفِ بالبقاء بالقرب منها، لكنّها شاركتها الإيمان وخبرة أن تكون جزءًا من شعب جديد؛ وعندما كانت على استعداد للتّغلّب على جميع العقبات لكي تبقى أمينة. إنَّ ما نحصل عليه هو حقًّا وجه الرّحمة الّذي يتجلّى بالشّفقة والمشاركة. إنَّ صورة راعوت هذه هي أيقونة لكيفيّة التّغلّب على العديد من أشكال الإقصاء والتّهميش الّتي تُعشِّش في تصرُّفاتنا. إذا تأمّلنا في الفصول الأربعة الّتي يتألّف منها هذا السّفر القصير، سنكتشف غنى لا يُصدّق. هذه الصّفحات القليلة تُبرز الثّقة في محبّة الله الّذي يذهب للقاء الجميع. لا بل يظهر أيضًا أنّ الله يعرف الجمال الداخلي للأشخاص حتى لو لم يكن لديهم بعد إيمان الشعب المختار؛ فهو يتنبّه لمشاعرهم، ولاسيما لمشاعر الأمانة والوفاء والسّخاء والرّجاء الّتي تسكن في قلوب الأشخاص عندما يتمّ اختبارهم. وبالتّالي تكشف هذه الرّواية، في بساطتها، عن غنى معاني مدهش. فكوننا أسخياء يظهر على أنّه الخيار الصّحيح والشّجاع الّذي لا يجب أن يغيب أبدًا في حياتنا الكهنوتيّة.
أعزّائي مرسلي الرّحمة، إنَّ الله لا يتكلّم أبدًا في سفر راعوت. يأتي ذكره مرّات عديدة. وغالبًا ما تشير إليه الشّخصيّات، ولكنّه يبقى صامتًا. لكنّنا نكتشف أنّ الله يتواصل من خلال راعوت. كلّ بادرة طيّبة تجاه نعمي، الّتي كانت تعتبر أنّ الله قد أمرَّها، تصبح علامة ملموسة على قرب الرّبّ وصلاحه. من خلال هذه الصّورة، نحن أيضًا مدعوّون لكي نفهم حضور الله في حياة الأشخاص. غالبًا ما يكون المسار الّذي نختبره شاقًّا وصعبًا ومليئًا بالحزن أحيانًا؛ ومع ذلك، يضع الله نفسه على هذا الدّرب لكي يكشف عن حبّه. لكن يُترك الأمر لنا، من خلال خدمتنا، لكي نُعطي صوتًا لله ونُظهر وجه رحمته. لا ننسينَّ أبدًا أنّ الله لا يتصرّف في حياة الأشخاص اليوميّة من خلال أعمال جليلة ومهيبة، وإنّما بطريقة صامتة وحصيفة وبسيطة، لدرجة أنّه يتجلّى من خلال الأشخاص الّذين يُصبحون سرَّ حضوره. أرجوكم أن تُبعدوا عنكم جميع أشكال الحكم وأن تضعوا أمامكم على الدّوام الرّغبة في فهم الشّخص الّذي يقف أمامكم. لا تتوقّفوا أبدًا عند تفصيل واحد، وإنّما انظروا إلى مجمل حياته. إنَّ الله لا يتوقّف عند المظاهر، وإذا كان عليه أن يحكم انطلاقًا من الأخطاء فقط، فربّما لن يخلص أحد! هذه ليست طريقة التّعبير عن الرّحمة. لأنّ الرّحمة تعرف كيف تنظر إلى قلب الإنسان، حيث تختبئ الرّغبة، والحنين للعودة إلى الآب وإلى بيته.
هذه هي إذًا الوصيّة الّتي أتركها لكم: إحتفظوا دائمًا بغطاء الرّحمة في متناول يدكم، لكي تغلّفوا بدفئه جميع الّذين يأتون إليكم لينالوا المغفرة؛ ولكي تقدّموا التّعزية للّذين يعانون من الحزن والوحدة؛ وكونوا أسخياء مثل راعوت، لأنّه بهذه الطّريقة فقط سيعترف الرّبّ بكم كخدّامه الأمناء."