علوم
23 تشرين الأول 2024, 13:00

هل يحتاج الإنسان إلى لغة من أجل التفكير؟

تيلي لوميار/ نورسات
عندما سئل البريطانيّ برتراند راسل وهو فيلسوف وعالم الرياضيّات عمّا إذا كانت اللغة لها أهمّيّة بالنسبة إلى تفكير الإنسان، أجاب بشكل قاطع "نعم"، مؤكّدًا أنّ للغة أهمّيّة بالغة "من أجل إتاحة إمكانيّة التفكير، وأنْ لا وجود للتفكير من دون اللغة"، من موقع سكاي نيوز.

 

 

بعض النظريّات العلميّة اللاحقة حملت وجهة نظر مغايرة، لأنّها رأت أنّ النظر إلى الطبيعة في حدّ ذاته يكفي لدحض معتقدات برتراند راسل في هذا الشأن، حيث أنّ قرود الشمبانزي يمكنها أن تحلّ عمليّات حسابيّة بسيطة وقد تتفوّق على البشر في بعض الألعاب، وأنّ بعض أنواع الغربان تبتكر أدوات لاصطياد الفرائس، وذلك كلّه في غياب لغة واضحة للتواصل في ما بينها، بل إنّ بعض الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في اللغة سواء بسبب مشكلات عقليّة أو حوادث أو غير ذلك، يظلّ بمقدورهم التفكير والتعاطي مع مشكلات تتطلّب مستويات عالية من الوعي والفهم والإدراك.

الباحثة إيفلينا فيدورنكو، المتخصّصة في طبّ الأعصاب من معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في الولايات المتّحدة، ترى أنّ اللغة والتفكير في حقيقة الأمر هما كيانان منفصلان تمامًا، وأنّ مخّ الإنسان يتعامل مع كلّ وظيفة من الاثنين بشكل منفصل عن الآخر، وبالتالي فإنّ عقل الإنسان يمكنه التعاطي مع أعلى درجات التفكير بدءًا من حلّ المشكلات إلى المنطق الاجتماعيّ، من دون الحاجة إلى الاستعانة بأيّ لفظة أو تركيبة لغويّة.

وأوضحت الباحثة في دراسة أنّ الشخص الذي يعاني من فقدان كلّيّ أو جزئيّ للقدرة على التعامل مع اللغة المنطوقة، وهو ما يعرف باسم "الحُبسة" أو فقدان القدرة على الكلام aphasia يظلّ بمقدوره الإتيان بوظائف عقليّة جوهريّة بالنسبة إلى القدرة على التفكير.

وتقول فيدورنكو إنّها بدأت الاهتمام بدراسة الصلة بين اللغة والتفكير في مطلع القرن الحالي من منطلق أنّ عقل الإنسان يؤدّي وظائفه الإدراكيّة المختلفة بطريقة حوسبيّة هرميّة، وأنّ اللغة تعتبر نموذجًا مثاليًّا لهذا الهيكل الهرميّ، بمعنى أنّ اللغة تتكوّن من ألفاظ، ثمّ تتحوّل هذه الألفاظ إلى عبارات، وثمّ تتطوّر العبارات إلى جمل كاملة باعتبارها أوعية لتوصيل المعاني.

أشارت فيدورنكو، أنّها اعتمدت على أكثر من منهج بحثيّ للتيقّن من صحّة النظريّة الخاصّة بانفصال اللغة عن التفكير، حيث وجدت في خلال التجارب أنّ الأشخاص الذين يعانون من إعاقات لغويّة جسيمة بسبب تلف كامل في الفصّ الأيسر من المخّ من جرّاء التعرّض لحوادث، يظلّ بمقدورهم أداء وظائف تتطلّب التفكير، واستشهدت ببعض القبائل البدائيّة التي ليس لديها لغات خاصّة بها، والأطفال في مرحلة ما قبل الكلام، وبعض الفصائل الحيوانيّة المتطوّرة مثل القرود، حيث أنّ هذه النماذج يمكنها التفكير بشكل سليم من دون الاعتماد على قوالب لغويّة.

واستعانت فيدورنكو بنتائج بعض التجارب العلميّة التي أجريت في خلال الثمانينيّات والتسعينيّات من القرن الماضي التي كانت تعتمد على إجراء تصوير إشعاعيّ للمخّ إبّان القيام بوظائف معيّنة للتحقّق من معدّلات تدفّق الدم داخل أجزاء المخّ المختلفة في أثناء الانخراط في أنشطة معيّنة، وتبيّن أنْ، في وقت القيام ببعض العمليّات العقليّة مثل حلّ المسائل الرياضيّة أو الأحجيات أو القيام باختبارات تتعلّق بالذاكرة والتخطيط وآليّات اتّخاذ القرار، تظلّ أجزاء المخّ المسؤولة عن اللغة في حالة خمول وقتيّ.

وترى الباحثة فيدورنكو أنّ دور اللغة في الأساس هو نقل الأفكار بين البشر، وتوضح: "نحن لا نستطيع قراءة أفكار بعضنا البعض، وبالتالي فإنّنا بحاجة إلى وسيلة مرنة لنقل أفكارنا الداخليّة إلى المحيطين بنا، وهكذا يستطيع كلّ شخص تحديث قواعد المعلومات والمعارف التي يستند إليها كوسيلة للتفكير".  

وتأكيدًا لأهمّيّة اللغة بالنسبة إلى التفكير، تقول بأنْ على مدار العقود القليلة الماضية تطوّرت خصائص اللغات التي يتحدّث بها البشر، والتي يزيد عددها عن 7 آلاف لغة، ما بين منطوقة إلى لغة إشارة، على نحو يكفل توصيل الأفكار والمعلومات بشكل أفضل، ما يتيح سهولة الإدراك واستنباط الأفكار ثمّ نقلها إلى الأجيال التالية.

وردًّا على سؤال بشأن ما إذا كانت أنظمة اللغة والتفكير تتفاعل مع بعضها داخل مخ الإنسان، تقول إنّ علوم طبّ الأعصاب ليست لديها أدوات لقياس هذا الشكل من أشكال التفاعل، ولكنّ التطوّر الذي حقّقه العلم في مجال الذكاء الاصطناعيّ أتاح إمكانيّة ابتكار منظومات حوسبيّة لقياس خواص اللغة البشريّة مثل منظومة "جي بي تي 2" وما بعدها، ويمكن لهذه الأنظمة  

إنتاج عبارات لغويّة ذات مغزى وسليمة نحويًّا في الوقت ذاته، وهو ما يتّفق مع مفهوم أنّ النظام اللغويّ في حدّ ذاته ليس هو ما يؤدّي إلى التفكير.