لبنان
15 شباط 2022, 15:00

هكذا ودّعت الرّهبانيّة الباسيليّة الشّويريّة عميدها الأرشمندريت سمعان عبد الأحد!

تيلي لوميار/ نورسات
ودّعت الرّهبانيّة الباسيليّة الشّويريّة عميدها الأرشمندريت سمعان عبد الأحد في مأتم رسميّ وشعبيّ مهيب في كنيسة دير مار الياس الطّوق- زحلة، حيث ترأّس الصّلاة لراحة نفسه المطران إدوار جاورجيوس ضاهر ممثّلاً بطريرك الرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ، بمشاركة المطران عصام يوحنّا درويش، ورئيس عامّ الرّهبانيّة الشّويريّة الأرشمندريت برنار توما ولفيف الكهنة، بحضور راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت أنطونيوس الصّوريّ، النّائب البطريركيّ لأبرشيّة بيروت للسّريان الكاثوليك ورئيس اللّجنة الأسقفيّة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ المطران شارل ماتياس مراد، المعتمد البطريركيّ الأنطاكيّ للرّوم الأرثوذكس في ريو دي جانيرو المطران تيودور الغندور، النّائب الأسقفيّ العامّ الأرشمندريت نقولا حكيم والعديد من الكهنة والرّاهبات والفعاليّات الرّسميّة والوجوه الزّحلية والبقاعيّة وعائلة الرّاحل.

بعد الإنجيل المقدّس الّذي تلاه المتروبوليت الصّوريّ كانت كلمة لرئيس دير مار الياس الطّوق الأرشمندريت سابا سعد قدّم فيها لمحة مفصّلة عن سيرة الأرشمندريت سمعان عبد الأحد والمناصب الّتي تولّاها في الرّهبنة والحياة الوطنيّة اللّبنانيّة.

ثمّ تلا المطران ضاهر كلمة البطريرك يوسف العبسيّ الموجود خارج لبنان، عدّد فيها مزايا الكاهن الورع والمحبوب من الجميع، وقدّم التّعازي للرّهبنة الشّويريّة وأهل الفقيد وكلّ محبيه.

بدوره، رثا رئيس عامّ الرّهبانيّة الباسيليّة الشّويريّة الأرشمندريت برنار توما الأرشمندريت عبد الأحد بكلمات مؤثّرة فقال بحسب ما نشرت صفحة المطران درويش على فيسبوك: "عندما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ منارة كبرى كانت ترسل إشعاعاتِ خيرها ونورها في ربوع العالم. عندما يرحل العظماء تنفطر لذهابهم القلوب، لكونهم حماة الدّنيا وركنها الرّكين، وصمّام أمن قيمِها ومبادئها، وعظمة راحلنا أنَّه واحد من أولئك الّذين غابوا لتحضر الكلمة، ودفنوا لتثمر الرّسالة ووضعوا لترتفع الكنيسة، مقتفين في كلّ ذلك آثار معلّمهم الإلهيّ، الّذي على كونه غنيًّا افتقر لنستغني نحن بفقره، إنَّه من جيلِ من جاهدوا الجهاد الحسن، والّذين تعبوا وزرعوا في عهودٍ تكرّست للخدمة وما عرفت إلّا البناء في الإنسان ولأجل الإيمان. إنَّه مَشيبٌ على شباب، تمكّنت منه الشّيخوخة ولم تتمكّن من رغبته في الحياة وعيشها، ولا من إيمانِه بربّه ودعوته، ولا من حبِّه لكنيسته ورسالتها، ولا من تعلّقه برهبانيّته وقلقه عليها، نالت من جسده لكنّها لم تنل من رجاحة عقله، وصفاء ذهنه، ووقارِ حضوره، وبهاء سيرته، إنَّه ذاك الّذي تنسَّك الكلمة، وصلّى المواقف، وبشَّر بالسّيرة، إنَّه من العظماء الّذين دافعوا عن الإيمان، والتزموا قضيّة الإنسان كلّ إنسان وكلّ الإنسان، فأنْجَلوا السّياسة، وروحنوا العمل الاجتماعيّ بإتقانهم لغة الحبّ والتّضحية، إنَّه مِن زُمرة الّذين إن وعدوا وفوا وصدقوا، وإنْ فكروا نفذّوا وحقّقوا، إنَّه الأرشمندريت سمعان عبد الأحد، كبيرُ الرّهبانيّةِ وكبيرٌ في الرّهبانيّةِ، كبيرٌ في خدمتِهِ الرّسوليَةِ، وكبيرٌ ببساطتِهِ العميقة، وبنقائه المنذورِ للصّدقِ والمودّة، عميقٌ كالسّنديان، عاطرٌ كالصّنوبر، شامخٌ كالرّهبانيّة الّتي فداها بسني حياته، وطيِّبٌ كالدّوالي المتدلّية في كروم دير الطُّوَق، راسخٌ كالحبر في مطبعة دير الصّابغ على الورق، وصافٍ صفاء الزّيت في خوابي دير القرقفي إذا ما عبق، إنَّه المصطبغُ بماءِ النّواعير، والمقدَّسُ بميرونِ الأرز، إنَّه المالكُ زمام الحروف والمُجيدُ صناعة الكلمة، هو تلك الطّاقة الّتي تخفي خلف كلماتها ثورةً ألسنتُها من نار، إنّه ذاك الذّهبيّ القلم واللّسان، إنَّه الرّجل المغلوب بحبّه، تطغى عليه العاطفة وهو أُولى ضحاياها: حبّ الحياة، حبّ الخدمة، حبّ النّاس، حبّ المطالعة حبّ الكتابة وحبّ الإقدام، لقد نبض بالحبّ حتّى أتعب القلب، إنَّه يُظهر من خلال تقواه وعمله عمقَ إيمانِه، ونبل معدنه وطيب محبّته الّتي تدفعه لأن يقف ساعةً إلى جانب صديق، لا بل ساعتين ويومًا ويومين، ويسيرَ مع مُسائله خطوةً لا بل خطوتين وميلاً وميلين، وذلك على حساب راحته ومصلحته، يزيدُه التّعب عزمًا وعزيمةً بلذَّةٍ واندفاع. هو الّذي غمس ريشتَه بحبر قلبه، حتّى تجاوز بالحبّ نفسَه من أجل المحبوبين. حتّى تصحُّ فيه مقولة الشّاعر:  

صورةٌ تصاغ على جبين الدّهر معناها ومغزاها الحضور  

ترمي إلى ما نرنو اليه كلّنا فاحت من سرّ جمالها الزّهور  

ننظر كلّما شاء وشاء بنا الهوى فنحصد رياحين على مقام العشق تثور

أبونا سمعان، نشيّعُكَ وأنت ترقُدُ بسلام القدّيسين، بعد أن جاهدتَ الجهاد الحسن في التّضحية والسّهر والتّعب، وتحمُّل المشقّات أمام الجميع. إجتمعنا نتعلَّمُ منك كيف تكونُ النّفوسُ الكبيرة، وكيف تعصِفُ الرّياحُ العاتية بتلك الأشجار المتجذرّة فتهويها لكنّها لا تسقطُها، اجتمعنا نستذكر تلك الابتسامة العفويّة وهذا الفرحُ الطّفوليّ، على الرّغم من أنَّه تصُحَّ فيكَ كلماتُ بولس الرّسول عن نفسِه: "أنا في الأتعاب أكثر، في السّهر أكثر، في الاحتمال أكثر، في الأخطارِ والشّدّةِ أكثر، في الأسفار والضّيقات مِرارًا..." لقد انحفرت فيك كلمات الرّسول القائل: "من يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا أحترق أنا، لقد صرتُ كلّاً للكلّ لأربح الأكثرين" أليس هذا هو حالُكَ: تلاعب الأطفال وتُدلّلُهم، تهذّب الشّبابَ وتنصحُهم، تحاكي الكبارَ وترافقُهم تجالسُ الشّيوخَ وتسامرُهم؛ للصّغار أنت الاهتمامُ واللّباقة، وللكبار أنت الإقدامُ والشّجاعةٍ، في الحزن أنت الدّمعة وفي الفرح أنت البسمة. إنَّك ذاك الفولاذيُّ الصّلب، الّذي لم ينكسر ولم ينحن إلّا لضعف الجسد ولم ينطفئ إلّا بالموت" .

وفي نهاية الجنّاز ألقى النّائب سليم عون كلمة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون عدّد فيها مزايا وصفات الرّاحل وقدّم التّعزية للرّهبانيّة وعائلته، وقلّده بإسمه وسام الاستحقاق اللّبنانيّ الفضّيّ ذو السّعف تقديرًا لعطاءاته وتخليدًا لذكراه.

ثم حمل النّعش على أكتاف الرّهبان والكهنة الّذين طافوا به في أروقة الدّير وساحته ووري الجثمان في مدافن الدّير.