هكذا تحمل نذور الفقر والعفّة والطّاعة النّور إلى العالم!
وفي تأمّله قال البابا فرنسيس بحسب "فاتيكان نيوز": ""هاءنذا آت، اللّهمّ لأعمل بمشيئتك". بهذه الكلمات يُظهر كاتب الرّسالة إلى العبرانيّين التزام يسوع الكامل بمخطّط الآب. نقرأها اليوم في عيد تقدمة الرّبّ إلى الهيكل، واليوم العالميّ للحياة المكرّسة، في يوبيل الرّجاء، في سياق ليتورجيّ يتميّز برمز النّور. وأنتم جميعًا، أيّها الإخوة والأخوات، الّذين اخترتم درب المشورات الإنجيليّة، قد كرّستم أنفسكم، كـ"عروس أمام عريسها [...] يغمرها نوره"، إلى مخطّط الآب المنير عينه الّذي يعود إلى بدايات العالم. وسيتحقّق بالكامل في نهاية الأزمنة، ولكنّه يُصبح مرئيًّا من خلال "العجائب الّتي يصنعها الله في الإنسانيّة الهشّة للأشخاص المدعوّين". لنتأمّل إذن كيف يمكنكم، من خلال نذور الفقر والعفّة والطّاعة الّتي نذرتموها، أن تكونوا أنتم أيضًا حاملي نور لنساء ورجال زمننا.
الجانب الأوّل: نور الفقر. هو يجد جذوره في حياة الله عينها، العطيّة المتبادلة الكاملة والأبديّة للآب والابن والرّوح القدس. من خلال ممارسة الفقر على هذا النّحو، يجعل المكرّس من نفسه، باستعماله المجّانيّ والسّخيّ لكلّ الأشياء، حاملًا للبركة فيها: فهو يُظهر صلاحها في نظام المحبّة، ويرفض كلّ ما يمكن أن يشوّه جمالها- الأنانيّة، الجشع، الاتّكاليّة، الاستعمال العنيف والاستعمال لأغراض الموت- ويتبنّى بدلًا من ذلك كلّ ما يمكنه أن يرفعها: الرّصانة، السّخاء، المشاركة، التّضامن. كما يقول القدّيس بولس: "كلّ شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله".
العنصر الثّاني هو نور العفّة. وهذا أيضًا يجد أصله في الثّالوث، ويظهر "انعكاسًا للمحبّة اللّامتناهية الّتي تربط الأقانيم الثّلاثة الإلهيّة". واعتناقها، في التّخلّي عن الحبّ الزّوجيّ وفي درب العفاف، يعيد التّأكيد على الأولويّة المطلقة، بالنّسبة للإنسان، لمحبّة الله الّتي يتلقّاها بقلب غير منقسم وزوجيّ، ويشير إليها كمصدر ونموذج لكلّ حبّ آخر. نحن نعيش في عالم غالبًا ما يتّسم بأشكال مشوّهة من العاطفة، حيث يدفع مبدأ "ما يرضيني" المرء لكي يبحث في الآخَر عن إشباع حاجاته الخاصّة أكثر من أن يبحث عن فرح لقاء خصب. هذا الأمر يولّد، في العلاقات، مواقف سطحيّة وعدم استقرار، أنانيّة وميل إلى المتعة، عدم نضوج وعدم مسؤوليّة أخلاقيّة، بحيث يتمّ استبدال زوج وزوجة العمر بشريك اللّحظة، والأبناء الّذي ينبغي قبولهم كعطيّة، كالّذين يُطلبون كـ"حقّ" أو يتمّ التّخلّص منهم كـ"شيء مزعج".
في سياق من هذا النّوع، وإزاء "الحاجة المتزايدة للصّفاء الدّاخليّ في العلاقات الإنسانيّة" وأنسنة الرّوابط بين الأفراد والجماعات، تُظهر العفّة المكرّسة لرجل وامرأة القرن الحادي والعشرين سبيل شفاء من شرّ العزلة، في ممارسة أسلوب محبّة حرّة ومحرِّرة تقبل الجميع وتحترمهم ولا تقيّد أحدًا ولا ترفض أحدًا. يا له من دواء للرّوح أن نلتقي بمكرّسات ومكرّسين قادرين على علاقة ناضجة وفرِحة من هذا النّوع! إنّهم انعكاس للمحبّة الإلهيّة. ولكن لهذا الهدف، من المهمّ في جماعاتنا أن نعتني بالنّموّ الرّوحيّ والعاطفيّ للأشخاص، في التّنشئة الأوّليّة والدّائمة، لكي تُظهر العفّة حقًّا جمال الحبّ الّذي يبذل نفسه ولا تترسّخ ظواهر مزعجة مثل توتّر القلب أو غموض الاختيارات، الّتي هي مصدر حزن وعدم رضا، وسبب، أحيانًا، في الأشخاص الأكثر هشاشة، لنموّ "حياة مزدوجة" حقيقيّة.
ونأتي إلى الجانب الثّالث: نور الطّاعة. إنّ النّصّ الّذي سمعناه يحدّثنا عن هذا الأمر أيضًا، ويقدّم لنا، في العلاقة بين يسوع والآب، "الجمال المحرِّر لتبعيّة بنويّة وليس لتبعيّة عبوديّة، غنيّة بحسّ المسؤوليّة وتحرّكها الثّقة المتبادلة". إنّه نور الكلمة الّذي يصبح عطيّة وجواب محبّة، علامة نبويّة لمجتمعنا الّذي نميل فيه إلى الكثير من الكلام والقليل من الإصغاء: في العائلة والعمل ولاسيّما على شبكات التّواصل الاجتماعيّ، حيث يمكننا أن نتبادل أنهارًا من الكلمات والصّور بدون أن نلتقي حقًّا، لأنّنا لا نضع أنفسنا على المحكّ فعلًا من أجل بعضنا البعض. إنّ الطّاعة المكرّسة هي ترياق لهذه الفرديّة الانفراديّة، يشجّع كبديل نموذجًا للعلاقة يقوم على الإصغاء الفعّال، يتبع فيه "القول" و"السّمع"، "التّصرّف" الملموس حتّى ولو كان ذلك على حساب التّخلّي عن أذواقي ومخطّطاتي وتفضيلاتي. بهذه الطّريقة فقط، في الواقع، يمكن للشّخص أن يختبر فرح العطاء بشكل كامل ويتغلّب على الوحدة ويكتشف معنى حياته في مخطّط الله العظيم.
أودّ أن أختتم بالتّذكير بنقطة أخرى: "العودة إلى الأصول"، الّتي يكثر الحديث عنها اليوم في الحياة المكرّسة. وفي هذا الصّدد، تذكّرنا كلمة الله الّتي سمعناها بأنّ "العودة إلى الأصول" الأولى والأهمّ في كلّ تكرُّس هي بالنّسبة لنا جميعًا "العودة إلى المسيح" والـ"نعم" الّتي قالها للآب. هي تذكّرنا بأنّ التّجدّد، قبل الاجتماعات و"الطّاولات المستديرة"– على الرّغم من أهمّيّتها- يتمّ أمام بيت القربان، في العبادة، وإعادة اكتشاف مؤسّسينا أوّلًا كنساء ورجال إيمان، وأن نردّد معهم في الصّلاة وتقدمة الذّات: "هاءنذا آت، اللّهمّ لأعمل بمشيئتك".