لبنان
23 أيلول 2020, 06:30

هذا ما كتبه المطران خيرالله عن الخورأسقف الرّاحل بولس الفغالي!

تيلي لوميار/ نورسات
اليوم تودّع كنيسة مار سركيس وباخوس الرّعائيّة- كفرعبيدا العلّامة الخورأسقف بولس الفغالي، في صلاة جنائزيّة ترفعها لراحة نفسه عند الخامسة عصرًا.

وعن "الكاهن والمعلّم والكارز والصّوت الصّارخ" الخورأسقف الفغالي، كتب راعي أبرشيّة البترون المارونيّة المطران منير خيرالله الآتي:  

"رحل الخورأسقف بولس الفغالي الكاهن المعلّم والكارز والصّوت الصّارخ تاركًا لكنيسته وللكنائس المشرقيّة وللعالم العربيّ تراثًا عريقًا وكنزًا ثمينًا.  

ولأنّني رافقت الخوري بولس منذ صغري وحتّى آخر لحظة من حياته وتعلّمت منه الكثير، أقرأ حياته، وبخاصّة الكهنوتيّة منها، في مرحلتين: مرحلة التّحصيل والتّعليم والرّعاية، ومرحلة التّعليم والإنتاج والتّبشير.

المرحلة الأولى (1935-1979): إمتازت بالتّحصيل والتّعليم والرّعاية.

ولد باخوس طنّوس الفغالي في كفرعبيدا- البترون في 28/11/1935. بدأ دروسه الابتدائيّة في مدرسة كفرعبيدا. ثمّ انتقل إلى إكليريكيّة مار مارون في غزير للدّورس التّكميليّة والثّانويّة (1947-1955). ثمّ انتقل إلى الإكليريكيّة الشّرقيّة في بيروت وجامعة القدّيس يوسف بإدارة الآباء اليسوعيّين للدّروس الفلسفيّة واللّاهوتيّة (1955-1962).

إقتبل سرَّ الكهنوت في 25/3/1962 واتّخذ اسم بولس. وخدم سنة في الإكليريكيّة الصّغرى مار مارون في غزير. إنتقل بعدها إلى خدمة رعيّة بشرّي (1963- 1970)، حيث كان أيضًا أستاذ اللّغة الفرنسيّة والتّعليم المسيحيّ في تكميليّة بشرّي، ثمّ في ثانويّتها.

وعاد إلى رعيّته كفرعبيدا ليخدمها ويكون أستاذًا في ثانويّة البترون 1970-1977، وأصبح مديرها في السّنة الأخيرة.

في خلال هذه السّنوات لم يتوقّف عن التّحصيل العلميّ، إذ كان طالب علمٍ وثقافة.

فنال إجازة ثمّ ماجستير في اللّغة الفرنسيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة، وإجازة وماجستير في الفلسفة وفي اللّاهوت من جامعة القدّيس يوسف.

وإلتزم في حياة كهنوتيّة وجماعيّة مع "تجمُّع كهنة الشّمال" الّذي ضمّ إخوةً له الخوارنة، المطارنة في ما بعد، إسطفان هيكتور الدّويهيّ، بولس آميل سعاده، يوسف ضرغام، يوسف بشاره، فرنسيس البيسري، فضلاً عن المونسنيور حنّا نكد والمونسنيور فرنسيس ضوميط.

وبهدف توسيع آفاقه الكهنوتيّة والكنسيّة، انتسب إلى الرّابطة الكهنوتيّة في 19/7/1968، وانتُخب أمينًا للسّرّ فيها في تمّوز 1984، وأعاد إطلاق المجلّة الكهنوتيّة بعد توقّفٍ دام اثنتين وعشرين سنة. وكتب في افتتاحيّة العدد الأوّل: "تأمل إدارة المجلّة أن يعاونها الرّعاة جميعًا، أساقفة وكهنة، على نشرها والإفادة منها لحياة فكريّة وروحيّة متجدّدة وعمل رعويّ مثمر". ثم انتُخب رئيسًا لها (1990-1993). وكنت قريبًا منه إذ انتسبت إلى الرّابطة الكهنوتيّة حال عودتي إلى لبنان من باريس، وانتُخبت أمينًا للسّرّ فيها (1990-1993)، ثم رئيسًا لها بعده (1993-1998).  

في هذه المرحلة تابعت الخوري بولس وكنت شابًّا طالبًا إكليريكيًّا. أعجبتُ به وبشخصيّته وباندفاعه الرّسوليّ في الخدمة الرّعويّة، إذ كان، إلى جانب خدمته لرعيّة كفرعبيدا، يجول في الرّعايا لتنشيط الحياة الرّعائيّة والأخويّات وللتّعليم المسيحيّ في المدارس الرّسميّة مع فريق من راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات وبعض العلمانيّين.  

في أيلول 1977، سافر إلى باريس لمتابعة تحصيله العلميّ واختصاصه في الكتاب المقدّس. ونال بعد سنتين، دكتوراه في اللّاهوت البيبليّ من المعهد الكاثوليكيّ ودكتوراه في تاريخ الأديان من جامعة السّوربون. ونال مع هاتين الشّهادتين: دبلوم في الكتاب المقدّس، دبلوم في اللّغات الشّرقيّة، دبلوم في العبريّة، دبلوم في اليونانيّة، دبلوم في السّريانيّة، شهادة في الآراميّة، شهادة في الأوغاريتيّة، شهادة في علم الآثار، شهادة في المسيحيّة المشرقيّة.

وكان في هاتين السّنتين كاهنًا معاونًا في رعيّة سان ميدار في باريس، الدّائرة الخامسة.

وهنا رافقته عن قرب إذ كان لي الحظوة أن أرسلني البطريرك أنطونيوس خريش سنة 1978، بعد رسامتي الكهنوتيّة، إلى باريس لمتابعة دروسي واختصاصي في التّنشئة الكهنوتيّة. وكنت أتردّد عليه في رعيّة سان ميدار، الّتي خدمتُ فيها بعد عودته إلى لبنان في أيلول 1979. ورأيت فيه الكاهن النّشيط والطّالب المتعطّش إلى العلم، إذ كان يستيقظ باكرًا مع الفجر ويسهر طويلاً في اللّيل للبحث والكتابة، وقد نال شهاداته في وقت قياسيّ، وينظّم النّدوات والمحاضرات عن الكتاب المقدّس في النّهار.

المرحلة الثّانية (1979-2018): إمتازت بالتّعليم والإنتاج والتّبشير.  

في أيلول 1979، عاد الخوري بولس إلى لبنان ليفتح صفحة جديدة في حياته ويكون المعلّم والمنتج والمبشّر من دون كلل. فإنضمّ أوّلاً إلى فريق الكهنة المنشّئين في الإكليريكيّة البطريركيّة المارونيّة في غزير برئاسة الخوري (المطران في ما بعد) يوسف بشاره، ويكون مربّيًا ومنشِّئًا ومرشدًا ثقافيًّا للطّلّاب، كهنة الغد.  

وبعد عودتي من باريس في كانون الأوّل 1984، التحقتُ بفريق الكهنة المنشّئين في غزير ورافقت الخوري بولس عن قرب. وأشهد أنّه بقي الكاهن المثابر والنّشيط والباحث والمعلّم والكاتب والمبشّر، إذ كان يستفيق باكرًا مع الفجر ويسهر طويلاً في الليالي. ويشهد له طلابه قائلين: "للخوري بولس الفضل الكبير في تنشئتنا ومسيرتنا الكهنوتيّة، إذ كان رفيق كلّ طالب إكليريكيّ يوجّه ويرشد ويعلّم ويؤنّب ويصحّح، بمحبّة. بدا حازمًا وجازمًا في مواقفه. لم يكن فقط المرشد الثّقافيّ لكلّ طالب، بل كان الأب والأخ والرّفيق."

في موازاة ذلك كان أستاذًا في الجامعة اللّبنانيّة في زحلة يعلّم تاريخ الفلسفة والعلوم الاجتماعيّة والأنتروبولوجيا؛ ثمّ في الفنار يعلّم الأركيولوجيا.

وكان أستاذًا للكتاب المقدّس في جامعة الرّوح القدس الكسليك، والجامعة الأنطونيّة، والمعهد البولسيّ في حريصا وجامعة الحكمة. كما أعطى دروسًا ومحاضرات في معاهد التّثقيف الدّينيّ في زغرتا وطرابلس والبترون وجبيل وأنطلياس، وفي سوريا والأردنّ ومصر والسّودان والعراق وفرنسا.

وفي مجال الكتاب المقدّس، أسّس الرّابطة الكتابيّة في الشّرق، وكان عضوًا في الهيئة التّنفيذيّة لجمعيّة الكتاب المقدّس لأكثر من عشرين سنة. وشارك في مؤتمرات عديدة في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا وهونع كونع.

أمّا في مجال الإنتاج الفكريّ والثّقافيّ والبيبليّ، فله أكثر من أربعماية (400) كتاب حول شروحات للكتاب المقدّس، مع ترجمة للكتاب المقدّس عن اللّغات الأصليّة، وترجمة الآباء السّريان وكتاباتهم، وترجمة ونشر كتب عديدة في العهد القديم والعهد الجديد، وأكثر من ثلاثة آلاف (3000) مقالة في مجلّات ودوريّات، منها: المجلّة الكهنوتيّة، المسرّة، المشرق، المنارة، الرّعيّة، بيبليا، رابطة الأخوياّت، ملتو Parole de l’Orient، الفكر المسيحيّ (العراق). ولا مجال هنا لتعداد كلّ مؤلّفاته.  

وفي مجال التّبشير، كان الصّوت الصّارخ والمبشّر الصّادق "ومعلن كلمة الله بوقتها وبغير وقتها" (2 تيمو 4/2). وكان مثالُه بولس الرّسول الّذي "قال له الرّبّ ذات ليلةٍ في رؤيا: لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت، فأنا معك" (أعمال 18/9). وإستفاد من وسائل التّواصل الاجتماعيّة لإبلاغ الكلمة.  

فكانت له حلقات أسبوعيّة لمدّة عشرين سنة في إذاعة صوت المحبّة، وأكثر من مائة حلقه في تيلي لوميار، وغيرها من المحطّات الإذاعيّة والتّلفزيونيّة.

في الختام، نقول لك أيّها العزيز الخوري بولس: لقد عبرتَ اليوم إلى بيت الآب السّماويّ الّذي طالما تشوّقت العبور إليه لتشارك بفرح في وليمة عرس الحمل إلى جانب الابن الّذي شهدتَ له طوال حياتك في خدمتك الكهنوتيّة معلِّمًا ومقدِّسًا وراعيًا لشعب الله.  

بغيابك تخسر كنيستنا المارونيّة، ويخسر لبنان، وتخسر الكنائس المشرقيّة والعالم العربيّ، معَلّمًا ومرجعًا ونبيًّا شاهدًا للحقّ الّذي هو الله. ولكنّنا سنبقى نغرف من كنوزك وتراثك لسنوات طويلة في إعلاننا لكلمة الله وفي عظاتنا وتأمّلاتنا ومحاضراتنا. أنت الحاضر دومًا في قلوبنا، لن ننساك."