هذا ما طالب به يونان في قدّاس عيد مار أفرام السّريانيّ!
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى يونان عظة استهلّها بقول لمار أفرام السّريانيّ بحسب إعلام البطريركيّة: "ما أجمل الصّوم لمَن يميُّزه ويحبّه، به تتشدّد فضائل النّفس، وبه يتقوّى الجسد، وبه يُدعى الجميع الى عرس الحياة"، ثمّ قال: "يدعونا الرّبّ يسوع إلى أن نُقبِل إليه، أيّ أن نسلّم ذواتنا بين يديه، وأن نكون له بكلّيّتنا، إذ بالاتّحاد به ننال الإرواء لعطشنا والشّبع لجوعنا، وبهديه نسير في معارج الحياة، فنشعّ بنوره من حولنا، وقد نهلنا من "الماء الحيّ" (يوحنّا 7: 38) الّذي يهبنا إيّاه بغزارة لا حدود لها، على غرار قدّيسنا العظيم مار أفرام السّريانيّ الّذي نحتفل بعيده اليوم، هو الّذي نهل من مَعين الرّبّ وارتوى، فأفاض وأروى المتعطّشين إلى تعاليم مخلّصنا يسوع وإلى عيش الرّوحانيّة السّريانيّة الآبائيّة المازجة حياة الصّوم والصّلاة والزّهد بالعمل والخدمة في سبيل نشرذ ملكوت الله على أرضنا.
نسرّ جميعنا أن نحتفل بهذا العيد في هذا اليوم، السّبت الأوّل من زمن الصّوم الكبير، بشكل مميّز هذا العام، إذ تحتفل كنيستانا السّريانيتان، الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة، معًا في اليوم عينه، بعيد شفيعهما مار أفرام السّريانيّ. ونشكر قداسةَ أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثّاني الّذي يعيّد عيده، عيد مار أفرام، لمشاركته معنا في فرحة العيد هذه. ويزداد سرورنا بأن نعيّد سويّةً هذا العام، نحن المسيحيّين في العالم أجمع، عيد قيامة مخلّصنا. نصلّي مبتهلين في هذا الاحتفال، برجاء وطيد، ونحن في سنة يوبيل الرّجاء الّتي أعلنها قداسة البابا فرنسيس، طالبين لقداسته الشّفاء التّامّ، وضارعين إلى الرّبّ يسوع، كي يسرّع وحدتنا المنظورة، لنكون الشّهود الحقيقيّين لقيامته من بين الأموات، بالمحبّة الفاعلة، وليس فقط بالكلام والتّمنّيات.
كما يسرّنا أن يتلاقى صومنا المسيحيّ مع صوم إخوتنا المسلمين، علامةً للتّآخي والمشاركة في عبادة الله سبحانه وتعالى، داعين لهم بصوم مبارك.
نشترك هذا المساء في ذبيحة القدّاس الإلهيّة، للسّنة الثّالثة على التّوالي، في هذه الكاتدرائيّة العريقة، المسمّاة على اسم القدّيس جرجس الشّهيد العظيم، شفيع العاصمة بيروت العزيزة. إنّ هذه الكاتدرائيّة التّاريخيّة شاهدة للمخلّص الإلهيّ وشهيدة من أجل اسمه القدّوس، وقد أنجزنا ببركة الرّبّ ومعونته، ترميمها بعد أن نالت منها يد التّخريب والتّدمير، فهُدِمت بشكل كامل إبّان الحرب الّتي عصفت بلبنان، وبقيت مدمَّرة لسنوات طويلة، إلى أن قمنا بإعادة بنائها، بالأمانة لأصالتها الكنسيّة السّريانيّة، لتبقى صامدة في قلب هذه المدينة المحبوبة بيروت.
نعم، أيّها الأحبّاء، نكرّم اليوم شفيعنا مار أفرام السّريانيّ، المنارة الرّوحيّة الّتي شعّ نورها في العالم أجمع، من وعظ وتعليم وإنشاد وشرح للكتاب المقدّس. هذا الشّمّاس الّذي تغنّى بروحانيّة الصّوم من أجل الملكوت، وقرن صومه بالصّلاة والتّأمُّل، وعاش حياة الزّهد المكرَّسة بالمشورات الإنجيليّة، وشهد للمحبّة المعطاءة نحو القريب والغريب، في زمن التّهجير القسريّ من مدينته نصّيبين إلى الرّها. فأضحى مثالًا لنا في البحث عن الكنز الحقيقيّ الّذي يروي ظمَأنا يسدّ جوعنا الرّوحيّ ويسعد قلوبنا ونفوسنا.
وُلِدَ أفرام في نصّيبين، وهي مدينة على الحدود السّوريّة التّركيّة بالقرب من مدينة القامشلي، ونشأ فيها شمّاسًا، أيّ خادمًا أمينًا لراعي كنيسته وأسقفها مار يعقوب النّصّيبينيّ، بحياة الزّهد والتّقشُّف، على غرار "أبناء وبنات العهد ܒܢ̈ܰܝ ܘܰܒܢ̈ܳܬ ܩܝܳܡܳܐ"، أيّ الجماعة الكنسيّة الّتي عرفها السّريان في العصور الأولى، والّتي تجمع ما بين الحياة المكرَّسة والمتجرِّدة عن مغريات العالم، وبين الالتزام بقضايا المجتمع المضطرب. فسار دون تردُّد على خطى معلّمه الإلهيّ، رجل صلاة وتأمّل وعمل، منه نتعلّم معنى الإيمان الملتزم بشهادة الحياة.
شارك مع معلّمه يعقوب النّصّيبينيّ في مجمع نيقية المسكونيّ الأوّل عام 325، حيث دافع آباء المجمع بإصرار ودون هوّادة عن الإيمان بالرّبّ يسوع ومساواته لله الآب. وها نحن نحيي هذا العام ذكرى مرور 1700 عامًا على انعقاده، سائلين الله أن يجعلنا على الدّوام أمناء للإيمان بيسوع "ابن الله الحيّ" (متّى 16: 16).
إنتقل إلى الرّها الّتي هُجِّرَ إليها قسرًا مع العديد من المؤمنين بسبب الحرب، فعلّم في مدرستها الشّهيرة، وقرن العلم بأفعال الرّحمة، وقدّم المساعدة للفقراء والمحتاجين، متفانيًا في خدمة المرضى والمبتلين بالآفات والأوبئة، حتّى الرّمق الأخير من حياته. وبهذا يعطينا المثل في التّضحية والبذل من أجل القريب، واليوم نعني به "الآخر"، دون تمييز، لاسيّما في زمن الشّدّة والضّيق. وقد أودع تلاميذه وصيّته الأخيرة، موصيًا إيّاهم بالتّمسّك بالصّلاة بأمانة نهارًا وليلًا، فلا يكونوا متخاذلين، بل مواظبين على عيش التّلمذة للرّبّ بقداسة السّيرة.
يحقّ لكنيستنا السّريانيّة بجناحيها الكاثوليكيّ والأرثوذكسيّ أن تفاخر العالم بمار أفرام السّريانيّ، وقد اتّخذَتْه شفيعًا لها. وها هي الكنيسة الجامعة تكرّمه، شرقًا وغربًا، ملفانًا بالسّريانيّة أيّ معلّم الإيمان، كما أعلنه البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920، وذلك بطلب من سلفنا الأسبق آنذاك المثلَّث الرّحمات البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثّاني رحماني. فأفرام يُعَدُّ أحد أعلام السّريان عبر العصور، وأُطلِقَت عليه تسمية "كنّارة الرّوح القدس"، ولم يجارِهِِ في هذا اللّقب سوى القدّيس مار يعقوب السّروجي في القرن السّادس، ولا تزال كنائسنا السّريانيّة تغرف الصّلوات والأناشيد والتّعليم من إرثهما الرّوحيّ، شعرًا ونثرًا، وترنّمها في صلواتها صباحًا ومساءً.
حبا الله أفرام الملفان مواهب روحيّة فريدة، فسُمِّيَ بحقّ "شمس السّريان". لقد تعمّق في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، بشاعريّة تأمّليّة عميقة ومحلِّقة، إن في "الميامر"، أيّ الأشعار، أو في "المداريش"، أيّ الأناشيد والنّصوص المكتوبة، ولا نزال ننشدها ونستشهد بها في حاضرنا كما كنّا في ماضينا، كما أنّها ستبقى أبدًا مُلهِمة للكنيسة جمعاء، وهي الّتي تُبرِز دفاعه الصّلب عن إيمان الكنيسة وعقائدها، وعشقه للّغة السّريانيّة، لغة الرّبّ يسوع ووالدته العذراء مريم ورسله القدّيسين. لذا حُقَّ للمثلَّث الرّحمات البابا بنديكتوس السّادس عشر أن يعلن في مقابلته العامّة بتاريخ 28/11/2007، أنَّ الإيمان المسيحيّ جاءنا في ثقافة مشرقيّة وبتفكير ساميّ، كان أفرام السّريانيّ أفضل الشّاهدين عليهما، والّذي عبّر عمّا يختزنه الكتاب المقدّس بلغته وثقافته الأصليّة السّريانيّة.
كان أفرام متولِّهًا بمديح مريم العذراء، فقد ألهمَتْهُ قريحته الشّعريّة التّبحُّر في سرّ مريم، حوّاء الثّانية الّتي حملت في أحشائها الطّاهرة كلمة الله المخلّص. وعُرِفَ عنه أنّه أوّل من أطلق جوقة العذارى لينشدْنَ ترانيم التّمجيد لله، والتّكريم لوالدته، بألحان تتميّز بالسّهولة والعذوبة، وبإبداع نسمّيه اليوم بالعربيّة "السّهل الممتنع".
ظلّ أفرام شمّاسًا متواضعًا طيلة حياته، تكرّس لخدمة البيعة بروح الطًاعة لرؤسائه، وسط عالم عرف العديد من الملمّات والضّيقات، قد لا يختلف عمّا نعانيه اليوم في منطقتنا الشّرق أوسطيّة، وبخاصّةٍ في لبنان وسوريا والعراق، حيث نطقت شعوبها بلغة هذا الملفان السّريانيّة، وصلّت وتأمّلت وأنشدت بها سرّ الخلاص.
إنّنا نبارك للبنان واللّبنانيّين بانتهاء الفراغ القاتل في سدّة رئاسة الجمهوريّة بانتخاب فخامة الرّئيس العماد جوزاف عون، وسط إجماع وطنيّ قلّ نظيره، ونُشيد بمندرجات خطاب القسم الّتي تاق اللّبنانيّون إلى سماع مفرداتها من رجل دولة ومؤسَّسات مشهود له بالنّزاهة والعزم والوطنيّة. كما نهنّئ اللّبنانيّين بتشكيل الحكومة الجديدة الّتي تجمع أصحاب الكفاءات، والّتي تُعقَد عليها الآمال بالإصلاح السّياسيّ والاقتصاديّ، ولاسيّما استعادة ودائع النّاس في المصارف، وإجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة ثمّ النّيابيّة ضمن المهل الدّستوريّة. ولا بدّ لنا من التّنويه بالإجحاف الّذي لا ينفكّ يطال المكوِّن السّريانيّ بإقصاء أبنائنا وبناتنا من التّمثيل في الوزارات ووظائف الفئات الأولى. إلّا أنّنا نرجو أن يقوم هذا العهد الجديد الّذي نعوّل عليه جميعنا بإنصافنا وإزالة الإجحاف اللّاحق بالسّريان. لذا لن نكفّ أو نيأس من المطالبة بحقّنا وتثبيت حضورنا في الحياة العامّة في لبنان، أسوةً بسائر مكوِّنات الوطن.
وهنا نشير إلى تقليد امتازت به هذه الكاتدرائيّة قبل الحرب اللّبنانيّة المشؤومة، بأن تضمّ بين حناياها في قدّاس سنويّ يوم الأحد الجديد الرّؤساء الثّلاثة وأركان الدّولة اللّبنانيّة والسّفارة الفرنسيّة، عربون شكر وتقدير للدّور الّذي لعبه السّريان في بناء لبنان ونهضته والدّفاع عنه، وتحديدًا الدّور البارز لسلفنا الأسبق المثلَّث الرّحمات البطريرك الكاردينال مار اغناطيوس جبرائيل الأوّل تبّوني في ولادة لبنان الكبير، ثمّ في نيله الاستقلال.
أمّا في سوريا، فنحن نسمع اليوم الأخبار المؤلمة جدًّا الّتي تتحدّث عن خضّات أمنيّة وسفك دماء. نسأل الله أن يلهم المسؤولين كي يعرفوا كيف يتعاملون مع هذه الخضّات المؤلمة بالحوار الحقيقيّ، وقد لفتَنا ما جاء في مؤتمر الحوار الوطنيّ الّذي عُقِدَ مؤخَّرًا، رغم بعض الملاحظات على غياب التّمثيل المسيحيّ الوازن فيه، منوِّهين بما تناوله لجهة تحقيق التّنمية السّياسيّة على أساس مشاركة فئات المجتمع كافّةً في الحياة العامّة، وكذلك الدّعوة الّتي وجَّهها إلى ترسيخ مبدأ التّعايش السّلميّ بين جميع مكوِّنات الشّعب السّوريّ، ونبذ كلّ أشكال العنف والتّحريض والانتقام والكراهيّة الطّائفيّة، بما يعزّز الاستقرار المجتمعيّ والسّلم الأهليّ. لذا نصلّي ونأمل أن تتمّ ترجمة هذه المقرَّرات بالممارسة، وألّا تبقى مجرَّد شعارات، بدءًا بإقرار دستور جديد يحفظ حقوق المكوِّنات الأصليّة وحضورها الوطنيّ، وبخاصّة المكوِّن المسيحيّ الأصيل والمؤسِّس، ثمّ إجراء انتخابات حرّة وديمقراطيّة وعادلة يتمثَّل فيها جميع السّوريّين، ليصار بعدها إلى إعادة تشكيل السّلطة على أساس المساواة بين المواطنين. وهكذا يتَّحد الشّعب السّوريّ خلف قيادته الجديدة، للمساهمة معًا في إعادة البناء وعودة المهجَّرين إلى أرضهم.
أمّا العراق، فإنّنا نسأل الله أن تتمكّن الحكومة من تجنيبه التّورُّط في حروب وصراعات لن تقدِّم سوى الدّمار والموت وتهجير المزيد من العراقيّين، داعين إلى تضافُر الجهود من أجل متابعة مسيرة النّهوض رغم التّحدّيات، ومَنْحِ الرّجاء كي يعود المهجَّرون قسرًا إلى وطنهم.
بهذه المناسبة المباركة، نتوجّه بالمعايدة القلبيّة إلى جميع أبنائنا وبناتنا المنتشرين في مختلف المناطق والبلدان عبر القارّات، في لبنان، وبلدان النّطاق البطريركيّ، في سوريا والعراق والخليج العربيّ ومصر والأردنّ والأراضي المقدّسة وتركيا، وفي بلدان الانتشار، في أوروبا والأميريّكتين وأستراليا. نتمنّى لهم جميعًا صومًا مباركًا يقودنا إلى فرح الاحتفال بقيامة الرّبّ يسوع منتصرًا على الخطيئة والموت، ونحثّهم على متابعة مسيرتهم الإيمانيّة والتزامهم الكنسيّ، وتعلُّقِهم بتراثهم ولغتهم السّريانيّة، وتنشئة أولادهم التّنشئة المسيحيّة الصّالحة.
ختامًا، نشكر الرّبّ يسوع الّذي "قوّانا، أنّه عَدَّنا أمناء، فأقامنا للخدمة"، على مثال القدّيس أفرام، "ففاضت علينا نعمته مع الإيمان والمحبّة" (راجع 1تيموثاوس1: 12و14)، ممّا يؤهّلنا لنصل فرحين إلى ميناء الخلاص، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة النّجاة، ومار أفرام السّريانيّ، ومار جرجس الشّهيد شفيع هذه الكاتدرائيّة، وجميع القدّيسين والشّهداء، آمين."
وقبل نهاية القدّاس، توجّه القيّم البطريركيّ العامّ وأمين سرّ البطريركيّة المونسنيور حبيب مراد بكلمة شكر بنويّة للبطريرك يونان، داعيًا له بالصّحّة والعافية والعمر المديد، معايدًا إيّاه وجميع الحاضرين بهذا العيد، وشاكرًا إيّاهم على حضورهم ومشاركته.
وبعد البركة الختاميّة، تقبّل البطريرك التّهاني بالعيد من الآباء البطاركة والمطارنة والإكليروس والمؤمنين.