نفّاع: لولا الكاهن لما كان هناك قدّيسون وأبرار
بعد الإنجيل المقدّس كانت عظة للمطران نفّاع جاء فيها بحسب إعلام النّيابة: "قبل كلّ شيء، لا بدّ لي من التّعبير عن فرحي بوجود هذه الجماعة المباركة في هذا القدّاس المبارك الّذي نتذكّر فيه آباء خدمونا وأعطونا يسوع.
فحضوركم هو علامة على أنّ هناك جذورًا راسخة لا تزال ثابتة. إنّ وجودكم هنا اليوم دليل على أنّ الإيمان في زغرتا حيّ، حتّى وإن لم يتمكّن الكثيرون من الحضور لأسباب مختلفة، إلّا أنّهم يحملوننا في صلواتهم.
نحن نحتفل اليوم بالقدّاس، لكن الإحساس الّذي نعيشه في هذه المناسبة أعمق بكثير، لأنّه يحمل بعدًا إيمانيًّا خاصًّا. فإيماني لم أشتره من السّوق، بل هو عطيّة ثمينة، سُلّمت إليّ من كهنة تعبوا من أجلي، وعرّفوني إلى المسيح، ومنحوني الكثير من النِّعم الرّوحيّة، الّتي جعلتني أختبر محبّة الله.
وهذا ليس بالأمر الهيّن، فالكنيسة، وأنا وأنتم اليوم، نبدأ معًا المسيرة نحو أقدس فترة في حياتنا المسيحيّة، وهي الصّوم الكبير.
في بداية المسيحيّة، كان المؤمنون يخصّصون ثلاثة أسابيع تحضيريّة قبل الدّخول في زمن الصّوم، فتذكّرنا الكنيسة من خلال هذه الأسابيع بالأمور الأساسيّة الّتي يجب أن نركّز عليها: الكهنة، الأبرار، والصّدّيقين، والموتى المؤمنين. وأجمل ما يجب أن نتوقّف عنده هو أنّنا نبدأ بالتّأمّل في دور الكهنة. أتدرون لماذا؟ لأنّه لولا الكاهن، لما كان هناك قدّيسون وأبرار، ولربّما لم يكن هناك إيمانٌ حيّ في الجماعة.
هناك كاهن قال يومًا: "أتركوا رعيّةً بلا كاهن لعشر سنوات، وانظروا ماذا سيحدث." ليس لأنّ النّاس أشرار، بل لأنّ طبيعتنا البشريّة تجعلنا ننجرف مع هموم الدّنيا، فننشغل بأمور حياتنا، بأولادنا، بأعمالنا، وننسى بسهولة، حتّى لو كنّا نحبّ الله. لكن الله، بحكمته، يمنحنا الكاهن ليذكّرنا دائمًا بالمسيح.
لذلك، إخوتي الأحبّاء، إنّ وجود الكاهن في الرّعيّة هو الّذي يبقينا مسيحيّين، بغضّ النّظر عن شخصيّته، إن كان إنسانًا صالحًا أو لديه ضعف، لأنّ الله هو الّذي يدعوه، وهو الّذي يعمل من خلاله. وكما اختار المسيح رسله من بين النّاس البسطاء، هكذا يختار الله الكهنة من بين الضّعفاء ليُظهر قوّته من خلالهم. فلو كانت الكنيسة قائمة منذ ألفي عام، فهذا لأنّ الله هو الّذي يدبّرها من خلال كهنتها، ويقودها بحكمته الإلهيّة.
أيّها الأحبّة، أيّها الكهنة الأعزّاء، أيّها المستمعون، إن كنتم تريدون خير الكنيسة، فلا تنظروا إلى ضعف الكاهن، ولا تخبرونا بخطايانا، فنحن نعرفها جيّدًا، ونحن معترفون بها. لستم أنتم من يذكّرنا بها، بل على العكس، دوركم أن تقفوا بجانبنا عندما نضعف، لا أن تترقّبوا لحظة سقوطنا لتزيدوا الطّعنات.
لكن، حتّى لو هوجِم الكهنة، فلن تنهار الكنيسة، ولو كان لها أن تنهار، لكانت قد انهارت منذ ألفي عام! إنّ الكنيسة قائمة، وستبقى قائمة، لأنّ مؤسّسها هو المسيح نفسه، وليس البشر.
لذلك، عندما يرتدي الكاهن الحلّة البيضاء ليحتفل بالقدّاس الإلهيّ، فإنّما يرتديها ليتذكّر أنّه لا يخرج إلى المؤمنين بشخصه، بل بنقاوة الله. فمهما عظُمت خطاياه، يُلبسونه الأبيض لتذكيره بأنّه ليس بشخصه يحتفل بالإفخارستيّا، بل بالمسيح الّذي يعمل من خلاله.
لذلك، لا يصحّ أن نقول: "أحبّ قدّاس هذا الكاهن"، لأنّ القدّاس ليس من أجل الكاهن، بل من أجل يسوع المسيح. فالمؤمن الّذي يحضر القدّاس لا ينبغي أن يكون هدفه رؤية الكاهن أو الاستمتاع بعظته فحسب، بل يجب أن يكون تركيزه على المسيح الحاضر في سرّ الإفخارستيّا. إن لم يكن القدّاس يملأ قلبك بحضور المسيح، فهناك خلل ما.
أمّا الحلّة البيضاء الّتي يرتديها الكاهن، فهي تذكير لكلّ مؤمن أنّ ما نراه أمامنا ليس شخص الكاهن بضعفه أو قواه، بل يسوع نفسه، هو الّذي يقود هذا القدّاس وهو الّذي يوصِلنا إليه.
إنّ ضعف الكهنة لا يمكن أن يهدم الكنيسة، لأنّ الله هو الّذي أسّسها ورتّبها بحكمته. قد يكون في بعض الكهنة ضعف، ولكن الله قادر على إصلاح كلّ شيء، لذا نشكره على عطاياه ونتذكّر دومًا أنّ الكاهن، رغم ضعفه، هو الّذي منحنا الأسرار المقدّسة، وقدّم لنا يسوع المسيح الحيّ القائم من بين الأموات. هو الّذي عمّدنا، وهو الّذي يمنحنا القربان المقدّس، وهو الّذي يقدّم لنا البركات السّماويّة.
فلنصلِّ من أجل الكهنة، طالبين من الله أن يتغمّدهم برحمته، لأنّهم يستحقّون الرّحمة، فالتّضحيات الّتي يقدّمونها عظيمة، ولا يجوز لنا أن نقلّل من شأنها. لذلك، علينا أن ندعمهم ونصلّي من أجل دعوات كهنوتيّة جديدة تحفظ الكنيسة قائمة على قدميها.
وأخيرًا، علينا أن نتذكّر أنّ دور الكاهن الأوّل هو أن يمنحنا يسوع. لننظر إلى الكنيسة على أنّها تُقدّم لنا المسيح قبل أيّ شيء آخر، قبل المساعدات الاجتماعيّة، وقبل حلّ المشاكل والنّزاعات. قد لا يستطيع الكهنة دائمًا مساعدتنا في أمورنا الدّنيويّة، ولكن هذا ليس معيار تقييمهم، لأنّ الخير السّماويّ هو الأوّل، والباقي يُزاد.
"أطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبرّه، وهذه كلّها تُزاد لكم."
وإختتم نفّاع عظته قائلًا: "إنّنا لا نتهرّب من مسؤوليّاتنا، ولكن يجب أن لا نحكم على الكاهن كأنّه شخص يستطيع حلّ كلّ مشاكل الحياة، بل لنقدّره بقدر ما يقدّم لنا يسوع، فهو قبل كلّ شيء خادم للمسيح.
فلنبقَ أبناء الله، واثقين بأنّه لا يتخلّى عن أحد، وأنّه يرفعنا دائمًا، ويجعلنا ثابتين على أقدامنا، رافعين رؤوسنا به، لأنّه هو القائم من بين الأموات، وهو المنتصر إلى الأبد. آمين."