لبنان
10 شباط 2020, 06:00

نداء مدوّ للمطران عبد السّاتر في قدّاس مار مارون: أصحلوا الخلل وإلّا فالاستقالة أشرف

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه راعي أبرشيّة بيروت المارونيّة المطران بولس عبد السّاتر، الأحد، نداءً صارخًا إلى المسؤولين اللّبنانيّين، خلال قدّاس عيد مار مارون ترأّسه في كنيسته بالجمّيزة، بحضور رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة العماد ميشال عون، ورئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي، ورئيس الحكومة حسّان دياب، وشخصيّات رسميّة وسياسيّة ودبلوماسيّة، فقال لهم:

"فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون،

دولة رئيس مجلس النّوّاب الأستاذ نبيه برّي،

دولةَ رئيس مجلس الوزراء الدّكتور حسّان دياب،

سيادةَ المطران حنّا علوان النّائب البطريركيّ العامّ،

صاحب الفخامة،

أصحاب السّيادة والسّعادة والمعالي،

Père Joseph Francone, chargé d’affaires à la Nonciature apostolique au Liban

القيادات العسكريَّة والمقامات المدنيّة،

إخوتي وأخواتي،

" ... إنَّ حبّةَ الحِنطةِ إِن لَم تَقَع في الأرضِ وتَمُتْ تَبقى مُفرَدَةً. أمَّا إذا ماتَت فإنَّها تأتي بثمرٍ كَثيرٍ." (يو 12/24)

نَهجٌ جديدٌ أَوجدَهُ، بَل لِنَقُل شرطًا أساسيًّا وضعَه الرّبُّ يسوعُ لِمَن يُريدُ أن يكونَ مثمرًا في حياتِه، أكانَ إنسانًا عاديًّا أم أبًا أم أمًّا أم مسؤولاً في مجتمعِه ووطنِه. وما قيمةُ الإنسانِ إن كانت حياتُه عقيمةً؟ وما نفعُ الإنسانِ الّذي يأتي ويروحُ ولا يُعطي ثمرًا أو لا يتركُ أثرًا له سوى ذكرٍ سيّئٍ من الأنانيَّةِ والتّسلُّطِ والمكابرةِ على اللهِ والعِبادِ؟

جاءَ مارونُ في القرنِ الرّابعِ الميلاديّ واختارَ أن يعيشَ بحسبِ هذا النّهجِ الجديدِ وتحتَ هذا الشّرطِ. اختارَ أن يموتَ موتًا حقيقيًّا عن شهواتِ هذا العالمِ. عاشَ في العراءِ موتًا عن ترَفِ القصورِ، وعاشَ الزُّهدَ والنُّسكَ موتًا عنِ الأنانيّةِ وشهوةِ التّملّكِ، وماتَ عن حُطامِ الدُّنيا ليربحَ ملكوتَ السّماء. صلّى حتّى يُدركَ إرادةَ اللهِ في حياتِه، وصمَتَ حتّى يتكلَّمَ يسوعُ مِن خِلالهِ كلامَ حقٍّ، وكانت أفعالُهُ كلُّها، أفعالَ عدلٍ. فأثمرَتْ حياتُه أعدادًا كبيرةً من النّاسِ الصّالحينَ والمؤمنينَ باللهِ الواحدِ. وتحوَّلَ الجبلُ حيثُ تنسَّكَ إلى فردوسٍ أرضيٍّ، يلتقي فيه الإنسانُ اللهَ، ويعيشُ إنسانيَّتَه وكرامتَه بالكاملِ، ويَسكنُ فيه الذّئبُ مع الخروفِ... ويرعى العجل والشّبل معًا... ويلعبُ الرّضيعُ على وَكرِ الأفعى، ويضعُ يدَه في مَكمَنِ الثُّعبانِ... لأنَّ الأرضَ تمتلىءُ مِن مَعرفةِ الرّبِّ، كما تملأُ المياهُ البحرَ. كما قالَ آشعيا النّبيُّ (اش 11/6-9).

يا فخامةَ الرّئيسِ ويا دولةَ رئيسِ المجلسِ النّيابيِّ ويا دولةَ رئيسِ مجلسِ الوزراِء، لأجلِكم نُصلّي في صباحِ هذا العيدِ ولأجلِ باقي المسؤولين في الوطنِ حتّى يكونَ ذكركُم، بعد العُمرِ المَديدِ، طيّبًا وحياتُكم مثمرةً.

إخوتي وأخواتي، في عظةِ قدّاسي الأوّلِ في كاتدرائيّةِ مار جرجس وَسْطَ العاصمةِ، كمطرانٍ على أبرشيّةِ بيروتَ المارونيّةِ، توجّهت بكلامٍ إلى السّياسيّين والمسؤولين في وطني بما معناه: "أيّها المسؤولونُ السّياسيّون والمدنيّون في بلادي، إنَّنا ائتمنّاكم على أرواحِنا وأحلامِنا ومستقبلِنا. تذكَّروا أنّ السّلطةَ خدمةٌ. لكم أقول إنّنا نريدُ أن نحيا حياة إنسانيّة كريمة وإنّنا تعِبنا من المماحكاتِ العقيمةِ ومن الاتّهاماتِ المبتَذَلَةِ. مللنا القلقَ على مستقبل أولادِنا، والكذبَ والرّياءَ. نريد منكم مبادراتٍ تَبُثُّ الأمل، وخطاباتٍ تجمع، وأفعالاً تبني. نريدكم قادةً مسؤولين".  

واليوم أودّ أن أُكملَ كلامي فأقول: ألا يحرِّكُ ضمائرَكم نحيبُ الأمّ على ولدها الّذي انتحر أمام ناظرَيها، لعجزه عن تأمينِ الأساسيّ لعائلته؟ أوليست هذه الميتةُ القاسيةُ كافيةً حتّى تُخرِجوا الفاسدَ من بينكم وتحاسبوه وتستردّوا منه ما نهبَه لأنّه ملكٌ للشّعبِ؟  

ألا يستحقّ عشراتُ الألوف من اللّبنانيّين الّذين وثِقوا بكم وانتخبوكم في أيّار 2018 أن تُصلحوا الخلل في الأداء السّياسيّ والاقتصاديّ والماليّ والاجتماعيّ، وأن تعملوا ليل نهار، مع الثّوّار الحقيقيّين أصحابِ الإرادة الطّيِّبة، على إيجاد ما يؤمِّن لكلِّ مواطنٍ عيشةً كريمةً؟ وإلّا فالاستقالةُ أشرَفُ.

أوليس وقوفُ الآلاف من شبابنا أمامَ أبوابِ السّفاراتِ في مَسعًى منهم إلى مغادرة البلاد في أسرع وقت، حافزًا كافيًا لتتوقّفوا يا رؤساء الأحزاب والنّوّابَ والوزراءَ، عن تقاذف التّهم والمسؤوليّات، وعن محاولاتِ تحقيقِ مكاسبَ هشّةٍ، سياسيَّةٍ وغيرها، والشّروعِ في التّعاون معًا بجِدّيَّةٍ وبنظافةِ كفّ، من أجل إنقاذ وطنِنا من الانهيار الاقتصاديّ والخراب الاجتماعيّ؟ فماذا تنتظرون؟

إخوتي وأخواتي، لم يسعَ يومًا القديّس مارون إلى بناء مملكة له على هذه الأرض أو إلى تنصيب نفسه زعيمًا على حفنة من البشر. وإنّما شاء أن يعيش حيث هو، في قلب الله، ناسكًا مصلّيًّا ومتجرّدًا، فصار أكثر من زعيم لجماعة كبيرة، أضحى شفيعًا لكنيسة تحمل اسمه وتتكّل على صلاته أمام الرّبّ في أيّام الشّدّة والاضطهاد والضّيق.

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، ليس زعيمًا وطنيًّا ولا مسؤولاً صالحًا من يشجِّع في خطابه على التّعصّب والتَّفرِقَةِ. وليس زعيمًا من يحسُبُ الوطنَ مُلكيّةً له ولأولاده من بعده، ويحتكر السّلطة ويستبدّ ويظلِم من وثِقوا به.

الزّعيم الأصيل هو الّذي يختارُ أن يثبتَ في أرضِهِ في زمن الضّيق مع أهله حتّى الاستشهاد، ويعملُ لأجل شعبِه حتّى نِسيان الذّات، ويتنكّرُ لمشاريعه ولمصالحه السّياسيَّة والشّخصيَّة حتّى نُكران الذّات. الزّعيم الحقيقيّ يقول الحقّ دومًا من دون مواربة وبلا خوف، ولا يساوم عليه. إنَّه يعمل لخير المواطن، كلّ مواطن، ومن دون تردّد. الزّعيمّ الوطنيّ هو الّذي يقاوم التّوطين والتّجنيس من أجل الحفاظ على وجه لبنان الرّسالة وعلى حقّ كلّ لاجىء ونازح بالعودة إلى أهله وبلده. الزّعيم الصّالح هو الّذي يختار الرّحيل أو التّخلّي عن الزّعامة كلّ يوم مرّات ومرّات على أن يخذل شعبه أو أن يُسيء إليه ولو مرّة واحدة.

يا فخامة الرّئيس، في خطاب القسم تكلّمتم على ضرورة الإصلاح الاقتصاديّ وعلى خطّة اقتصاديّة شاملة مبنيَّة على خطط قطاعيّة، وأكّدتم أنّ الدّولة من دون مجتمع مدنيّ لا يمكن بناؤها. وإنّنا اليوم، لا نزال نؤمن نحن اللّبنانيّين الّذين تشرّد لنا أحبّاء، وسقط لنا شهداء وجرحى، ولنا مفقودون وأسرى إنّ كل هذا الألم لن يذهب سدًى. ولا نزال نرجو، نحن الّذين نعاني الخوف من الفقر والضّيق المعيشيّ والحُرمان من أبسط مقوِّمات العيش الكريم، لا زلنا نرجو أن تستيقظ الضّمائر، وأن يقوم القضاء بدوره في المحاسبة بحرّيَّة وشفافيَّة. نحن اللّبنانيّين لا نزال نصدِّق يا فخامة الرّئيس ويا دولة رئيس مجلس النّوّاب ويا دولة رئيس مجلس الوزراء أنَّكم، مع من انتخبناهم مسؤولين علينا، لن تخذلونا. وإلّا الويلُ لنا جميعًا.

أُنهي عظتي بكلمات قيلت في لبنان منذ زمن: "ما حدا بيقدر يحبس المي، والنّاس متل المي إلّا ما تلاقي منفز تنفجر منّو..." خوفي أن ينفجر الشّعبُ كلُّه فيختارَ أن يرحل عن شوارعه وبيوته الّتي عاش فيها المذّلةَ والقهر والتّعاسة، ساعيًا خلف أوطان جديدة فيزول لبنان.  

نطلب بشفاعة القدّيس مارون أن يُلهمكم الرّبّ ما يجب أن تقوموا به، ويمنحكم الإرادة لتفعلوه. آمين".