لبنان
25 نيسان 2023, 05:00

ميناسيان ترأّس قدّاس ذكرى الإبادة الأرمنيّة وطوباليان لـ"شهداء نيسان": أنتم ديمومتنا ومحيي عزّتنا!

تيلي لوميار/ نورسات
في مدرسة القدّيس غريغوار- الأشرفيّة، أحيا الأرمن الكاثوليك ذكرى الإبادة الأرمنيّة في قدّاس إلهيّ ترأّسه بطريرك كاثوليكوس كرسيّ كيليكيا للأرمن الكاثوليك رافائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان، عاونه في خدمته لفيف من الكهنة والشّمامسة، بحضور بطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان والسّفير البابويّ في لبنان المطران باولو بورجا ومطارنة من مختلف الكنائس، ووزراء ونوّاب حاليّين وسابقين وممثّلي الأحزاب الأرمنيّة واللّبنانيّة وحشد غفير من المؤمنين.

بعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى المونسينيور مسروب طوباليان كلمة المناسبة قال فيها: "بواجب التّذكير وبتاريخيّة الحقيقة. 24 نيسان 1915. إنّ التّاريخ الدّمويّ المسجّل في تاريخ البشريّة هو المجازر الأرمنيّة، (Armenocide)، والتّاريخ الّذي لا يمحى في التّأريخ الإلهيّ هو تاريخ الخلود. إنّه يوم الإبادة الجماعيّة الأولى في القرن العشرين لأمّتنا المجيدة، والّتي حاولوا طمسها، لكنّهم فشلوا، لأنّه تمّ اختيارهم من العلى للعيش والعمل كأمّة متحضّرة.

يا أبناء أمّتي، إنّه 24 نيسان. على الرّغم من أنّها بداية موت الجميع وتدمير كلّ شيء، استشهاد أسلافنا، إلّا أنّنا لم نأت اليوم للحزن والبكاء والنّحيب، لأنّه، كما يصف ويحدّد فيكتور هوغو (1802-1885) الأمر بكلّ موضوعيّة قائلاً، "ينتصر الأبطال بالحياة والشّهداء ينتصرون بالموت". 24 نيسان هو يوم ارتكبت فيه أكبر جريمة بحقّ الله والإنسانيّة، والّتي لم تشهد السّماء والأرض مثلها.

هكذا، فإنّ الإبادة المرعبة الّتي ارتكبها الإنسان أمام الله السّرمديّ هي حقيقة تاريخيّة مطلقة، "ونحن نعلم الحقيقة"، كما، وفي الثّاني عشر من شهر نيسان 2015، أعلن قداسة البابا فرنسيس قائلاً: لذلك، لا يمكننا أمام هذه الحقيقة السّكوت فقط، بل يجب علينا المجاهرة بها في العالم أجمع. وممّا لا شكّ فيه، فالأحداث الّتي حصلت خلال السّنين الّتي تلت سنة 1915 يمكننا أن نعنونها بأعظم اضطهاد حصل ضدّ المسيحيّين في التّاريخ. فالحقيقة لا تؤدّي إلى الكراهيّة، إنّما إنكار الحقيقة يؤدّي إلى الكراهيّة.

إنتبهوا، يمكن لـ"إنكار الحقيقة" أن تتعزّز وتترسّخ بالنّسيان، بنسياننا نحن، أمام خطر عظيم قد يداهم. كما دقّ أفيدس أهارونيان (1866-1948) ناقوس الخطر قائلاً: إذا تناسى أبناؤنا هذا الشّرّ العظيم، فليهانوا من قبل العالم أجمع. من أجل حبّ الحقيقة الّتي لا يمكن إنكارها ومن أجل إنعاش ذاكرتنا، أودّ أن ألفت انتباهكم إلى بعض البيانات التّاريخيّة من داخل مجتمعنا الصّغير.

اليوم، نحيي ذكرى مليون ونصف المليون وأكثر من الضّحايا الأبرياء الّذين قضوا خلال الإبادة الجماعيّة للأرمن، في هذه اللّحظة المقدّسة، تعود بنا الذّاكرة إلى أوّل "حدث جنازة" الّذي أقيم تذكارًا للشّهداء الأبرياء الّذين استشهدوا سنة 1915. في الحقيقة، في مدينة القسطنطينيّة وفي الثّامن من شهر كانون الأوّل سنة 1918، في كنيسة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ للأرمن الكاثوليك، تمّ احتفال تاريخيّ أقيم بمناسبة ذكرى الإبادة الجماعيّة مسلّطًا الضّوء على مخطّط إبادة الأرمن الّذي نفّذ من قبل تركيا الفتاة. إحتفل بالقدّاس الإلهيّ صاحب الغبطة بولس بدروس الثّالث عشر ترزيان (1910-1931) كاثوليكوس بطريرك لبيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك. أمّا خطاب التّأبين في ذكرى الشّهداء فقد ألقاه صاحب السّيادة المطران يوحنّا نازليان (1875-1957) أسقف مدينة درابزون (Trabzon)، الّذي كان على دراية ومعرفة تامّة بالوجوه، بالأحداث والتّواريخ. في ذلك اليوم، بالكاد كان قد مرّت ثلاث سنوات ونصف على ذاك التّاريخ المميت أيّ 24 نيسان 1915،  لم يزل جرح الشّهداء القرمزيّ يؤلم، أو، كما قال اللّاهوتيّ والخطيب المتعدّد المواهب: "مبارك الدّمّ الّذي لا يزال يتدفّق دافئًا من حقولنا إلى السّماء، فليكون كقوس قزح يقطّر مصالحة وتضامن على شعبنا الأرمينيّ."

لم يزل المطران الملقي الخطاب مقتنع كما بالأمس واليوم أيضًا، بأنّ هابيل البريء يجدّد دمه الصّراخ عند كلّ جريمة قتل، والآن، فإنّ الإبادة الجماعيّة ليست دمًا لشخص واحد، بل هي دماء ملايين تصرخ ضدّ مرتكبيها. خلال حدث الجنازة الّذي أقيم في الثّامن من شهر كانون الأوّل في العام 1918، طالب منظّموه من الأجيال الصّاعدة بمواصلة ما بدأوه وإحياء الذّكرى الخالدة والعطرة لشهداء نيسان كلّ عام. وهكذا، كان للمطلب العادل قوّته الحتميّة، وبفضل هذه الرّوحانيّة، كإرث مقدّس ورثه أسلافنا ومن ثمّ نحن، هم استمرّوا ونستمرّ وها قد مضت 108 عام. ولكن، في احتفاليّة الجنازة انتقلنا من الأداء الحزين إلى الذّكرى المجيدة، لأنّه كما أكّد ملقي الكلمة، بأنّه قد تمّ شراء وجودنا الوطنيّ بالدّمّ، وبختم الصّليب، وبالتّالي لا يمكن أن يكون الظّلم ضمانة لخطّة دائمة، فالمتعطّش للدّماء محكوم عليه بالهلاك وقضاء الله سيعلن". يكفي، إذن، لأمّة أن تنال نعمة الله، وإن كانت مسحوقة ستنمو. فأبناؤنا الّذين تربّوا وتفتّحوا في لبنان، واصلوا التّقليد المقدّس للذّكرى، والّتي أريد أن أنوّه هنا عن حدث واحد حصل.

أمّا من جانب بطريركيّتنا، فقد نظّمت جمعيّة الشّبيبة الأرمنيّة الكاثوليكيّة في الثّامن والعشرين من نيسان سنة 1937، حفلة إحياء ذكرى لأرواح الشّهداء بكلمة ألقاها صاحب السّيادة المطران يوحنّا نازليان. وقد شهد شاهد عيان من المستمعين على ذلك الخطاب قائلاً: إنّها لقصيدة قيّمة كتبها قلب وقلم وطنيّ، جديرة بالشّهداء الأرمن وهديّة قيّمة وتذكارًا لهم. كما كنّا الأوّلين في الاحتفاليّات الدّينيّة، الرّوحانيّة والفكريّة، كذلك الأمر نحن أيضًا السّبّاقين في بناء النّصب التّذكاريّة تخليدًا لذكرى الشّهداء. لم يكتف منظّمو الحداد أو إحياء ذكرى شهداء نيسان 1915 بهذا القدر من الاحتفاليّات، بل أعطوا أولويّة أيضًا للنّصب التّذكاريّة الّتي أقيمت تكريمًا لشهداء الإبادة الجماعيّة للأرمن، ليس فقط على الأراضي اللّبنانيّة، ولكن أيضًا في العالم كلّه، إن في الوطن الأمّ أو خارجه. يعود "النّصب" التّذكاريّ الأوّل ما بين النّصب التّذكاريّة الّتي شيّدت ما بين الثّامن من كانون الأوّل من سنة 1918 الى الخامس والعشرين من شهر نيسان 1919، والّذي بقي حتّى سنة 1922 حيث هدمه ما يعرف بـ"القوميّون" أو "بالكمالاكيّين". (أتباع كمال باشا). وقد تلى النّصب التّذكاريّ نيسان الحادي عشر" (بحسب التّقويم القديم) الأوّل نصب ثان نصب شهداء الأرمن" والّذي يعتبر اليوم النّصب الأوّل المقام في باحة بطريركيّة الأرمن الكاثوليك، الجعيتاويّ، الاشرفيّة، بيروت.  

في الحقيقة، ففي الذّكرى الخامسة والعشرين للإبادة الأرمنيّة وإكرامًا للشّهداء، أقام المثلّث الرّحمات البطريرك كريكور بدروس الخامس عشر أغاجانيان (1937-1962) كاثوليكوس بطريرك الأرمن الكاثوليك نصبًا تذكاريًّا تخليدًا لذكراهم. وبعد لحظات سوف نتّجه بمسيرة نحو باحة البطريركيّة حيث سنقيم الصّلاة على نيّة الشّهداء، وليتردّد في داخلنا صدى كلمات الكاردينال الثّاني للأمّة الأرمنيّة "خادم الله" الّتي اقتبستها من خطابه الّذي ألقاه في الرّابع والعشرين من شهر نيسان سنة 1939. نجتمع اليوم احترامًا للذّكرى العطرة لشهدائنا الّتي لا تنسى وهم الّذين شهدوا بدمائهم من أجل إيمانهم ووطنهم. هذا النّصب له مفهوم خاصّ. العمود يرمز إلى أمّتنا، الوطن الأمّ، الّذي أشواكه ورود بالنّسبة لنا، واشتياقنا له يذيب أرواحنا. مكسور هذا العمود، يتراءى لنا محطّمًا ومدمّرًا. هذا هو حالنا، مشتّتين في العالم، منفيّين وغرباء، لكنّه بقي صامدًا، لأنّه متمسّك بالحياة، والرّغبة في الحفاظ على الذّات، ومثله العليا.

الصّليب المقدّس رجاء وخلاص لشعب الأمّة، يتسلّط على رأس العمود ويغرس جذوره في قلب الأمّة الأرمنيّة. ذاك الصّليب يرمز إلى الأمل الدّائم لأيّام أفضل. الصّليب المقدّس يقف كظاهرة مطمئنة ورجاء، الصّليب والصّلب سيجلبان معهما تاج القيامة. هذا هو المكان الّذي يمكننا أن نكرّر فيه الكلمات الذّهبيّة للشّاعر يغيشي: "الموت بدون معرفة، موت. أمّا معرفة الموت، خلود. شهداؤنا الخالدون يشفعون ويحاربون من أجل الوطن الأمّ، في هذا العالم، لأنّ دماءهم تحتجّ باستمرار، وتطالب بالعدالة للشّعب الأرمنيّ. ستبقى دماؤهم الفادية لا تنضب، وضمانة لأيّام أفضل آتية. هذا هو أملنا الّذي لا جدال فيه ضدّ كلّ أمل .

من ناحية، لكي نبقي "أملنا الّذي لا يقهر" متّقدًا، ومن ناحية أخرى، لكي نبقي ذكرى الشّهداء نضرة، فلنلتفّ حول "النّصب التّذكاريّ لشهداء الأرمن" كلّ عام لإحياء الذّكرى، والّذي بلغ ذروته ما بين عامي 1952 و1962. في تلك السّنوات، كان الخطيب البليغ لشهداء الإبادة الجماعيّة للأرمن هو صاحب السّيادة الأسقف الدّكتور ساهاك كوكيان (1895-1963)، من الرّهبنة المخيتاريّين في فينا، الّذي وصفه النّاقد الأدبيّ الكبير أونيك ساركيسيان (1914-1992) من خلال خطاباته الأحد عشر الّتي جمعت في مجلّد بأنّ مفعول كلماته كانت "راحة وسكينة لأرواح شهدائنا العطرة، كما وهي شاهد جميل نقشت عليه لغة القدّيس مسروب واجد الأبجديّة الأرمنيّة.  

أخوتي وأخواتي، اسمحوا لي أن أنهي كلمتي ببعض الكلمات النّاريّة المقتبسة من الأب كوكيان، والّتي لها صلة بهذا اليوم ويمكن أن تدفئ قلوبنا وتوجّه خطواتنا الأرمينيّة- المسيحيّة نحو البقاء الأبديّ لأمّتنا ووطننا الأمّ. عندما لا يكفي الإيمان، وعندما تسوء الأخلاق، ويخبو حبّ الأمّة والوطن، وعندما تفرّقنا الوحدة، يمكن للعدوّ أن يتباهى ويتبجّح. إذا لم يكن حبّ الوطن فعّالاً، فهو لا يختلف كثيرًا عن الكذبة الزّائفة. الوطنيّ الحقيقيّ ليس متفاخرًا، بل واقعيّ، منسيًّا لذاته، يضحّي بنفسه. بدون تضحية، الوطنيّة وهم، ومحبّة الوطن رغوة. العدوّ المذنب سيفتخر عندما لا تزال ممثّلة الثّقافة الأرمنيّة، اللّغة الأمّ، صامتة على الشّفاه الأرمنيّة، في الأسرة الأرمنيّة. عندما تبدو اللّغة الأرمنيّة أجنبيّة وبربريّة بالنّسبة للجيل الجديد، الّذي هو أمل الأمّة سيفتخر العدوّ المجرم مجدّدًا. قال أرنولد جوزيف توينبي (1889-1975)، وهو رجل إنجليزيّ كتب عن المذابح الأرمنيّة: "تموت أمّة عندما يموت الإيمان وتموت الأخلاق". إذا ماتت أمّة، وأماتت الإيمان معها، فإنّ عملنا يكون واضحًا: "دعونا نعيش في إيمان، متّحدين وأخوة، حتّى نتمكّن كأفراد وكأسرة وكأمّة من العيش بعافية، فيمكننا عندئذ البقاء أقوياء وسنكون قادرين للبقاء على قيد الحياة بطريقة تجعل انتصارنا ليس فقط أرضيًّا، بل أيضًا أبديًّا". ديمومتنا ومحيي عزّتنا أنتم يا شهداء نيسان، على ديننا وأمّتنا شهود، وللحقيقة رسل، وللإنسانيّة شجعان، لستم بحاجة لصلواتنا ومديحنا، نحن بحاجة لتضرّعاتكم وشفاعتكم، نحن بعوز لحمياتكم، نحتاج الى مثال قلبكم المتّقد".

بعد القدّاس، أقيم تطواف من المدرسة إلى ساحة البطريركيّة للصّلاة على نيّة الشّهداء.