موارنة أستراليا يصلّون لراحة نفس البطريرك صفير
وخلال القداس ألقى المطران طربيه عظة جاء فيها بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "منذ وردنا نبأ وفاة المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في صباح الأحد الفائت، وكنيستنا المارونيّة تعيش حزنًا ممزوجًا بالرّجاء المسيحيّ لرحيل خادم أمين لله، للكنيسة وبطريرك الاستقلال اللّبنانيّ الثّاني. نلتقي اليوم في هذه الكنيسة المباركة ليس لنصلّي لأجل راحة نفسه وحسب، إنّما أيضًا لنتأمّل بسيرة حياته ومواقفه وعطاءاته السّخيّة للكنيسة ولبنان لأنّه بالفعل كان أيقونة الرّجاء في الأزمنة الصّعبة.
في 15 أيّار من سنة 1920 - والّذي يصادف أيضًا عيد سيّدة الزّروع- فرح مارون صفير وحنّة فهد بولادة ابنهما نصرالله وحيدًا على خمس شقيقات، سبقه منهن ثلاثة إلى بيت الآب السّماويّ. ومنذ حداثته تميّز بتقواه ومحبّته للعلم والمعرفة والتّمكّن من اللّغات خصوصًا العربيّة والفرنسيّة. وقد لبّى نصرالله النّداء إلى اتّباع المسيح في الحياة الكهنوتيّة. وبعد أن أنهى وبجدارة دراسة اللّاهوت والفلسفة، سيم كاهنًا سنة 1950. ونظرًا لما كان يتحلّى به من صفات إنسانيّة وفضائل روحيّة ومعرفة باللّغات، عيّنه المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي، أمين سرّه، سنة 1956. وبعد خمس سنوات، أيّ في 16 تمّوز من سنة 1961، انتخبه السّينودوس المارونيّ مطرانًا ونائبًا بطريركيًّا عامًّا، وهو في سنيه الواحد والأربعين 41. من ثمّ تولى إدارة الأبرشيّة البطريركيّة بكلّ نياباتها: جبيل، البترون، جبّة بشري، إهدن مع زغرتا ودير الأحمر. فكان الرّاعي الغيور على قطيعه والمتفاني في خدمة أبناء الكنيسة والسّهر على خيرهم الرّوحيّ وتدبير شؤونهم بكلّ تجرّد وتواضع ومحبّة.
إستمرّ في مهمّته كنائب عامّ مع المثلّث الرّحمة الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش، الّذي انتخب في مطلع العام 1975، قبيل اندلاع الحرب في لبنان في 13 نيسان من العام نفسه. فكان إلى جانب البطريرك الكاردينال خريش في مواجهة المخطّطات الظّالمة والمظلمة، الهادمة والشّرّيرة، والّتي كانت تهدف إلى هدم المؤسّسات الدّستوريّة والإدارات العامّة، وتقسيم لبنان وترحيل المسيحيّين منه. وفي نيسان من سنة 1986، انتخبه سينودوس الأساقفة بطريركًا فكان البطريرك السّادس والسّبعون، فقبل البطريركيّة بوعي تامّ ككلّ أسلافه البطاركة، وانطلق حاملاً صليبين: صليب الرّبّ يسوع، بعيش الفضائل المسيحيّة وحياة الصّلاة والتّأمّل وإعلان بشرى الإنجيل وتوزيع الأسرار وتدبير القطيع كراع صالح للكنيسة المارونيّة، وصليب لبنان المعذّب وإنسانه المقهور، مدركًا تمامًا أنّ هذا الجبل اللّبنانيّ هو معقل إيمان، وموئل حرّيّة، وحصن كرامة، لا يمكن التّخلّي عنه أو القبول بتغيير هويّته التّاريخيّة أو الدّيموغرافيّة.
بعد مشاورات خاصّة مع مجلس المطارنة، قدّم المثلّث الرّحمة استقالته إلى قداسة البابا بنديكتوس وكان قد بلغ من العمر 90 سنة. كان يردّد: "من الأفضل أن أتنحّى وأنا بكامل وعيي وقدراتي". وفي 26 من شهر شباط من سنة 2011، وجّه البابا بنديكتوس السّادس عشر رسالة إلى البطريرك صفير، ليشكره فيها على خدمته بعد 25 عامًا على رعايته للكنيسة المارونيّة في تلك المرحلة الصّعبة والخطيرة من تاريخ لبنان الحديث، قائلاً: "أرحّب بقراركم الحرّ والشّهم والّذي يعبّر عن تواضع كبير وتجرّد عميق. وإنّي متأكّد من أنّكم سترافقون دومًا الكنيسة المارونيّة بالصّلاة والمشورة الحكيمة والتّضحيات.
إنّ قدّاسنا يأتي لنتأمّل بسيرة حياته وإنجازاته للكنيسة وللوطن. والكلّ يجمع على أنّه كان ركنًا روحيًّا كبيرًا من أركان الكنيسة، ودرعًا واقيًا للبنان، يصلّي لأجل شعبه ليبقى مؤمنًا وحرًّا ومستقلّاً إذ كان يردّد: "الحرّيّة إذ عدمناها لا سمح الله عدمنا الحياة".
وتوقّف عند "صموده وعمله الدّؤوب لتحرير أرض لبنان من كلّ احتلال ووجود عسكريّ غريب ولأنّه لم يكن ليرضى بأقلّ من السّيادة والحرّيّة والاستقلال لبلده وشعبه، قال صاحب الغبطة والنّيافة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في عظة رثائه: "لقد رأى الكثيرون فيه بطريرك الاستقلال الثّاني وبطريرك المصالحة الوطنيّة، والبطريرك الّذي لن يتكرّر، المناضل والمقاوم من دون سلاح أو سيف، بل كان صمّام الأمان لبقاء الوطن وضمانة استمرار العيش المشترك بين اللّبنانيّين، تميّز بالإصغاء، يتكلّم قليلاً ويتأمّل كثيرًا، ثمّ يحزم الأمر ويحسم الموقف. كجبل صامد لا تهزّه ريح، أمديحًا كان أم تجريحًا، أم رفضًا أو انتقادًا لاذعًا، لقد كان في كلّ ذلك يزداد صلابة على شبة شجرة الأرز الّتي تنمو وتقوى وتتصلّب بمقدار ما تعصف الرّياح بها وتتراكم الثّلوج حولها وعلى أغصانها.
من الإنجازات الكنسيّة الكبيرة الّتي قام بها البطريرك الرّاحل والّتي يجب التّوقّف عندها هو المجمع البطريركيّ المارونيّ الّذي دعا إلى انعقاده برسالة عامّة وجّهها في عيد القدّيس مارون سنة 2003، بعد سنوات طويلة من التّفكير والعمل والتّحضير. وترأّس غبطته كلّ جلساته في دوراته الثّلاث على مدى ثلاث سنوات. وفي ختام المجمع في 11 حزيران سنة 2006 قال: "نحمد الله على عقد المجمع وإنجاز ما آلينا على نفوسنا إنجازه....أمّا وقد أصبحت وثائق المجمع البطريركيّ بين أيديكم، فنرجو أن تشكّل لكم مرجعًا تعودون إليها للاستنارة بما فيها من توجيهات سليمة تتعلّق بحياة الكنيسة وتعاليمها ورسالتها."
كلّنا رجاء أنّ المثلّث الرّحمة أغمض عينيه عن هذه الدّنيا، ليفتحها على بهاء النّور الأبديّ في الملكوت السّماويّ حيث سيبقى ساهرًا ومصلّيًا لشعبه وكنيسته من حيث هو في السّماء بصحبة الأبرار والصّدّيقين. وكما نردّد بحسب التّقليد الكنسيّ أنّ مجد لبنان أعطي له، نقول اليوم مع رحيل البطريرك الكبير مار نصرالله بطرس صفير: إنّه بالفعل كان مجدًا أعطي للبنان. فلّله التّسبيح والشّكران الآن وإلى الأبد. آمين".