مطر في احتفال الحكمة بعيد شفيعها: بالروح العائلية نفرض حقيقة أن لبنان بلد قائم بذاته
ترأس رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر القداس في كنيسة مار يوسف - الحكمة، يحيط به رئيس المدرسة وكاهن الرعية ولفيف من الكهنة، وشارك فيه المطران يوسف أنيس أبي عاد ووزراء وونواب وونقباء حاليون وسابقون وشخصيات سياسية وقضائية وقانونية وطبية وهندسية واقتصادية واجتماعية ورجال أعمال من أبناء الحكمة وبناتها.
وقال مطر في العظة: "تجتمعون في رحاب "أم البنين" للسنة الأولى بعد الاحتفال بالعيد الأربعين بعد المئة لتأسيسها، وفي قلوبكم فرحة التلاقي ضمن أرجاء كانت بالأمس مرتعا لأحلامكم، وتبقى لكم على الدوام مصدر رجاء متجدد بالغد، لأنكم تعلمتم فيها أنكم صانعوه". ولفت إلى أن "مؤسس الحكمة أراد أن يختار القديس يوسف شفيع العائلات حاميا لها ومرشدا، لأنه أرادها عائلة قائمة على المعرفة والحب سبيلين إلى الإبداع. فأوكل إلى طهر الشفيع وقداسته أمر رعايتها وحسن إلهامها لتبقى مدى الأجيال منارة مضيئة لمسيرة أبنائها في دروب الحياة".
ودعا إلى "التأمل بفضائل القديس يوسف، المربي الصالح للطفل الإلهي والمجند بدعوة من ربه للسهر على العائلة المقدسة والمضحي في سبيلها مهما غلت التضحيات، وقد بلغ في تحقيق رسالته هذه مبلغ الكمال". وأضاف: "ما من شك في إن الحكمة قد تبلورت مع الزمن عائلة مباركة بامتياز، بعد أن استلهمت شفيعها وانطلقت في احتضان أبنائها متوخية لهم أن يجسدوا الأخوة بعضهم مع بعض إلى أية طائفة انتموا ومن أية منطقة قدموا".
وقال: "وأنتم الذين تميزتم في انتمائكم لهذا الصرح بروح عائلية كانت روحكم وتبقى، لا بد من أن تكونوا مسؤولين عن نشر روح المحبة في المجتمعات التي تندرجون فيها كما في الأوطان التي تتخذونها لكم منابت عز ومنابع فخار. أنتم إذن في لبنان العزيز مؤتمنون على الأخوة تجاه كل الأطياف والانتماءات وعن حسن مصير هذا الوطن الذي قيل فيه إنه رسالة. واذكروا إن هذا القول جاء تأكيدا لمنحى كانت الحكمة قد اختارته لها منذ تأسيسها فيكون لكم فيه مصدر قوة وإلهام في خدمتكم للبنان العزيز".
وأضاف: "الروح العائلية هي التي توحد الناس في المجتمعات كما في الأوطان فلا يتفكك مجتمع ولا يتغير وطن مع هزة كل ريح. هكذا أيضا مصير الدولة فهي بحاجة إلى أسس متينة لا ترتبط فقط بحكم القوة والقهر من قبل أكثرية على أقلية والدساتير والقوانين ومعها كل أنواع المواثيق، إنما هي ركائز في حياة الدول وهي تساعد على عدم طغيان أحد على أحد. لكن أبناء الدولة الواحدة لن يصمدوا في وحدتهم ولا في حياتهم العامة ما لم يكونوا راضين عن أوضاعهم ومتمتعين في داخل نفوسهم باستقرار كبير. لذلك نحن اليوم غير مرتاحين لهذا الانقسام العمودي الذي يهدد وحدة بلادنا بالذات. وهو لا يقف عند حدود زعزعة النظام الذي لن يصمد طويلا في حال دوام هذا الانقسام واستفحاله. بل راح هذا الانقسام يضرب لبنان بالعمق ويمس وحدة البلاد وتماسكها. وما صار مقيتا في أعين العقلاء هو ضعف اهتمام الأطياف اللبنانية بعضها ببعض وكأن كل جماعة منها تكون لها مصيرا خاصا لا يلتقي بالضرورة بمصير الآخرين، كما تكون لها رأي خاص بالوطن ومصيره لا يلتقي على التمام مع رأي الآخرين. هذا فيما قال الأقدمون إن لا خلاص لمدينة ما لم يشعر أهلها جميعا إنهم أهل مصير واحد. إن لكل منا أصدقاء في خارج البلاد ومرجعيات روحية نكن لها الاحترام ونلتزم حيالها الولاء الإيماني. لكن أبناء الوطن هم وحدهم المواطنون والمرتبطون بمصير فريد فيما بينهم لا يرقى إليه لقاء مع أي طرف آخر. لذلك وحيال هذه الأخطار المحدقة بنا، يطلب منا أن نتبنى في علاقاتنا بعضنا مع بعض الروح العائلية القادرة وحدها على جمعنا على الحب دون سواه. فيتغير عند ذاك كل حديث بيننا وتبنى الثقة بالوطن الواحد وبالمواطنين الذين نرى فيهم أخوة لنا حقيقيين، وشركاء في المصير الواحد. ونفرض على العالم حقيقة وهي إن لبنان بلد قائم بذاته وليس امتدادا لغيره كائنا من كان. على هذا الأساس يكون الحوار فيما بيننا بناء أو لا يكون. وسوف يتغير لبنان كليا إذا ما اعتبرنا إننا بعضنا حيال بعض أهل قربى لا غرباء".
وسأل: "أليس هذا ما علمتكم إياه الحكمة منذ مئة وأربعين سنة وحتى اليوم، دون تغيير في التعليم هذا ولا تبديل؟ إن هذا التوجه يجب أن يبقى توجه الحكمة التي صارت اليوم جامعة وارفة الظلال ومدارس ستة تنتشر على أرض الأبرشية في كل اتجاه، وهذه الدوحة التي تبنت العربية أدبا وشعرا كما لا أحد سواها، لخليقة بأن تكمل هذا التراث راجية أن يتكلم العرب كلهم لغة واحدة هي لغة العقل والمحبة. وهذه المدرسة التي انفتحت على قيم الغرب والشرق معا لهي خليقة بأن تربي الأجيال على الانفتاح حيال الآخر وليس على الانغلاق والتزمت والعصبية القاتلة. إن مثل هذا الخيار يتنافى مع التطرف من أي جهة أتى، والتربية التي تسانده تشكل موقفا روحيا يصب في خانة بناء الأوطان وخلاص المجتمعات. أما العلم الذي تقدمه للأجيال الطالعة فهو يتضمن أيضا طريقة للتعلم المستمر ولمواكبة تطور الكون الذي راح يتعولم ماديا ويتفكك روحيا وكأنه يسير بلا أهداف".
وتابع: "هكذا تنبري مدرستكم أيها الأحباء، خادمة لمشروع وطني موحد آمنت به منذ البدايات وما تزال، ومنفتحة على حسن مصير لمنطقة نتمنى أن تجلو عنها أخطار الحقد ورفض الآخر وتشويه وجه الأديان وإبعادها قسرا عن مسارها الصحيح".
وختم مهنئا بالعيد، متمنيا "التوفيق للمدرسة العزيزة الغالية استمرارا في الأصالة وفي التوثب نحو أحسن المستقبلات".
المصدر : وطنية