العراق
27 آب 2018, 10:52

مسيحيّونا... بين الحقّ والحقيقة

في البدء، شاءت إرادة الخالق في سمائه أنْ حلّ ما حلّ فينا، وما ذلك إلّا إرادته، فليكن اسمه ممجَّداً ومسبَّحًا مدى الدّهور وكما يقول مار بولس: "كلّ شيء فيه وبه وله، فليكن اسم الرّبّ مبارَكًا" (رومية37:11). أمّا الدّنيا فقد شاءت بإرادتها أن تحمل إلينا هموم الحياة ومتاعب الزّمن وحقيقة الألم ودنيا المصائب، فطُردنا من منازلنا، وهُدِّدنا في قرانا ومدننا، وأُجبرنا على ترك كلّ شيء، نعم كلّ شيء، وسُجّلت بيوتنا وعقاراتنا بأسماء تنظيمهم الإرهابيّ، وألصقوا حرف النّون على أبوابنا مدّعين أنّ لهم الحقّ بكلّ شيء، وما نحن إلّا كفّار في الدّين والدّنيا، ولا يحقّ لنا أن نملك حتّى ما يكسو أجسامنا، وكلّ ذلك بسبب كوننا مؤمنين بالمسيح الحيّ. أرادونا أن نتخلّى عن إيماننا، فعملوا ما استطاعوا من أجل إهانتنا وتحقيرنا وتكفيرنا، كما أمعنوا في تدميرنا، ولكن نقول: مهما كتبوا عنّا ومهما نوّعوا في تحقيرنا فلا نكران لإيماننا مهما خسرنا من دنيانا، فما نحن إلّا شهود لحقيقة الإيمان ولمسيرة الحقيقة... ليس إلّا!!!

 

أقلّيّة بائسة

بعد خمسة عشر عامًا مرّت بمآسيها وطيّاتها المؤلمة، بطائفيّتها وعنصريّتها، ولا زلنا نراوح من أجل نيل حقوقنا، بل لا زلنا ننظر إلى مستقبل مجهول فيه نسأل وهو يتساءل فينا قائلاً: ماذا تنتظرون؟ ما رؤيتكم للمستقبل؟ ألا تكفي هذه الأعوام وما حملته إليكم لتدركوا حقيقة كبار زمنكم وكلمات دستوركم؟ ألم تعرفوا أنّ لا حقوق لكم إلّا في ملء كنائسكم، ولا صيانة لحرّيّتكم في الإيمان والحياة إلّا ما يشاؤون وما يرسمون؟ فما نحن إلّا أقلّيّة بائسة موضوعة على رفّ الدّنيا والمصلحة، يجمّلون مسيرتنا متى شاءوا، ويقدّموننا قربانًا إذا كان ذلك من أجل دنياهم وأهدافهم ليلاً ونهارًا، فنخاف من ظلّنا، ونتألّم على وجودنا، ونسأل عن كبارنا وشهدائنا فهم "ليسوا في الوجود" (متّى 18:2)، وشبابنا قد رحلوا، فدنياهم وأرضهم أصبحتا هيرودس بظلمه الفاحش (متّى 13:2)، هذا حالنا حتّى السّاعة... أليس كذلك!!!؟

 

تجربة مأساويّة

إنّ التّجربة المأساويّة الّتي خيّمت علينا منذ أمد بعيد، وفي هذه السّنين الأخيرة عشنا مآسيها، فقد كانت مليئة بالمعاناة والألم والصّعاب وقسوة الحياة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فرّقتنا الطّائفيّة وجعلتنا العشائريّة والقبليّة أعداءً، وملأتا قلوبنا عداوةً وحقدًا وكراهيّة، فأصبحنا نتكلّم عن أنانيّتنا وكأنّ المُلك والعالم هو لنا ( يو10:1)، ونسينا أنّ هناك أخوة من أديان أخرى، من مكوِّنات مختلفة، تقاسمنا حبّ التّراب والوطن، وتشاطرنا المسيرة المتعَبَة... وأمام هذه تتّجه أنظارنا وتطلّعاتنا على حكومة مدنيّة عابرة للطّائفيّة والمحاصصة والعشائريّة، ويحكمنا الدّستور الّذي كتبناه بعرق جبيننا، وليس الّذي أُعطي لنا، كي نكون عبيدًا له، وننادي بمبدأ المواطنة في العدالة والمساواة... أليس كذلك!!!؟

 

ثمنًا باهضًا

إنّها الحقيقة بالذّات... شعبنا كلّه دفع ثمنًا باهظًا عن خطأ لم يرتكبه. فالسّياسة في كثير من الأحيان تجعل الشّعوب عبيدًا للمبادئ المزيَّفة، ومطيعًا لمنافقي المسيرة. نعم، إستشهد عديدنا، وقالوا لنا يومًا "إرحلوا عنّا، فهذه ليست أرضكم"، وعانينا، ولا زلنا نعاني عدم الاستقرار وهجرة أبنائنا، وبالأمس القريب طردنا داعش الإرهاب، وأزاد الفوضى في مسيرة حياتنا بسبب نفاق كبار الزّمن وغواية الشّرّ الّذي مَلَكَ في قلوب المستعبدين، فماتت الضّمائر. ولكن، من أخطر الأمور عندما يُقنِع المنافق الآخرين أنّه ذو ضمير حيّ ولا يرضى أن يخالف تأثيره على حياته. ومن المؤلم حقًّا عندما يكون المنافقون من كبار الدّنيا ورجال الزّمن الّذين يحلّلون كلّ حرام، وينسون أنّهم يلوّثون سمعتها بوصمة عار يتعذّر على التّاريخ محوها، فيقرأها الأجيال ويترحّموا على الأبرياء وعذاباتهم... أليس كذلك!!!؟

 

غبار السّياسة

أين هي الرّؤية الواضحة لمستقبل أجيالنا من قِبَل حكوماتنا الموقّرة؟ فالمسيحيّون أمناء لتربتهم وأوفياء لمسيرتهم وحقيقة إيمانهم وحبّهم لشعبهم، ويُبان هذا جليًّا في صلواتهم إلى ربّ السّماء من أجل الحكمة والعدالة. وأمام هذا كلّه لا زالت حقوقنا في نسيان الطّلب، ومآربنا وآمالنا في تهميش، شئنا أم أبينا، وربّما وُضعت فوق رفوف الطّلب تنتظر مَن يمسح عنها غبار السّياسة المزيَّفة والحقوق المكتوبة لتُبان جليًّا أصالتنا وعمق وجودنا قبل غيرنا، فنستطيع أن نقوم بدورنا ونجدّد حيويّتنا كي نبني ما دمّره الإرهاب القاتل، وما هدمته الطّائفيّة اللّعينة، وما رسمته العشائريّة المقيتة، وما ظلمه الدّستور في مواده وأسطره، فنكون أخيرًا مواطنين بحقوقنا وواجباتنا... أليس كذلك!!!؟

 

ضاع الحقّ

مرّات عدّة ــ وعملاً وطاعةً لرؤسائنا ــ كنّا نقف من أجل الدّفاع عن حقوقنا، فكنّا ننادي بكتابة حقيقتنا وإعلان بياناتنا ومحو مواد كُتِبَت من أجلنا لتدميرنا ولإهانة كرامتنا، وتصغيرًا لمسيحنا وتقليلاً من شأننا، وكنّا كلّنا أملاً أنّ هذه الهتافات ستحصد ثمارها، وهذه البيانات سنقطف عناقيدها، وهذه الصّراخات سترفع عالياً شأن احتياجاتنا كي نكون أمناء لمستقبل أجيالنا وأطفالنا كي لا يكتبوا يومًا على صفحات قلوبهم أنّنا لم نكن لهم أمناء، فيرحلوا ويهاجروا بعيدًا، نعم بعيدًا، معلنين أنّ الإنسانيّة قد فقدت مصداقيّتها، وأنّها ليست من زرعات وطننا، وحقوقنا لم تُكتَب في صفحات أسفارنا. فنحن لا حول لنا ولا قوّة إلّا أن نهتف وننادي ونلجأ إلى الأقوى وأغلبيّته كي ننال ما نشاء وإن كان ناقصًا، فنحن في ذلك لهم شاكرون. ولكن هل نعلم جيّدًا أنّ حقوقنا هُضمت وبيعت وقُسّمت ولم يبقَ منها إلّا الأثر والتّراث، فضاع الحقّ ومَلَك الظّلم... أليس كذلك!!!؟

 

الارشاد الرّسوليّ

ما سبب دنيانا وما بالها اليوم في شرقنا، تطرد أبناءَها وتُجبرهم على أن يكونوا في صفوف المهجَّرين والنّازحين والمسجَّلين في دفاتر الأمم من أجل التّفتيش عن السّلام والاستقرار وقد رفع البابا بندكتس صوته في الإرشاد الرّسوليّ لكنائس الشّرق الأوسط مناديًا "أنّه لا يجوز أن يخلو الشّرق الأوسط من المسيحيّين" . فهل هناك من كبار الزّمن مَن يراهن على زوالنا وعدم بقائنا؟ وهل هناك مَن يتألّم لنقص أعدادنا وإن كانوا يتأهون لذلك؟ أليست هذه مأساتنا وقضيّتنا الّتي لا نريد لها إلّا البقاء في صفحات الدّستور جبرًا؟ أليس في ذلك مصالح لسياسات الموت سواء رفعنا أصواتنا أو تضامنّا مع غيرنا؟ فما مصيرنا إلّا مجهولٌ سواء متنا أم حيينا وذلك لا يهمّ صنّاع القرار وتجّار الأوطان، فالمهمة الأولى والأخيرة ضمان مصالح كبار الحكم والدّنيا والزّمن... إنّها سياسة الدّمار الّتي تسبّبت في مقتل وتهجير ونزوح الآلاف منّا ومن غيرنا، وما كان الدّستور لنا إلّا صفحات لكتاب نحلف بوجوده وهو لا يقرّ بوجودنا، فلا آذان صاغية، ولا أسطر وافية، فما حصل لنا ترك في نفوسنا آثاراً عميقة وبائسة، وأصبح الخوف علامتنا، بل حقيقتنا... ليس إلّا!!!

 

أمام ما يحصل في بلادنا الجريحة، وأمام ما قاسيناه منذ عقود وأجيال وسنين، سنبقى أمناء لتربتنا وسيبقى صوت الكنيسة والبابوات يرنّ في آذاننا أنّنا أصلاء الأرض، ولا يمكن أن نبيع أرض آبائنا، فهذه قد عُمّدت بعرق جبين أجدادنا، وجُبلت بدماء شهدائنا الأبرياء، شهداء سيّدة النّجاة، ولا يمكن أن نكون ضحيّة لتجّار النّاس فيخرّبوا ما بنيناه. فأرضنا ليست للبيع، وعراقنا ليس للتّهميش، فنحن لسنا عبيدَ المال بل نحن أبناء الرّافدين الّذين صمدوا بإيمانهم وبسالة احتمالهم فكان النّور مضيئًا (يو9:1) بعد ظلام مَلَك علينا (يو5:1). ونقولها وبكلّ شجاعة: من المؤسف أنّ أبناءنا الأبرياء قُتلوا بسبب مصالح في حروب شُنّت علينا، كما أنّ جرحانا ملئوا المستشفيات ودور الشّفاء فجعلونا معوّقي الحياة من أجل أن نكون بلا حركة ولا بناء، بل أن نحيا بتأوّه وأسف. وأصبح الدّواء بعيدًا عن مرضانا كما أصبحنا لا نملك دينارنا، كما أن نفوطنا حلّت نقمة علينا.

لذا أقولها: ألا يكفي ممّا أينعت وأثمرت مصالحكم يا كبارنا، يا جيراننا؟ أتركونا نبني ديارنا، فأمّهاتنا تبكي فلذّاتها ولا من يواسيها (متّى 18:2) كما يقول الكتاب "صوتٌ سُمِع في الرّامة، نوحٌ وبكاءٌ وعويلٌ كثير. راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزّى لأنّهم ليسوا بموجودين"... إنّها آلام الحزينة، فَمَن يعزّيها؟ فاتركواــ بحقّ المسيح الحيّ، بحقّ الله الّذي أحبّنا (يو34:13) ــ أتركونا نناجي ربّنا، ندعو إليه لينعم علينا برحمته، ويزرع بذرة السّلام في قلوبنا، وننمو وطنًا عزيزًا، وشعبًا مُحبًّا، وغدًا لأجيالنا، ومستقبلاً لأولادنا وأحفادنا. فذلك حقّنا وتلك حقيقتنا.. وما رجاؤنا إلّا بالله.. أليس كذلك! نعم وآمين!!؟