الفاتيكان
14 تشرين الثاني 2024, 10:40

مدعوّون، في كلّ الظروف، إلى أن نكون أصدقاءً للفقراء

تيلي لوميار/ نورسات
رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي للفقراء 2024 الصَّلاةُ الخارِجَةُ مِن فَمِ الفَقير تَصِلُ إلى قلبِ الله (سي 21، 5) أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء!

 

 

1- الصَّلاةُ الخارِجَةُ مِن فَمِ الفَقير تَصِلُ إلى قلبِ الله (راجع يشوع بن سيراخ 21، 5). في السّنة المخصّصة للصّلاة، تحضيرًا لليوبيل العادي 2025، نرى أنّ هذه العبارة من حكمة الكتاب المقدّس مناسبة أكثر من أيّ وقت مضى لتحضّرنا لليوم العالميّ الثّامن للفقراء، الذي سيقام في 17 تشرين الثّاني. الرّجاء المسيحيّ يشمل أيضًا يقيننا بأنّ صلاتنا تصل إلى حضرة الله، وليس أيّ صلاة، بل صلاة الفقير! لنتأمّل في هذه الكلمة و”لنقرأها“ على وجوه وفي قصص الفقراء الذين نلتقي بهم في نهارنا، حتّى تصير الصّلاة وسيلة شركة معهم ومشاركة في آلامهم.

2- سفر يشوع بن سيراخ، الذي نشير إليه، ليس معروفًا كثيرًا، ويستحقّ أن نكتشفه لكثرة المواضيع التي يتناولها، خاصّة علاقة الإنسان مع الله والعالم. كاتب هذا السّفر، بن سيراخ، هو معلّم، وهو من كَتَبَة أورشليم، الذي كتب ربّما في القرن الثّاني قبل الميلاد. كان رجلًا حكيمًا، ومتجذّرًا في تقليد إسرائيل، وكان يعلِّم في مختلف مجالات الحياة الإنسانيّة: في العمل والعائلة، والحياة في المجتمع وتربية الشّباب، وكان يهتمّ بالمواضيع التي لها صلة بالإيمان بالله وباحترام الشّريعة. وتطرّق إلى القضايا الصّعبة، الحرّيّة والشّرّ والعدل الإلهيّ، وهي قضايا تهمّنا اليوم أيضًا. أراد بن سيراخ، وبوحي من الرّوح القدس، أن يبيِّن للجميع الطّريق الذي يجب اتّباعه لنحيا حياة حكيمة وتستحقّ الحياة أمام الله والإخوة.

3- من المواضيع التي خصّص لها هذا الكاتب المقدس مساحة كبيرة هي الصّلاة. وصنع ذلك باندفاع كبير، لأنّه عبَّر عن خبرته الشّخصيّة. في الواقع، لا يمكن لأيّ كتابة عن الصّلاة أن تكون فعّالة ومثمرة ما لم تصدر عن شخص يقف كلّ يوم في حضرة الله ويستمع إلى كلمته. أعلن بن سيراخ أنّه طلب الحكمة منذ شبابه: "في شَبابي وقَبْلَ تَجْوالي، التَمَستُ الحِكمَةَ عَلانِيَةً في صَلاتي" (يشوع بن سيراخ 51، 13).

5- في مسيرته هذه، اكتشف حقيقة من حقائق الوحي الأساسيّة، وهي أنّ الفقراء لهم مكانة مميّزة في قلب الله، لدرجة أنّ الله يبدو مثل فاقد صبره أمام آلامهم، إلى أن يستردّ لهم حقّهم: "صَلاةُ المُتَواضِعِ تَنفُذُ الغُيوم، ولا يَتَعَزَّى حَتَّى تَصِل. ولا يَكُفُّ حَتَّى يَفتَقِدَه العَلِيّ، ويُنصِفَ الأَبْرارَ ويُجرِيَ القَضاء. فالرَّبُّ لا يُبطِئُ ولا يُطيلُ أَناتَه علَيهم" (يشوع بن سيراخ 35، 17–19). الله يعرف آلام أبنائه، لأنّه أبٌ متنبّه ومهتمّ بالجميع. لأنّه أبّ، فهو يعتني بالذين هُم في أمسّ الحاجة إلى عنايته: الفقراء، والمهمّشين، والمتألّمين، والمنسيّين... لا أحد يُستبعد من قلبه، بما أنّنا كلّنا أمامه فقراء ومُحتاجون. كلّنا متسوّلون. من دون الله نحن لا شيء. الحياة نفسها لو لم يُعطنا إيّاها الله، لَمَا كانت. مع ذلك، كم مرّة نعيش كما لو كنّا نحن أسياد الحياة أو كما لو كان علينا أن نكتسبها بقوتنا! بحسب عقليّة العالم يجب أن نصنع من أنفسنا شخصيّة، وأن تكون لنا شهرة، بالرّغم من كلّ شيء ومن الجميع، ولو خالفنا قوانين المجتمع، المهم أن نصل إلى المال. إنّه وهْمٌ مُحزن! لا يمكننا أن نحصل على السّعادة إن دُسنا على حقوق غيرنا وكرامتهم.

العنف الذي تسبّبه الحروب يُبيّن بوضوح كم من العجرفة تحرّك الذين يعتبرون أنفسهم أقوياء أمام النّاس، وهُم في الحقيقة أشقياء في نظر الله. كم من الفقراء الجدد تُنتج هذه السّياسة السّيّئة القائمة على الأسلحة، وكم من الضّحايا البريئة! مع ذلك، لا يمكننا أن نتراجع. تلاميذ يسوع المسيح يعرفون أنّ كلّ واحد من هؤلاء ”الصّغار“ يحمل وجه ابن الله مطبوعًا فيه، وأنّ تضامننا وعلامة المحبّة المسيحيّة يجب أن تصل إلى كلّ واحد منهم. "كلّ مسيحيّ وكلّ جماعة مؤمنة مدعُوَّةٌ إلى أن تكون أداة بين يدي الله لتحرير الفقراء ونموّهم، بحيث يستطيعون الاندماج كلّيًّا في المجتمع. وهذا يفترض أن نكون طيّعين ومتنبِّهين لنصغي إلى صوت الفقير ولنساعده" (الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 187).

5- في هذه السّنة المخصّصة للصّلاة، علينا أن نجعل صلاة الفقراء صلاتنا ونصلّي معهم. إنّه تحدٍّ يجب أن نقبله وعملٌ رعويٌّ يجب أن نغذّيه. في الواقع "إنّ أسوأ تمييز يعاني منه الفقراء هو انعدام العناية الرّوحيّة بهم. في معظم الفقراء انفتاح خاصّ على الإيمان، إنّهم بحاجة إلى الله، ولا يجوز أن نحرمهم صداقته، وبركته وكلمته والتّقدّم من الأسرار، ويجب أن نقترح عليهم طريقًا لتنمية الإيمان وتنضيجه. خيار الفقراء وأفضليتهم يجب أن نعبِّر عنها، بالأخصّ، بعناية دينيّة مميّزة وأولويّة" (المرجع نفسه، 200).

كلّ ذلك يتطلّب قلبًا متواضعًا، له الشّجاعة لأن يصير مستجديًا. قلبٌ مستعدٌّ لأن يعترف بأنّه فقير ومحتاج. في الواقع، هناك توافق بين الفقر والتواضع والثّقة. الفقير الحقيقيّ هو المتواضع، كما أكّد القدّيس الأسقف أغسطينس: "الفقير ليس له ما يفتخر به، أمّا الغنيّ فيفتخر بأنّه يُقاتل. لذلك أصغِ إليَّ: كُن فقيرًا حقيقيًّا، وكُن صاحب فضيلة، وكُن متواضعًا" (خطابات، 14، 4). الإنسان المتواضع ليس له ما يتباهى به ولا يدَّعِي شيئًا، فهو يعلم أنّه لا يستطيع أن يعتمد على نفسه، لكنّه يؤمن إيمانًا راسخًا أنّه يستطيع أن يلجأ إلى محبّة الله الرّحيمة، وهو أمام الله مثل الابن الضّال الذي عاد إلى بيته تائبًا ليجد عِناقَ أبيه (راجع لوقا 15، 11-24). بما أنّ الفقير ليس له ما يستند عليه، فهو يستمدّ القوّة من الله وفيهِ يضع ثقته كلّها. لذلك، التّواضع يولّد فينا الثّقة بأنّ الله لن يتخلّى عنّا أبدًا ولن يتركنا من دون إجابة.

6- للفقراء الذين يعيشون في مدننا وهم جزء من جماعاتنا أقول: لا تفقدوا هذا اليقين! الله متنبّه لكلّ واحد منكم وهو قريب منكم. إنّه لا ينساكم، لا يمكنه أن ينساكم أبدًا. كلّنا نعرف الصّلاة التي تبدو أنّها غير مستجابة. طلبنا أحيانًا أن نتحرّر من البؤس الذي جعلنا نتألّم وأذلّنا، وبدا لنا أنّ الله لا يصغي إلى ابتهالنا. لكن صمت الله ليس انشغالًا عن آلامنا، بل هو حافظ لنا كلمة يريدنا أن نقبلها بثقة، وأن نستسلم له ولإرادته. أكّد على ذلك مرّة أخرى سفر يشوع بن سيراخ: ”قضاء الرّبّ سيكون للفقير“ (راجع 21، 5). لذلك، يمكن أن تنبع من الفقر ترنيمة الأمل الحقيقيّ. لنتذكّر أنّه "عندما تنغلق الحياة الدّاخليّة على مصالحنا الذّاتيّة، لا يبقى محلّ للآخرين، فلا الفقراء يدخلون، ولا يُسمعُ صوت الله، ولا نتمتّع بفرح حبّه العذب، ولا يعود ينبض فينا الحماس لعمل الخير. […] ليست هذه الحياة في الرّوح النّابع من قلب المسيح القائم من بين الأموات" (الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 2).

7- صار اليوم العالميّ للفقراء مُوعدًا لكلّ جماعة كنسيّة. إنّها فرصة لعمل رعويّ يجب ألّا نستهين به، لأنّها تحثّ كلّ مؤمن على أن يصغي إلى صلاة الفقراء، ويدرك حضورهم واحتياجاتهم. إنّها فرصة مناسبة لتحقيق المبادرات التي تساعد الفقراء بصورة عمليّة، وأيضًا للاعتراف ولتقديم الدّعم للمتطوّعين الكثيرين الذين يكرّسون أنفسهم باندفاع للذين هم في أمسّ الحاجة. علينا أن نشكر الرّبّ يسوع من أجل الأشخاص الذين يضعون أنفسهم في الخدمة لكي يُصغوا ويدعموا الفقراء. إنّهم كهنة، ومكرّسون، وعلمانيّون، وهم يُظهِرون بشهادتهم جواب الله، على الذين يتوجّهون إليه. لذلك، ينكسر الصّمت في كلّ مرّة نستقبل فيها أخًا محتاجًا ونعانقه. الفقراء عندهم الكثير ليعلّمونا إيّاه، لأنّه في الثّقافة التي نحن فيها والتي تضع المال في المقام الأوّل وتضحّي غالبًا بكرامة الأشخاص على مذبح الخيرات المادّيّة، هُم يجدّفون عكس التّيّار ويبيِّنون أنّ ما هو ضروريّ للحياة هو شيء آخر تمامًا.

لذلك، الصّلاة تجد التّأكيد على أصالتها في المحبّة التي تصير لقاءً وقربًا. إن لم نُترجم الصّلاة إلى عمل حقيقيّ، فهي باطلة، في الواقع "الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيْت" (يعقوب 2، 26). مع ذلك، المحبّة من دون صلاة توشك أن تصير عملًا خيريًّا سينتهي بسرعة. "إن لم تكن صلاتنا اليومية حياة فينا أمينة، تصير أعمالنا فارغة، وتفقد روحها العميقة، وتتحوّل إلى نشاط زائد" (بندكتس السّادس عشر، التّعليم المسيحيّ، 25 نيسان 2012). يجب علينا أن نتجنّب هذه التّجربة وأن نكون متنبِّهين دائمًا للقوّة والمثابرة التي تأتينا من الرّوح القدس، واهبِ الحياة.

8- في هذا السّياق، جميلٌ أن نتذكّر الشّهادة التي تركتها لنا الأم تريزا دي كالكوتا، المرأة التي بذلت حياتها من أجل الفقراء. كانت القدّيسة تكرّر باستمرار بأنّ الصّلاة كانت هي المكان الذي منه كانت تستمدّ القوّة والإيمان لرسالتها في خدمة الأخيرين. عندما ألقت كلمتها في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، في 26 تشرين الأوّل 1985، وأظهرت للجميع المسبحة الورديّة التي كانت تحملها دائمًا في يدها، قالت: "أنا مجرّد راهبة فقيرة تصلّي. عندما أصلّي، يسوع يضع محبّته في قلبي وأنا أذهب لأعطيه لكلّ الفقراء الذين ألتقي بهم في مسيرتي. صلّوا أنتم أيضًا! صلّوا، وستنتبهون إلى الفقراء الذين بقربكم. ربّما هُم في الطّابق نفسه حيث تسكنون. ربّما في بيوتكم أيضًا هناك من ينتظر محبّتكم. صلّوا، وستنفتح أعينكم، وسيمتلئ قلبكم بالحبّ".

وكيف لا نتذكّر هنا، في مدينة روما، القدّيس بندكتس يوسف لابري (1748-1783)، الذي يرقد جسده ويُكرَّم في كنيسة رعيّة القدّيسة مريم في مونتي. إنّه حَاجٌّ جاء من فرنسا إلى روما، وقد رفضوه في أديرة كثيرة، وأمضى السّنوات الأخيرة من حياته فقيرًا بين الفقراء، وكان يقضي ساعاتٍ وساعاتٍ في الصّلاة أمام القربان المقدّس، وبيده المسبحة الورديّة، وكان يصلّي صلاة السّاعات، ويقرأ العهد الجديد والاقتداء بالمسيح. وبما أنّه لم يكن له حتّى غرفة صغيرة ليقيم فيها، كان ينام عادة في زاوية عند أخربة الكولوسيوم، فهو ”مشَرّدُ الله“، جعل من حياته صلاة متواصلة ترتفع إليه.

9- في مسيرتنا نحو السّنة المقدّسة، أحثّ الجميع أن يجعل من نفسه حاجًّا يحمل الرّجاء، وأن يقوم بأعمال ملموسة من أجل مستقبل أفضل. لا ننسَ أن نحافظ على "أصغر التّفاصيل التي تدلّ على المحبّة" (الإرشاد الرسولي، اِفَرحوا وابتَهِجوا، 145): أن نَقِف، ونقترب، ونُولي بعض الاهتمام، ونبتسم، ونلاطف، ونقول كلمة تعزية... هذه أعمال لا تُرتَجل، إنّها تتطلّب منّا أمانة يوميّة، غالبًا في الخفاء والصّمت، لكنّها تجد قوّة في الصّلاة. في هذا الوقت، الذي فيه يبدو أنّ ترنيمة الرّجاء تزول ليحلّ محلّها ضجيج الأسلحة، وصراخ الجرحى الأبرياء الكثيرين، وصمت ضحايا الحروب التي لا تُحصى، لنوجّه إلى الله ابتهالنا من أجل السّلام. نحن فقراء إلى السّلام فلنمدّ أيدينا إلى الله ليمنحا السّلام عطيّة ثمينة، وفي الوقت نفسه لنلتزم بأن نصنع السّلام في نسيج حياتنا اليوميّة.

10-نحن مدعوّون، في كلّ الظروف، إلى أن نكون أصدقاءً للفقراء، على خطى يسوع الذي كان أوّل من تضامن مع الأخيرين. لتعضدنا في مسيرتنا هذه والدة الله القدّيسة مريم الكلّيّة القداسة التي ظهرت في بانو (Banneux) وتركت لنا رسالة يجب علينا ألّا ننساها: "أنا عذراء الفقراء". هي التي نظر الله إلى فقرها المتواضع، وحقّق أمورًا كبيرة بطاعتها، إليها نوكل صلاتنا، ونحن مقتنعون بأنّها سترتفع إلى السّماء وسيسمعها الله.