ما هي متطلّبات التّتلمذ ليسوع؟
وفي تفاصيل تأمّله، يقول بيتسابالا بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ: ""مَن رآني رأى الآب": تُلخّص هذه الكلمات من إنجيل القدّيس يوحنّا (14: 9) أسلوب ورسالة يسوع بين البشر. وتوضح هذه الكلمات أنّ يسوع لم يأت كي يُعلن عن ذاته، أو ليُقدّم رسالة للجميع تتمحور حول شخصه، مهما كانت هذه الرّسالة جديدة وجميلة وجديرة بالاهتمام. لقد جاء كي يُقدّم للبشر شيئًا أكثر من ذاته: لقد قدّم الآب.
كيف استطاع فعل ذلك؟
يسوع متّحدٌ كلّيًّا بالآب، وعلى علاقة كاملة معه، وفي طاعة تامّة له، وحيّ بكلمته، بحيث أنّ كلّ من رآه لا يكون قد رأى يسوع فقط: بل يكون قد رأى محبّة الآب، وحنانه ورحمته؛ يكون قد اختبر ملكوته، ذلك الملكوت الّذي أصبح قريبًا (مرقس 1: 15).
لو لم يأت يسوع، لكان الإنسان قادرًا على تكوين فكرة ما عن الرّبّ، فكرة تقريبيّة: ولكن الالتقاء بالرّبّ لم يكن ممكنًا. أمّا في يسوع، فإنّ الالتقاء به قيد الإمكان.
تُساعدنا هذه المقدّمة على الدّخول إلى المقطع الإنجيليّ لهذا الأحد.
يُرسل الرّبّ يسوع تلاميذه في مهمّة تبشيريّة، وبالتّحديد للقيام بما فعله هو بالضّبط، وهو الّذي جعل الوصول إلى الآب مُتاحًا، وجعل ملكوته حاضرًا في كلّ مكان.
كان القدّيس مرقس قد أخبرنا عن دعوة التّلاميذ: أخبرنا، في الفصل 3: 13 أنّ يسوع صعد إلى الجبل، ودعا إليه الّذين أرادهم، وأقام منهم جماعة الإثني عشر. وقد فعل هذا لسببين: السّبب الأوّل كي يمكثوا معه، والثّاني كي يذهبوا للتّبشير، ومعهم السّلطان على طرد الشّرّير.
نرى هنا أنّ هذه الدّيناميكيّة الثّنائيّة، أيّ المكوث والذّهاب، هي جوهر الحياة المسيحيّة.
من متطلّبات التّتلمذ أن يمكث التّلميذ مع الرّبّ، ويعيش الألفة معه ويتعرّف عليه جيّدًا، لا معرفة سطحيّة، مثل معرفة سكّان النّاصرة الّذين رأيناهم يوم الأحد الماضي؛ بل معرفة "وجوديّة"، تحدث في حياة أولئك الّذين بلغوا الخلاص، وقد تعلّموا أنّه يمكنهم وضع رجائهم في الرّبّ حتّى وسط جروحهم.
وهكذا، عندما يُرسل يسوع التّلميذ لإعلان الإنجيل للآخرين، فإنّه لا يحمل ذاته، بل يحمل الرّبّ، ويحمل العلاقة الّتي تجعله يحيا: من يرى التّلميذ، فإنّه، بشكل ما، يرى الرّبّ الّذي أرسله.
لا معنى أن يعيش التّلميذ الحركة الأولى فقط، أيّ المكوث مع الرّبّ. على عكس المدارس الدّينيّة والفلسفيّة الأخرى، فإنّ هدف اتّباع المسيح ليس التّنعّم بالأمان في بيت المعلّم، وليس الانغلاق على الذّات في العلاقة معه. بل على عكس ذلك، مَنْ يتبع المسيح ينفتح على الإرسال، وينفتح على الآخر، وعلى العالم، وبالتّالي يختبر غياب الأمان والاستقرار.
وكذلك لا معنى لحياة التّلميذ الّذي يعيش الحركة الثّانية فقط: فمَنْ ينطلق دون المكوث، ودون أن يكون قلبه مُتّجهًا نحو الرّبّ، ومَنْ يحمل ذاته فقط، فإنّه لا يُخلّص أحدًا، لأنّه لا يكون متسربلاً بنفس سلطة الرّبّ.
لذلك، إنّ الّذين يختارون الإعلان عن الرّبّ يُعرّضون أنفسهم لاختبارات مُتعبة، ولعدم الأمان، ولسوء الفهم. ليس عليهم السّعي وراء هذه المتاعب، وفي الوقت نفسه لا يجوز لهم تفاديها. ولهذا، فإنّ التّعليمات الوحيدة الّتي يهتمّ يسوع بإعطائها تلاميذه هي الّتي تتعلّق بما لا ينبغي أن يحملوه معهم، ولا حاجة إليه: وحيث أنّهم يعيشون من العلاقة معه، فإنّهم لا يحتاجون إلى أيّ شيء آخر. يتركهم يسوع في حالة من عدم اليقين بشأن المستقبل، حتّى يتمكّنوا، في ذهابهم، أن يكونوا أوّل الّذين يختبرون العناية الإلهيّة الّتي ترافقهم.
من المثير للاهتمام في هذا الصّدد، أنّه وفقًا لمفسّرين مختلفين، يدشّن مرقس في المقطع الإنجيليّ الخاصّ بهذا الأحد الجزء المُسمّى بـ"الأرغفة". وهو يُسمّى كذلك لأنّ موضوع الخبز يتكرّر مرّات عديدة خلال فصول هذا الجزء. ويردُ موضوع الخبز هنا للمرّة الأولى، وتحديدًا في حادثة إرسال التّلاميذ، حيث يبدو الخبز ناقصًا، وكشيء لا ينبغي أن يحمله التّلاميذ معهم؛ في سياق الفصول التّالية، سيكون الخبز وفيرًا، وسوف يُكثّره يسوع مرّتين، وسيجعله متوفّرًا للجميع، لليهود كما للوثنيّين.
يكتشف مَنْ ينطلق في الرّسالة دون الخبز أنّه لن يُعوزه هذا الخبز، كما أنّ حماية الرّبّ ومعونته لن يُعوزا أيّ أحد.
وعليه، سوف يتمكّن التّلاميذ الإعلان بأنّ الرّبّ، الّذي صار قريبًا في يسوع، هو إله يوفّر احتياجات الإنسان، وهو إله جعل نفسه خبزًا. لن يُعلنوا ذلك بالقول وحسب، بل بعيش الحاجة وفقر الحال، وهو موقف يتكلّم، في حدّ ذاته، عن الشّخص الّذي وضعوا ثقتهم فيه.
لذا فإنّ تعليمات يسوع حول عدم حمل خبز أو كيس أو مال ليست مجرّد تعليمات حول التّزهّد واختيار الفقر. إنّها النّمط الطّبيعيّ لأولئك الّذين يعتمدون على الرّبّ، وبالتّالي لا يُحاولون، بكلّ طريقة ممكنة، تأمين ضمانة لحياتهم بقواهم: فهم يتلقّونها من الله. يحصلون عليها من الآب، ولكنّهم يتلقّونها أيضًا من المبشّرين، من الّذين يستقبلونهم في بيوتهم ويُشاركونهم خبزهم: سوف يكون إعلان الإنجيل ممكنًا بفضل هذا التّبادل المشترك.
وأخيرًا، يتمّ إرسال التّلاميذ اثنين اثنين: لأنّ المُرسل ليس بطلاً فرديًّا، بل هو إنسان التّواصل والشّركة. وإعلان الملكوت ليس عملاً فرديًّا، بل أخويًّا وجماعيًّا، وهو شهادة على تلك الحياة الجديدة الّتي لا وجود لها سوى في الشّركة".