الفاتيكان
06 تشرين الثاني 2025, 06:55

ما هي النّصائح الّتي يقدّمها البابا للإكليريكيّين؟

تيلي لوميار/ نورسات
مجموعة من النّصائح والإرشادات قدّمها البابا لاون الرّابع عشر إلى طلّاب الإكليريكيّة الأبرشيّة الكبرى للقدّيسين كارلوس ومارسيلو في تروخيو، بمناسبة مرور 400 عام على تأسيسها، والّتي خدم فيها الأب الأقدس كأستاذ ومدير للدّروس.

هذه التّوجيهات أوردها البابا في رسالة كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

بمناسبة مرور ٤٠٠ عام على تأسيسها وجه قداسة البابا لاوُن الرابع عشر رسالة إلى الإكليريكية الأبرشية الكبرى 

"في هذا العام، نشكر الرّبّ على مرور أربعة قرون من التّاريخ على الإكليريكيّة الأبرشيّة الكبرى للقدّيسين كارلوس ومارسيلو في تروخيو، ونتذكّر مرور عدد لا يُحصى من شبّان هذه الأبرشيّة، ومختلف الولايات القضائيّة في البيرو، والجماعات الدّينيّة، الّذين أرادوا، في تلك القاعات والكابلات، أن يجيبوا على صوت المسيح الّذي دعاهم "لكي يصحبوه، فيرسلهم يبشّرون". إنَّ بصماتي أيضًا هي جزء من هذا البيت، الّذي خدمتُ فيه كأستاذ ومدير للدّروس.

إنّ مهمّتكم الأولى تبقى كما هي: أن تكونوا مع الرّبّ، وتسمحوا له بأن يكوِّنكم، وتعرفوه وتحبّوه، لكي تتمكّنوا من أن تتشبّهوا به. لهذا السّبب أرادت الكنيسة وجود الإكليريكيّات، لتكون أماكن لحفظ هذه الخبرة وإعداد الّذين سيتمّ إرسالهم لخدمة شعب الله المقدّس. من هذا المصدر تنبع أيضًا المواقف الّتي أودّ أن أشارككم إيّاها الآن، لأنّها كانت دائمًا الأساس الأمين لخدمة الكهنة. لهذا السّبب، وقبل أيّ شيء آخر، من الضّروريّ السّماح للرّبّ بأن يوضّح الدّوافع وينقّي النّوايا. لا يمكن اختزال الكهنوت في "الوصول إلى السّيامة" وكأنّها هدف خارجيّ أو مخرج سهل لمشاكل شخصيّة. إنّه ليس هروبًا ممّا لا يرغب المرء في مواجهته، ولا ملجأً من الصّعوبات العاطفيّة أو العائليّة أو الاجتماعيّة؛ كما أنّه ليس ترقية أو حماية، بل هو بذلٌ كُلّيّ للحياة. وبذلُ الذّات لا يمكنه أن يتحقّق إلّا في الحرّيّة: فالمرء المقيّد بالمصالح أو المخاوف لا يبذل ذاته، لأنَّ المرء لا يكون حرًّا حقًّا إلّا عندما لا يكون عبدًا. وبالتّالي فالأمر الحاسم ليس "السّيامة"، بل أن يكون المرء كاهنًا حقًّا.

عندما يُنظر إلى الخدمة الكهنوتيّة من منظور دنيويّ، فإنّها تُخلط بحقّ شخصيّ، أو منصب يمكن توزيعه؛ وتتحوّل إلى مجرّد امتياز أو وظيفة بيروقراطيّة. لكنّها في الواقع، تولد من اختيار الرّبّ، الّذي يدعو بعض الرّجال باختيار خاصّ ليجعلهم شركاء في خدمته الخلاصيّة، لكي يعكسوا صورته في ذواتهم ويقدّموا شهادة دائمة للأمانة والمحبّة. وبالتّالي فالّذي يبحث عن الكهنوت لأسباب وضيعة، يخطئ في الأساس ويبني على الرّمل. إنَّ الحياة في الإكليريكيّة هي مسيرة استقامة داخليّة. وعلينا أن نسمح للرّبّ بأن يفحص قلوبنا ونظهر بوضوح أنّه الّذي يحرّك قراراتنا. إنَّ استقامة النّيّة تعني أن نكون قادرين على أن نقول كلّ يوم ببساطة وحقيقة: "يا ربّ، أريد أن أكون كاهنك، ليس لأجلي، بل من أجل شعبك". وهذه الشّفافيّة يتمُّ تعزيزها في الاعتراف المتكرّر، والإرشاد الرّوحيّ الصّادق، والطّاعة الواثقة للّذين يرافقون التّمييز. والكنيسة تطلب إكليريكيّين ذوي قلوب نقيّة، يبحثون عن المسيح بلا غشّ ولا يقعون في فخّ الأنانيّة أو الغرور. هذا الأمر يتطلّب تمييزًا مستمرًّا. إنَّ الصّدق أمام الله وأمام المنشِّئين يحمي من التّبرير الذّاتيّ ويساعد على تصحيح ما هو غير إنجيليّ في الوقت المناسب. إنّ الإكليريكيّ الّذي يتعلّم أن يعيش في هذه الشّفافيّة، يصبح رجلًا ناضجًا، متحرّرًا من المطامع والحسابات البشريّة، وحرًّا في أن يبذل نفسه بلا تحفّظ. وبهذه الطّريقة، تصبح السّيامة تأكيدًا مُبهجًا لحياة تشكّلت على صورة المسيح منذ الإكليريكيّة، وبداية مسيرة أصيلة.

إنَّ قلب الإكليريكيّ يتشكّل في العلاقة الشّخصيّة مع يسوع. فالصّلاة ليست تمرينًا إضافيًّا، بل يتعلّم فيها المرء كيف يميّز صوته ويسمح له بأن يقوده. والّذي لا يصلّي، لا يعرف المعلّم؛ والّذي لا يعرفه، لا يمكنه أن يحبّه حقًا ولا أن يتشبّه به. إنَّ الوقت المخصّص للصّلاة هو أخصب استثمار في الحياة، لأنّ الرّبّ هناك يبلور المشاعر، وينقّي الرّغبات، ويقوّي الدّعوة. لا يمكنه أن يتحدّث عن الله ذلك الّذي يتحدّث قليلًا معه! والمسيح يسمح لنا أن نلتقيه بطريقة مميّزة في الكتاب المقدّس. ولذلك من الضّروريّ الاقتراب منه بكلّ وقار وروح إيمان، بحثًا عن الصّديق الّذي يكشف عن نفسه في صفحاته. هناك، يكتشف الّذي سيصبح كاهنًا كيف يفكّر المسيح، وكيف ينظر إلى العالم، وكيف يتأثّر تجاه الفقراء، ويتّخذ تدريجيًّا معاييره ومواقفه نفسها. نحن بحاجة إلى أن ننظر إلى يسوع، إلى الشّفقة الّتي يرى بها إنسانيّتنا الجريحة، وإلى المجّانيّة الّتي قدّم بها حياته من أجلنا على الصّليب.

لطالما اعترفت الكنيسة بأنّ اللّقاء مع الرّبّ يحتاج إلى أن يتجذّر في الذّكاء ويصبح عقيدة. لهذا السّبب، فإنّ الدّراسة هي مسيرة لا غنى عنها لكي يصبح الإيمان صلبًا ومعقولًا وقادرًا على إنارة الآخرين. إنَّ الّذي يتنشّأ لكي يصبح كاهنًا لا يكرّس وقته للتّحصيل الأكاديميّ لمجرّد المعرفة، وإنّما أمانة لدعوته. إنَّ العمل الفكريّ، ولاسيّما اللّاهوتيّ، هو شكل من أشكال المحبّة والخدمة، ضروريّ للرّسالة، وفي شركة كاملة دائمًا مع تعليم الكنيسة. بدون دراسة جادّة لا توجد رعاية حقيقيّة، لأنّ الخدمة تتكوّن في قيادة النّاس لمعرفة ومحبّة المسيح، وفي أن يجدوا فيه الخلاص. يُروى أنّ أحد الأشخاص في طور التّنشئة سأل القدّيس ألبرتو هورتادو عن المجال الّذي يجب أن يتخصّص فيه، فأجابه القدّيس: "تخصّص في يسوع المسيح!". هذا هو التّوجّه الأكثر أمانًا: أن نجعل من الدّراسة وسيلة لكي نتّحد بالرّبّ أكثر ونعلنه بكلّ وضوح. إنَّ الصّلاة والبحث عن الحقيقة ليسا طريقين متوازيين، بل مسار واحد يؤدّي إلى المعلّم. فالتّقوى بدون عقيدة تتحوّل إلى عواطف هشّة؛ والعقيدة بدون صلاة تصبح عقيمة وباردة. نمّوا كلتاهما بتوازن وشغف، عالمين أنّ بهذه الطّريقة فقط يمكنكم أن تعلنوا بأصالة ما تعيشونه، وأن تعيشوا بانسجام ما تعلنونه. عندما ينفتح الذّكاء على الحقيقة المُعلنة ويتَّقد القلب بالصّلاة، تُصبح التّنشئة خصبة وتُهيّئ لكهنوت صلب ومُشرق.

إنَّ الحياة الرّوحيّة والفكريّة لا غنى عنهما، لكن كلتاهما تتّجهان نحو المذبح، المكان الّذي تُبنى فيه الهويّة الكهنوتيّة وتُكشف فيه بالكامل. هناك، في الذّبيحة المقدّسة، يتعلّم الكاهن أن يقدّم حياته، مثل المسيح على الصّليب. بالتّغذّي من الإفخارستيّا، يكتشف الوحدة بين الخدمة والذّبيحة، ويفهم أنّ دعوته تتكوّن في أن يكون ذبيحة مع المسيح. وهكذا، عندما يُعانق المرء الصّليب كجزء لا يتجزّأ من الحياة، يتوقّف النّظر إلى الإفخارستيّا كمجرّد طقس وتصبح المحور الحقيقيّ للحياة. إنَّ الاتّحاد مع المسيح في الذّبيحة الإفخارستيّة يمتدُّ في الأبوّة الكهنوتيّة، الّتي لا تُنجب بحسب الجسد، بل بحسب الرّوح. أن تكون أبًا ليس شيئًا تفعله، بل شيئًا تكونه. والأب الحقيقيّ لا يعيش لنفسه، بل لأحبّائه: يفرح عندما يكبر أبناؤه، ويتألّم عندما يضلّون، وينتظر عندما يبتعدون. هكذا أيضًا يحمل الكاهن في قلبه الشّعب بأسره، ويتشفّع له، ويرافقه في صراعاته ويعضده في الإيمان. إنَّ الأبوّة الكهنوتيّة تقوم في عكس وجه الآب، بحيث من يلتقي بالكاهن يستشفّ محبّة الله. وهذه الأبوّة تُعبّر عن نفسها في مواقف بذل الذّات: العفّة كمحبّة غير منقسمة للمسيح وكنيسته، والطّاعة كثقة في إرادة الله، والفقر الإنجيليّ كجهوزيّة للجميع، والرّحمة والقوّة الّتي ترافق الجراح وتعضد في الألم. وفيها يُعرف الكاهن بأنّه أب حقيقيّ، قادر على قيادة أبنائه الرّوحيّين نحو المسيح بثبات ومحبّة. لا توجد أبوّة جزئيّة، ولا كهنوت جزئيّ.

أنتم، أيّها المرشّحون للكهنوت، مدعوّون إلى الهروب من التّوسّط والسّطحيّة، وسط أخطار ملموسة جدًّا: روح العالم الّتي تُذيب الرّؤية الفوق طبيعيّة للواقع، والنّشاط المفرط الّذي يُرهق، والتّشتّت الرّقميّ الّذي يسرق الحياة الدّاخليّة، والإيديولوجيّات الّتي تحيد عن الإنجيل، وليست أقلّ خطورة، عزلة من يدّعي العيش بدون الكهنوت وبدون أسقفه. إنَّ الكاهن الّذي يعزل نفسه يكون هشًّا. لأنَّ الأخوّة والشّركة الكهنوتيّة هما متأصّلتان في الدّعوة. والكنيسة تحتاج إلى رعاة قدّيسين يبذلون ذواتهم معًا، وليس إلى موظّفين منعزلين؛ بهذه الطّريقة فقط يمكنهم أن يكونوا شهودًا موثوقين للشّركة الّتي يُبشِّرون بها. أيّها الأبناء الأحبّاء، في الختام، أريد أن أؤكّد لكم أنّ لكم مكانة في قلب خليفة بطرس. الإكليريكيّة هي عطيّة هائلة ومُتطلّبة، لكنّكم لستم وحدكم أبدًا في هذه المسيرة، لأنَّ الله، والقدّيسين والكنيسة بأكملها يسيرون معكم، وبشكل خاصّ أسقفكم ومنشّئيكم، الّذين يساعدونكم على النّموّ لكي يُصوَّرَ فيكم المسيح. إقبلوا منهم الإرشاد والتّصحيح كبادرات محبّة. تذكّروا أيضًا حكمة القدّيس توريبيو دي موغروفيجو، المحبوب جدًّا في تروخيو، الّذي كان يحبّ أن يقول: "إنَّ الوقت ليس ملكنا، إنّه قصير جدًّا، والله سيحاسبنا حسابًا دقيقًا على طريقة استخدامنا له". فاستغلّوا كلّ يوم ككنزٍ لا يتكرّر.

لتعضدكم جميعًا مريم العذراء والقدّيس يوسف، أوّل مُنشِّئَين للكاهن الأعظم والأبديّ، في فرح معرفة أنكم محبوبون ومدعوّون. بهذه المشاعر، وكعلامة على القرب منكم، أمنح من صميم قلبي البركة الرّسوليّة لجماعة هذه الإكليريكيّة العزيزة وعائلاتهم."