مار يوسف الحكمة تحيي الذّكرى الـ21 لتولّي المطران مطر أسقفيّة بيروت المارونيّة
وبعد الإنجيل المقدّس ألقى مطر عظة قال فيها، بحسب الوكالة الوطنيّة للإعلام: "أشكر لكم محبّتكم وأنتم تلبّون الدّعوة لنكون معًا في هذا القدّاس الّذي أقيمه على نيّة الأبرشيّة، كلّ أبنائها وبناتها، أحيائها وأمواتها، مصاعبها وتطلّعاتها في مناسبة تذكار يوم تسلّمت فيه منذ أحد وعشرين سنة مقاليد رعايتها. إنّها وقفة ضميريّة أمام الله وأمامكم أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء.
أحببنا أن نكون معًا، كهنة الأبرشيّة والعلمانيّين المتعاونين معنا مباشرة في القيام بالمسؤوليّة الملقاة على كتفنا، وأصلّي من أجلكم بصورة خاصّة ليكون الله معكم ويؤيّدكم كلٌّ في رسالته ورسالاتكم واسعة ومسؤوليّاتكم كبيرة في المجتمع الّذي نحيا فيه.
أبدأ كلمتي بالتّأمّل بما قال الإنجيل لنا: يسوع ينزل إلى الهيكل فيحاججه العلماء وشيوخ الشّعب، ليسوا مرتاحين لعمله وعمله كان عظيما ومقدّسًا، كان يشفي المرضى ويهتمّ بالفقراء والمساكين ويعطي التّوجيهات الإلهيّة. لماذا كانوا يرفضونه؟ لأنّهم خافوا من أن يقوم بنهضة ثورويّة ضدّهم، ولهذا ما غفروا له هذه الخطيئة، لا بل خافوا أن يقوم بنهضة يأتي الرّومان بعدها لضرب الشّعب اليهوديّ كلّه فتضيع لهم كراسيهم. يقول إنجيل مرقس: كان يسوع مرتاحًا كلّ الرّاحة في الجليل حيث النّاس البسطاء الطّيّبون، يسامح يغفر يشفي ويأتي النّاس إليه من كلّ مكان، ولكن في كلّ مرّة كان يأتي إلى أورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كانوا يحاججونه حتّى قتلوه بدوره هو أيضًا. للقدّيس بولس كلامٌ عن أورشليم الأرض، يقول إنّها من العهد القديم، التّمسّك بالحجارة، كلّ الأرض ستكون مقدّسة، وأورشليم الحقيقيّة ستكون هي النّازلة من السّماء مقدّسة يسكن فيها الله مع الشّعب المخلّص، فأورشليم الأرض تمثّل العبوديّة وأورشليم السّماء تمثّل الحرّيّة. نحن أبناء العهد الجديد نحترم التّراث والجغرافيا والماضي إنّما أورشليم الّتي نفكّر فيها هي أمامنا فالأرض كلّها تصبح عرشًا للرّبّ. هذا الانتقال ضروريّ بالعقليّة وكلّ شيء مع احترام الحقوق والواجبات على مستوى البشر. يقولون له: بأي سلطان تفعل هذا؟ أجابهم قائلاً: أسألكم أنا بدوري سؤالاً فإن أجبتموني أجبتكم: معموديّة يوحنّا من الله أو من النّاس؟ ففكّروا في نفوسهم قائلين: إنْ قلنا من النّاس يرجموننا وإنْ قلنا من الله يقول لنا لماذا لم تؤمنوا به. فأجابوه: لا نعلم"..
كان الرّبّ يسوع هو هو سواء في الجليل مع النّاس البسطاء وشعب الله أم مع الرّؤساء والسّلاطين يواجه باسم الحقيقة والمحبّة حتّى الموت والقيامة. وكنيسة المسيح اليوم مصيرها مصير المسيح، هي خميرة الدّنيا حافظة العهود، حاملة الإنجيل المقدّس والوعود، رافعة قضايا الإنسان وكرامته وحقوقه والمحبّة الشّاملة والغفران تنشد نشيد المحبّة والحرّيّة في العالم بأسره.
الكنيسة المارونيّة كنيسة الشّهادة والشّهداء، نحن رافقنا الشّهادة طوال أيّامنا حتّى يومنا هذا، ونحن ندرك إن كان لنا شخصيّتنا وحضورنا فبفضل الشّهداء والشّهادة والقضايا الكبيرة الّتي حملناها في هذا الشّرق. حملنا له الحرّيّة وكرامة الإنسان، اتّهمنا بالانعزال أيّامًا وأزمنة طويلة، وبأنّنا جسر طروادة في هذا الشّرق بالنّسبة إلى الغرب، دفعنا الأثمان الباهظة قبل الصّليبيّين وبعدهم وأيّام المماليك والعثمانيّين والعرب وفي النّهاية يثبت اليوم أنّ ما آمنّا به هو سبيل خلاص ليس لنا وحسب، بل للشّرق برمّته وللعالم. لن يكون لهذا الشّرق مصير، إلّا إذا اعترف النّاس بعضهم ببعض وقبلوا طوائفهم الواحد تجاه الآخر وتفاهموا على أساس إنسانيّ والمحبّة الإنسانيّة وكرامة الشّعوب. بهذا المعنى حملنا هذه المسؤوليّة طوال 1500 سنة، ناضلنا ومتنا وعشنا ولكن نرى اليوم أنّ كلّ ما قاسيْناه سيعطي ثمرًا كثيرًاـ إذا وافق الشّرق على تطوّره ونظرة جديدة إلى الكون والحياة.
الشهادة كانت شرفًا لنا وكانت لنا قوّة، لذلك نحن نصلّي في القدّاس المارونيّ قائلين: إجعل يا ربّ ما يؤذينا يتحوّل إلى ما يفيدنا وينفعنا ونرفع لك المجد. هذه معادلة أساسيّة. شخصيّتنا بنيت بالألم والدّموع والصّبر وبالصّلابة والمحبّة في آن معًا. ما قبلنا يومًا أن نكون ضامرين شرًّا لأيّ إنسان ولأيّة جماعة.
عندما صار هناك تفكير بالاعتراف بين الفاتيكان وإسرائيل، زارت شخصيّات إسلاميّة بيروتيّة السّيّد البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وكنت حاضرًا معه كنائب بطريركيّ، قالوا له: "يا سيّدنا، نحن والموارنة ليس بيننا دم على مدى التّاريخ. نحن نثق بكم. نطلب منكم أن تكونوا مدافعين عن حقوقنا وحقوق العرب والمسلمين في هذه المحادثات الّتي تجري بين الفاتيكان وإسرائيل". فرحت فرحًا كبيرًا بهذا الموقف، يطلبون من البطريرك أن يكون هو حاملاً قضايا العرب بالنّسبة لهذه المدينة. واليوم يعيد التّاريخ نفسه، ونحن فخورون بما قام به فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والكلمة الّتي قالها في المسلمين جميعًا، عندما قال لهم: نحن أيضًا، مسؤولون عن انقساماتنا شيعًا وأفرادًا وجماعات. وحّدوا كلمتكم. توافقوا. عليكم أن تقوموا بشيء بالنّسبة لأنفسكم، قبل أن يكون العالم معكم. هذه أمثولات، يا إخوتي، نأخذها بالنّسبة لحياتنا اليوميّة والوطنيّة والإنسانيّة.
أقول هذا الكلام في يوم تذكار وصولنا إلى الأبرشيّة، الّتي هي أمّنا جميعًا وأنا ابن هذه الأبرشيّة منذ الولادة، وأوّل ما أتيت إليها، إلى الحكمة كاهنًا من 52 سنة، صرفنا العمر هنا، نحن وإيّاكم في سبيل الأبرشيّة ورسالتها الرّوحيّة والتّربويّة والإنسانيّة والوطنيّة ونحن نكمل معكم حتّى الرّمق الأخير.
نطلب من الله أن تكون لنا على الدّوام هذه الغيرة على الأبرشيّة والكنيسة والنّاس. ونتمنّى بنعمة الله أن نبقى واقفين صامدين على محبّة المسيح والعالم، ونكون مستعدّين لكلّ عمل صالح، أن نكون ممّن يفحصون ضمائرهم، كلّ يوم ويسألون الله، يا ربّ ماذا تريدنا أن نعمل، كجماعة وأفراد. يقودنا الرّبّ في كنيسته إلى خلاصنا. ونحن مرتاحون مطمئنّون، لأنّنا أهل إيمان والإيمان يعطي الآمان ويعطي الأمن في داخل الإنسان. نحن مطمئنون أنّنا في كنيسة المسيح، الرّبّ قائدها والرّوح مرشدها وملهمها، وهي تسير بنا في بحر هذا العالم فرديَّا وجماعيًّا إلى شاطىء الخلاص ليكون الاطمئنان كبيرًا في قلب كل واحد منّا، إلى أن الله هو مصيره ورفيقه ومرشده ومدبّره لكلّ عمل صالح.
نحن لسنا متروكين، قد نكون تاركين. معروفة هذه الفلفسة البوذيّة، الّتي تقول إنّ الإنسان متروك. ومن الأفضل أن يكون تاركًا كلّ عذابات هذا الدّهر وأن يرتاح، وإلّا سيتعرّض للمشاكل الّتي لا نهاية لها. نحن كمؤمنين نقول: الإنسان ليس متروكًا. ما من أحد مهمل من الله. الله يلتقطنا بيدنا، يسكن فينا، يقوّينا يلهمنا إلى كلّ عمل صالح. الله لا يترك أحدًا. ويجب علينا نحن بدورنا أن نكون بهذه اللّهفة والمحبّة تجاه الآخر. نحن الموارنة والمسيحيّين، علينا واجب في لبنان وكلّ الشّرق. وأنا أصارحكم، أنّنا طالما، وهذا حقٌّ لنا وضروريّ، سألنا عن حقوق المسيحيّين. الإنسان من دون حقوق لا يكون إنسانًا. الإنسان بلا حرّيّة ليس إنسانًا. ولكن نتكلّم أقلّ عن واجبات المسيحيّين. واجباتنا أن نكون نحن ملح الأرض ونور العالم، حاملي الاستقامة، مستعدّين لكلّ عمل صالح، أن نحمل وظيفة المصالحة مع الآخر واليد الممدودة والمفتوحة والغفران، حتّى نبني ملكوت الله، وأن نعتبر أنفسنا مسؤولين عن الآخرين، باسم يسوع المسيح. المسيح مات من أجل كلّ الأديان وكلّ الناس ونحن مسؤولون عن خلاص هؤلاء، حتّى الّذين يضمرون الشّرّ لنا من دون أن يدركوا لماذا. فلنعش بهذه النّعمة ونشكر الله على كلّ هذه المسؤوليّات الّتي يعطينا إيّاها، فنكون كنيسته ونكون أعضاء في هذه الكنيسة، فخورين بأنّنا ننتمي إليها، حتّى لو حملتنا كلّ مسؤوليّات الدّنيا".
وختم: "أبرشيّة بيروت كلّنا خدّام لها، كهنة وعلمانيّين. وأذكر كلام البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الّذي كتب إليّ رسالة يوم تسلّمت مقاليد الأبرشيّة وطلب منّي بصورة خاصّة، أن يكون الكهنة إكليل حول رأسي. الكهنة هم كهنة الرّسالة والدّرجة والعلمانيّون هم كهنة المسيح بشهادتهم، فنكون كلّنا يدًا واحدة، نعمل في سبيل خلاص المسيح في هذا العالم وفي لبنان العزيز. وفّقنا الله، يا إخوتي، والكنيسة مكملة طريقها منذ ألفي سنة وإلى نهاية الدّهر. الرّبّ يرعاها ويتعهّدها ويعطيها خلاصه وأن تتجدّد في كلّ حين. قدّسكم الله وجعلنا وإيّاكم كنيسة واحدة تشهد للرّبّ الشّهادة الحسنة ولكم منّا صلاة تلو صلاة ما حيينا ومحبّة مستمرّة وسؤال من الله أن تكونوا موفّقين على الدّوام.".