مارون وسرّ الموارنة- جزء ثاني
وادي قاديشا ملجأ الحرّيّة
وكانت المطبعة في دير قزحيا هي الملجأ وأرض الحرّيّة، أتوا بها من "مانيس" وهيدلبيرج في ألمانيا ولم يبقوا في مدن السّاحل كجونيه وجبيل والبترون، بل صعدوا بها إلى الجبال والوادي المقدّس بالرّغم من الثّلج في دير مار أنطونيوس- قزحيّا لحمايتها وإبعادها عن طريق الجيوش والغزاة. ومن هناك طبعوا وساهموا في النّهضة الثّقافيّة والفكريّة والحفاظ على اللّغة العربيّة والسّريانيّة. وقد طبعوا كتبهم بالكرشونيّة لتصعب على الغزاة قراءتها. أُسّسوا على الثّقافة والتّربية والتّعليم. وقد قال البابا يوحنا بولس الثّاني: "أنا آت من بلد زال عن الخارطة ولم تعده إلى الوجود إلا ثقافة أبنائه."
أضربوا من لا يعلّم إبنته في المجمع اللّبنانيّ
أمّا المجمع اللّبنانيّ فكان له الأثر التّأسيسيّ الكبير في حركة تثقيف المرأة والتّجديد اللّاهوتيّ والطّقسيّ والثّيولوجيّ واللّيتورجيّ والتّنظيميّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا المجمع المنعقد في دير سيدة اللّويزة في كسروان سنة 1736 أيّ قبل الثّورة الفرنسيّة بخمسين سنة، قرّر إلزاميّة ومجانيّة تعليم البنات وقال: "كلّ أب لا يريد أن يعلّم ابنته فليأت به إلى ساحة الكنيسة ويضرب." ترقّي المرأة المارونيّة جعل المجتمع المارونيّ يترقّى.
التّرجمة الإيزائيّة Polyglotte
في فرنسا، في الكولدج دو فرانس، للحافلاتي الدّور الكبير في البوليغلوت أيّ التّرجمة الإيزائيّة للكتاب المقدّس، والسّمعاني له الدّور الكبير في مكتبة الفاتيكان ومكتبة لسلمنكا والصّهوينيّ وابن القلاعي وجرمانوس فرحات، وإلى زمن المدارس من صوف إلى المعهد الرّومانيّ، إلى مدارس تحت السّنديانة، إلى ترجمة الآلياذة للبستاني، إلى النّهضة العربيّة، إلى زمن الإرساليّات والمدارس والجامعات والمستشفيات، إلى ثورة الجامعات المارونيّة، إلى ظهور أعظم القدّيسين والقدّيسات مع شربل ورفقا ونعمة الله والأخ اسطفان وبونا يعقوب.
دودة القزّ والثّورة والحرير
ولا تزال ثورة الموارنة ضدّ الفقر والحرمان والحكم العثمانيّ لأكثر من 400 سنة، والبقاء وحدهم في الجبل في وحدة جعلتهم يزرعون الجبل جلال التّوت، ويربّون دودة القزّ، وينتجون أهمّ وأجمل وأرقى ثياب الحرير يكسون بها أجساد نساء عواصم أوروبا، عائشين بكرامتهم وحرّيّتهم وعنفوانهم والتصاقهم بأرضهم وجبالهم. هذه ربّما كانت أهمّ ثوراتهم الزّراعية والإنسانيّة والثّقافيّة كما هي اليوم ثورة التّقنيّات الإلكترونيّة ومواقع التّواصل الاجتماعيّ.
مذهب فكريّ أنطاكيّ دينيّ مدنيّ في ذات الوقت
حبّة خردل هم الموارنة
هكذا هم بيت مارون حبّة خردل بسيطة وصغيرة زرعت في أرض العالم بأسره، فنمت وكبرت وأصبحت طيور السّماء وشعوب العالم تستظل في ظلها.
فلا تخف أيها القطيع الصّغير، لا تخف لك مارون وشربل ورفقا ونعمة الله والأخ أسطفان وبونا يعقوب ودماء الشّهداء وجماعات الأبرار والصّديقين والأوادم وأنقياء القلوب وفاعلي السّلام يحرسونك ويحمونك ويصلّون لك ليجعلك الله أداة لسلامه ومحبّته وحضوره في لبنان والعالم.
كمال الصّليبي، شارل مالك، الأباتي بولس نعمان
ويبقون كالوردة بين الأشواك كما قال عنهم البابا لاون العاشر، وليبقى لبنان عمل أيديهم وفردوسًا لهم كما ذكر المستشرق النّمساويّ ميسلين. وليبقوا كما قال الدّكتور كمال الصّليبي "من المحافظة على حقّ الإنسان بالحرّيّة والعيش الكريم، ومن المساهمة في خلق وطن يضمن هذا الحقّ لأبنائه".
وليدركوا كما قال الدّكتور شارل مالك "أنّ مصير لبنان يقع بالدّرجة الأولى على عاتق الموارنة".
ويحملوا الرّسالة التي تكلّم عنها الأباتي بولس نعمان "إنّ المارونيّة من حيث النّشاط مذهب فكريّ أنطاكيّ دينيّ مدنيّ بذات الوقت".
خاتمة
اليوم يدعونا مارون جميعًا لنحبّ بعضنا بعضًا، وأن نسامح بعضنا بعضًا، ونتراحم ونسمع نداء المحبّة في الإنجيل والقرآن، ولا نحرق الوطن في غضبنا وكبريائنا، لنعش مع الجميع بحبّ واحترام ومسامحة ولنتواضع ونبتعد عن الغرور والغطرسة. لنكن نحن السّباقين إلى فعل المغفرة والمسامحة. كما فعل يسوع على الصّليب ونلبّي نداء رئيس الجمهوريّة للتّصالح والتّسامح والتّراحم والمغفرة. هذه هي ثقافة الحياة والحبّ التي على أساسها بني لبنان وكتب رسالة المورانة في التّعايش والأخوّة. فنحن لا نجد بلدة يسكن فيها سنّيّ وشيعيّ أو درزيّ وسنّيّ وشيعيّ معًا، بل هناك موارنة ومسيحيّون يعيشون معًا الى جانب الدّروز والسّنّة والشّيعة، حتّى أنّ حدود لبنان رسمه تواجدهم وعيش الموارنة مع بقيّة الطّوائف لذلك قيل مجد لبنان أعطي لهم. ويطيب لي أن أختم كلامي هذا بإيماني بأنّ الله يحمي لبنان استنادًا إلى نصّ عظيم ورد في الكتاب المقدّس في سفر تثنية الاشتراع فصل 3/25-27 قال الله لموسى بعد أن وصل الى قبالة جبال حرمون "دعني أعبر فأرى الأرض الطّيّبة التي في عبر الأردن غربًا وذلك الجبل الجميل، ولبنان ولكنّ الرّبّ كان غاضبًا علي بسببكم ولم يسمع لي بل قال لي: لا تزد في الكلام معي بهذا الأمر أرفع عينيك غربًا وشمالًا وجنوًبا وشرقًا لكنّك لا تعبر هذا الأردن..". "أغمض عينيك هذا الجبل هو وقف لي. لن تطأه قدماك لا أنت ولا الذي سيأتي من بعدك".