مارون وسرّ الموارنة الحاضر الغائب- جزء أوّل
الآلهة تسكن الجبال والصّحراء
أنطونيوس ترك البيت والأهل والأخت الصّغيرة وصعد إلى الصّحراء وعاش في الصّمت والصّلاة، لا موعد له ولا لقاء إلّا مع غراب يأتيه كما إيليا بكسرة خبز تساعد على البقاء.
هكذا شربل صعد إلى جبل عنّايا وقبالته البهاء، بهاء جبال لبنان المغمورة بالغيم والثّلج والضّباب والجبال وكأنها تشير إلى أنّها أمام حضور إلهيّ لأنّ الآلهة تسكن الجبال العظيمة دلالة على عظمتها وقوّتها وجبروتها. هو الجمال الإلهيّ ساحر القلب والعقل.
الصّحراء جبال والجبال صحراء
في أحد مزاميرنا وصلواتنا الجميلة: "رفعت عيني إلى الجبال من جيث يأتي عوني معونتي باسم الرّبّ صانع السّماء والأرض".
الصّحراء كانت برّيّة، جبال أنطونيوس وجبال قورش كانت صحراء، وبرّيّة مارون وجبال عنّايا الجميلة المطلّة على وادي أدونيس الرّائع كانت الصّحراء الخالية لشربل. الثّلاثة عاشوا وحدهم مع الوحيد المطلق الأزليّ. هو الجمال الإلهيّ ساحر القلب والعقل.
إفراغ الذّات من الذّات La Kenose
الثّلاثة عاشوا لعريّ الذّات ولكينونتها حرّة مع الله. أخلوا ذاتهم من قيود ذاتهم وشهوات أجسادهم وأمجاد العالم ليعيشوا حرّيّتهم الكيانيّة الوجوديّة الشّخصيّة الإنسانيّة الكاملة كما كتب عنهم كمال الصّليبي.
"من هنا الاختبار الكبير للحرّيّة قدر للموارنة أن يبنوا وطن الحرّيّة لهم ولسواهم في معيّة تضج بكرامة الشّخص البشريّ".
هذا التّطهير الكيانيّ la catharsis هو أساس الصّعود من كهف الذّات لملاقاة الله.
ومع وصول أربعة إلى قصّة الموت والحياة مع ميتة طائر الفنيق أو ميتة أدونيس le mythe.
الثّيولوجيا تلاقي الانتربولوجيا والجغرافية
هنا تلاقت الثّيولوجيا بالانتربولوجيا والجغرافية، وكان تناغم رائع بين الإنسان في تجسّدات إلهيّة وإنسانيّة وفكريّة وحضاريّة وفنّيّة ومجتمعات متنوّعة متعدّدة بمكوّنات شخصيّتها الثّيولوجيّة والانتربولوجيّة بارتباطها بالمكان والزمان والجغرافية والبيئة والإنسان بين أنهار وجبال وسهل وبحر ووقع فصول أربعة تحكي قصّة الموت والحياة مع ميتة طائر الفينيق أو ميتة أدونيس .le mythe
تجذّر من دون انغلاق وانفتاح من دون انفلاش
الشّخصيّة والهويّة المارونيّة تجذّرت هنا من دون انغلاق وانفتحت وقبلت وتكاملت وتثاقفت وتفاعلت مع غيرها من المجتمعات من دون انفلاش أو ذوبان أو فقدان هويّة وخسران شخصيّتها الذّاتيّة المميّزة، وعاشت مع الموحّدين الدّروز في العقل والعرفان، ومع الشّيعة في الفاجعة الكربلائيّة. لكنّ الموارنة أكملوا مسيرتهم إلى الفرح والقيامة، وتلاقحوا مع السّنّة في الرّحمة الإلهيّة والافتتان بوجه يسوع أو عيسى أو مريم المصطفاة كما جاء إنجيل لوقا والقرآن. وسحرهم جمال وبهاء الايكتوستاز البيزنطيّ الأرثوذكسيّ التي تقود إلى البساطة والزّهد والتّواضع كما يقول لامارتين، ولم يغرقوا في الدوكسا والمجد ينشدون أناشيد الوجع والأسى في طقوسهم وليتورجيّتهم وزيّاحاتهم وصلواتهم الشّعبيّة.
كما يقول شارل مالك في مقاله الرّائع عنهم في مجلة الفصول وهو يدرك جيّدًا أن مار مارون قدّيس الكنيسة الأرثوذكسيّة وهي تعيّد له في 14 شباط/فبراير، وهو قدّيس الكنيسة جمعاء وإقليم له تمثال جميل في ساحة روما، وله كنيسة على اسمه في مدينة موسكو في الكنيسة الرّوسيّة.
وتقاسموا مع الأرمن فاجعة مذبحتهم وتركوا تراثهم وكنيستهم وأرضهم وحضاراتهم وتراب أجدادهم وآبائهم القدس.
وأخذهم القلق والخوف والشّك والرّعدة مع البروتستانت، وعاشوا على القلق الوجوديّ والإيمان والسّكون في كلمة الله وعهده ومواعيده وهم يردّدون الموت ولا الخطيئة. هذا الخوف عبّر عنه كيرغاد في كتابه خوف ورعدة.