ماذا يقول البطريرك بيتسابالا في أسبوع الصّلاة من أجل وحدة المسيحيّين؟
وللمناسبة كانت للبطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا عظة قال فيها بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ:
"ليكن سلام الرّبّ معكم دائمًا!
هذا العام ، تأمّلنا وصلّينا جميعًا بحسب القراءات الّتي وضعت خلال أسبوع الصّلاة من أجل وحدة المسيحيّين. على الرّغم من أنّ موضوعها العامّ، "تعلّموا الإحسان والتمسوا الحقّ" (أشعيا 1:17)، يمثّل تحدّيًا- خاصّة هنا في أرضنا المقدّسة- إلّا أنّه يترافق كلّ يوم مع فقرات أخرى تجعله أكثر واقعيّة؛ "من هو قريبي" (لو 10: 25-36) ، أو مقطع الشّابّ الغنيّ الّذي يريد أن ينال الحياة الأبديّة (مر 10: 17-31)، بالإضافة إلى العديد من الاقتراحات الأخرى. اليوم، نحن مدعوّون إلى التّفكير في موضوع مؤلم وصعب بشكل خاصّ من التّطويبات، والّذي سمعناه للتّوّ: "طوبى للمحزونين، فإنّهم يعزّون" (متّى 5، 4). يمكن ربطه بسفر الجامعة 4: 1: "مرّة أخرى رأيت كلّ الظّلم الّذي يحدث تحت الشّمس: دموع الضّحايا مع عدم وجود ما يريحهم! من يد مضطهديهم ينبع العنف وليس من يعزّيهم!" لذلك نحن مدعوّون هذا المساء لنتأمّل ونضع في أفق صلاتنا موضوع الظّلم الّذي يجلبه العنف، وخاصّة كيفيّة الوقوف في وجه الشّرّ الّذي أمام أعيننا. نحن مدعوّون إلى أن نسأل أنفسنا عمّا إذا كان "دموع الضّحايا" (جامعة 4: 1) ليس لديها من يعزّيهم، كما يقول سفر الجامعة، أو ما إذا كانوا سيُعزّون بدلاً من ذلك، سيكون لهم من يعتني بهم، كما يقول الإنجيل.
هذه موضوعات لها دلالات سياسيّة فوريّة، على الصّعيدين المحلّيّ والدّوليّ، وخاصّة هنا في الأرض المقدّسة، والّتي تتعرّض للعنف والظّلم في سياقات متنوّعة. لكن ليست الحياة السّياسيّة وحدها الّتي نتشارك. فالعنف والقمع والألم والظّلم أوّلاً في نفوسنا وفي حياة العديد من عائلاتنا ومجتمعنا، وبشكل أعمق في علاقاتنا الإنسانيّة، وفي علاقتنا مع الخليقة.
لم يتوقّف الشّيطان عن عمله. نحن نعلم أنّ فصح المسيح فدى العالم والبشريّة، لكنّنا نعلم أيضًا أنّه سيتعيّن علينا دائمًا التّعامل مع وجود الشّرّ داخل أنفسنا وفي العالم، وكذلك مع عواقبه على حياتنا الشّخصيّة والمدنيّة والاجتماعيّة. ستبقى الانقسامات والصّراعات دائمًا جزءًا من حياتنا اليوميّة، وستظلّ هناك دائمًا صرخة ألم تُسمع في مكان ما، لكن هذه الصّرخة ستختلط بصوت أولئك الّذين يعملون من أجل العدالة؛ أولئك الّذين يسعون لعيش السّلام الدّاخليّ في حياتهم، الدّينيّة أم السّياسيّة، بصبر ومثابرة، غافلين عن الاضطهاد والوحدة، لأنّهم انتصروا بالمسيح الّذي يعطي سلامًا يختلف عن سلام العالم (راجع يو 14:27).
لذلك من سمات المسيحيّين، الّذين التقوا بالمسيح واختبروا الخلاص، ألّا يصابوا بالصّدمة أو الإنزعاج من الشّرّ في العالم، بل على العكس، أن يلتزموا بالعدالة والحرّيّة والكرامة والمساواة بين جميع النّاس لأنّنا مخلوقين على صورة الله ومثاله. هذا هو الالتزام الأساسيّ للإيمان المسيحيّ. إنّها طريقة الوجود المسيحيّ في العالم، لأنّ اللّقاء مع المسيح فتح أعيننا على احترام ومحبّة الجميع. نحن نعاني من الشّرّ في العالم، لكنّنا لا نسمح لأنفسنا أن نشعر بالصّدمة منه.
لا يمكننا فهم هذا المنظور من خلال عيوننا البشريّة وحدها، إذا لم تكن قلوبنا منفتحة على التّجديد العظيم الّذي يجلبه يسوع، إذا لم نكن مستعدّين للتّغيير. قبل إلقاء العظة على الجبل، انتقل يسوع عبر الجليل طالبًا منّا العودة إليه (متّى 4:17)- أيّ يطلب منّا تغيير طريقة تفكيرنا.
يسوع هو تعازينا، وفيه فقط نجد القوّة "فهو الَّذي يُعَزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا لِنَستَطيعَ، بما نَتَلقَّى نَحنُ مِن عَزاءٍ مِنَ الله، أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت" (2 قورنتوس 1: 4). إنّه لا يعفينا من الألم الّذي نعيشه في وجه العنف والقمع والظّلم. لكن وجوده فينا، في الكنيسة، لن يسمح للشّرّ أن يجد أرضًا خصبة للتّأصّل. الشّرّ، كما قلت، سيكون حاضرًا دائمًا، لكنّه لن يجد موطنًا في قلوب المؤمنين، لأنّهم ممتلئين بقوّة صليب المسيح.
لن تكون الطّريقة سهلة أو قصيرة، لأنّ التّحرّر من الشّرّ وعواقبه، الّذي حدث يوم الفصح، لن يكتمل إلّا في القدس السّماويّة، الّتي نحن مدعوّون كمسيحيّين في بنائها وإلى التّعاون والعمل من أجل العدالة ومساعدة المظلومين (أش ١:١٧).
كثيرًا ما أتساءل، أين أنا من كلّ هذه الصّراعات، هل أنا مع سفر الجامعة الّتي ترى الظّلم ولكن ليس العزاء، أم أنا مع الإنجيل المقدّس الّذي يجد العزاء حتّى في البكاء؟ هل أنا حبيس حزني في وجه الظّلم، بالغضب والاستياء، أم أتعاون كمسيحيّ في بناء القدس السّماويّة؟
على الرّغم من النّزاعات العديدة الّتي ابتليت بها الأرض المقدّسة، إلّا أنّ الكنائس هنا نشطة للغاية في بناء القدس السّماويّة. المدارس والمستشفيات ومنازل المسنّين والأطفال والعناية بذوي الإحتياجات الخاصّة وغير ذلك الكثير، هي جزء أساسيّ من هويّتنا كمجتمعات خارجيّة وليست داخليّة. إنّها طريقتنا في عمل الخير هنا في الأرض المقدّسة، والعمل من أجل العدالة، وفتح أعيننا على الألم والقمع. بالإشارة إلى سفر الجامعة، الّذي سمعناه في القراءة الأولى، هو طريقتنا في أن نكون من المعزيّين. نحن لا نقول هذا للتّفاخر، لأنّنا نعلم محدوديّة عملنا وثقله، ولكن نعترف بالواقع.
ومع ذلك، فإنّ المواساة لا تتطلّب فقط لافتات ترحيب، ولكن أيضًا الكلمات.
من واجبنا أن نعلن في حياتنا، ولكن أيضًا بكلماتنا، إنجيل العدل والسّلام. لهذا السّبب، غالبًا ما نجد أنفسنا على مفترق طرق، مدعوّين للاختيار بين التّنديد الضّروريّ بالعنف وسوء المعاملة، الّذي يُرتكب دائمًا على حساب الأضعف، وخطر اختزال الكنيسة إلى "العامل السّياسيّ"، متناسين إيماننا الحقيقيّ. لا يمكن أن يقتصر حضورنا في العالم على خدمة المحبّة تجاه الفقراء فحسب: بل هي أيضًا محبّة، وفقًا للطّرائق المناسبة للكنيسة من حكم على العالم وديناميّته (را. يو 16 ، 8-11). نحن نعلم جيّدًا كيف تتدخّل السّياسة في الأرض المقدّسة مع الحياة العاديّة من جميع جوانبها. كلّ شيء سياسيّ، وهذا يشكّك بجدّيّة في جميع كنائسنا. نحن جميعًا متورّطون في صراع يقضي على حياة مؤمنينا، الّذين ينتظرون منّا كلمة أمل وعزاء، ولكن أيضًا كلمة حقّ. مطلوب هنا تمييز صعب حقًّا وغير نهائيّ. لا يمكننا أن نظلّ صامتين في وجه الظّلم. ومع ذلك، فإنّ اتّخاذ موقف، كما يُطلب منّا في كثير من الأحيان، لا يعني الانخراط في المواجهة، ولكن يجب أن يترجم دائمًا إلى كلمات وأفعال نيابة عن أولئك الّذين يعانون ويبكون. يجب ألّا يتّسم كلامنا بالحقد أو الغضب أو الاستياء، بل أن يتمتّع بالحرّيّة والسّلام اللّذين أعطانا المسيح. يمكن أن يكون لها منظور واحد فقط: التّسامح والمصالحة. بالنّسبة للمسيحيّين، فإنّ الموقف الوحيد الممكن أن يتّخذه هو موقف المسيح، الّذي جاء ليخدُم. الكنيسة تحبّ المجتمع وتخدمه، تشارك السّلطات المدنيّة في الاهتمام والعمل من أجل الخير العامّ، ومن أجل مصلحة الجميع وخاصّة الفقراء، وترفع صوتها دائمًا للدّفاع عن حقوق الله والبشريّة؛ لكنّها لا تدخل في منطق المنافسة والانقسام.
هذه ليست مهمّة الكنيسة الكاثوليكيّة أو الأرثوذكسيّة أو البروتستانتيّة أو أيّ كنيسة أخرى في الأرض المقدّسة. إنّها الرّسالة الّتي دُعينا جميعًا إليها، بصفتنا جماعة مسيحيّة في الأرض المقدّسة، الّتي لها "رَبٌّ واحِدٌ وإِيمانٌ واحِدٌ ومَعْمودِيَّةٌ واحِدة، وإِلٰهٌ واحِدٌ أَبٌ لِجَميعِ الخَلْقِ وفوقَهم جَميعًا، يَعمَلُ بِهم جَميعًا وهو فيهِم جَميعًا." . (أف 4: 5-6).
لينيرنا الرّوح القدس، ويفتح أعيننا لنتعرّف على الألم الّذي أمامنا، ويفتح قلوبنا للمغفرة والمصالحة، الّتي بدونها لن يكون هناك سلام حقيقيّ أبدًا."