ماذا يعني نجاح أول اختبار لنقل كلية من خنزير إلى الإنسان؟
نجحَ الجراحون في مدينة نيويورك في زراعةِ كُليةِ خنزير في جسدٍ بشريٍّ، وقامت الكلية بوظائفها الطبيعيّة لمدة 54 ساعةٍ. نجحت مثل هذه العمليات مُسبقًا في القرود، ولكن هذه هي المرّة الأولى التي تُنقَل فيها كُلية خنزيرٍ إلى إنسانٍ من دون أن تُرفَض على الفَور.
يُشير هذا الإجراء -والذي نُشر في مؤتمرٍ صحفيّ في الواحد وعشرين من شهر أكتوبر\تشرين الأول- إلى تقدُّمٍ ملحوظٍ في مساعينا للتوسُّع في توفير الأعضاءِ الحيويَّة. حيثُ ينتظر الملايينُ من البشر حول العالمِ الأعضاء المُتبرَّع بها، والتي لا يتوَفّر أكثرُها.
لم تُنشر بعد تفاصيل هذه العمليّة في المجلات العلميّة، كما لم تُراجع بعد من قِبل العلماء الآخرين، رغم ذلك تقول عنها ميجان سايكس (Megan Sykes) -عالمةُ المناعة في جامعة كولومبيا- والتي لم تشارك في البحث: «إنها خطوة مُهمّة، ولكن مازال الطريقُ طويلًا قبل أن يتمكّن المرضى من زراعةِ كُليةِ خنزيرٍ بسهولةٍ».
وهنا سنُجيب عن بعض الأسئلة المَطروحَة حول هذه العمليّة:
• لماذا كُلى الخنازير؟
يُجيب عن ذلك جون سكاندلينج (John Scandling) -أخصائي أمراض الكُلى في جامعة ستانفورد، والذي لم يشارك في هذا البحث- قائلًا: «لن تتمكن الأعضاء البشرية أبدًا من سدِّ فجوَة النَّقص في الأعضاء. فهناك عددٌ محدودٌ من الأعضاءِ الحيَّة المُتبرَّع بها ممن فقدوا الحياة، وعددٌ أقل ممن مازالوا على قيدِها».
يوجد ما يفوق المئة ألفِ شخصٍ على قوائِم الانتظارِ الوطنيّة لزراعة الأعضاءِ، ويحتاج 90% منهم للكُلى تحديداً. ولكن في 2019، لم يتجاوز عددُ عمليَّات الزِّراعة الأربعين ألفَ عمليَّةٍ. فوفقًا لإدارة الموارِد والخدماتِ الصِّحيَّة، يموت حوالي سبعة عشر شخصاً يومياً في انتظارِ زراعةِ عضو.
يسعى العلماءُ منذ الأزل إلى تعويضِ هذا النَّقص باستخدامِ الأعضاءِ الحيوانيَّة، ويُسمى ذلك بعمليّة نقل الأعضاءِ الأجنبيَّة (xenotransplantation). أُختيرت الخنازيرُ تحديداً في هذا البحث؛ نظرًا للتشابُه التَّشريحي بين أعضائها والأعضاء البشرِيَّة، كما أنَّه يُمكن التَّحكُّم في بيئة نموِّها.
ولكن عمليّة زرع عضوٍ من فصيلةٍ أخرى إلى جسدِ الإنسان ستؤدِّي ببساطةٍ إلى إثارةِ جهازِ المناعة لمُهاجمة هذا الجسمِ الغريبِ كبيِر الحجم. حاولَ الباحثون فِعلَ ذلِك في مُنتصفِ القرنِ العشرين باستخدامِ أعضاءِ الرئيسيّات غير البشرِيَّة، ولكن سرعان ما تحوَّلت تلكَ الأعضاء المَنقولة إلى اللونِ الأسود. يُعلِّق سكاندلينج قائِلًا: «في تلك الأيام، كان من المُمكن -وبكل وضوح- رؤية فشل تلك الأعضاء فوراً بسبب ردِّ الفعلِ الفوري من جهازِ المناعة». يُسمى ردُّ الفعلِ الفورِي ذاك بالرفضِ بالغِ الحِدَّة (hyperacute rejection)، ويُعدُّ العقبة الأولى لاعتمادِ زراعةِ الأعضاءِ الأجنبيّة. حديثًا، استطاعت الهندسةُ الوراثيَّة التَّغلُّب على بعضِ تلك العقبات. فقد لاحظَ العُلماء أن ردِّ الفعل المناعي العنيف الذي يحدُث عند زرعِ كُلية خنزيرٍ يُثار بواسطةِ أجسامٍ مُضادةٍ، والتي بدورِها تُثار عند وجودِ جزيء سُكرٍ مُعيَّن يُسمى بالألفا-غال (alpha-gal) المُتواجِد في الأوعية الدَّموِيَّة للخنازير. وهو نفسُ جزيء السُّكر المسؤولِ عن بعضِ أنواعِ الحساسيَّة ضِد اللُّحومِ الحمراء. في أوائِل الألفينيّات، ابتكرَ العُلماءُ طُرقاً عديدة لتعطيلِ الجين المسئول عن هذا الجُزيء. أظهرت الدِّراساتُ اللاحِقة أنه يُمكن –بنجاح- زراعة الكُلى وغيرها من الأعضاء المأخوذة من الخنازير ذات الجين المُعطَّل، في أجسادِ الرئيسيّات غير البشريَّة ومنها قِردَة البابون. ولكن حتى الآن، لم ينجح أيُّ اختبارٍ مُماثلٍ في البشرِ.
• ماذا فعلَ الباحثون؟
تُثير هذه العملية، والتي تُعدُّ الأولى من نوعِها على شخصٍ حيٍّ، العديد من التَّساؤلاتِ الأخلاقيَّة. ففي أواخِر سبتمبر، وطبقًا لروبرت مونتجوميري (Robert Montgomery) وهو الجرّاح الرئيسي في فريق الجراحة لمستشفى لانجون نيويورك، وافقت عائلةُ مريضةٍ -كانت تُعاني من موتٍ دِماغيّ ولكن ما زالت على جهازِ التَّنفُّس- على القيامِ بهذه العمليّة. وقد تمَّ إيقافُ أجهزةِ الإنعاشِ بعد العمليَّة مُباشرةً.
وقد كانت المرأةُ مُتبرِّعةً بأعضاءها بالفِعل، ولكن لم تُكن الأعضاءِ مُناسبة للتَّبرُّع. وقد عبَّر مونتجوميري عن امتنانه لعائلة المريضةِ في المؤتمرِ الصَّحفي في نيويورك قائلًا: «أرغبُ بالتَّعبيرِ عن مَدى امتنانِنا لعائلةِ الفقيدة؛ فرغم عُمق ما يُكابدونه من حزنٍ، وجدوا طريقةً لمُساعدةِ فقيدتِهم على تحقيقِ أمنيَّتها في تقديمٍ هديَّةٍ للبشريّة قبل رحيلِها».
على مدارِ ساعتين قام مونتجوميري وفريقُه بزراعةِ كُلية الخنزيرِ المُعدَّلة وراثيًّا، بحيث تفتقد للجين المسؤول عن الألفا-غال، في الجُزءِ العُلوِي من ساقِ المريضَة. تم إبقاءِ الكُلية خارج الجِسم؛ حتى يتمكَّن مونتجوميري وفريقه من تقييمِ وظائِفها بشكلٍ فعلِيّ. صرَّح مونتجوميري أنه تمَّ أيضًا زراعة الغُدَّة التيموسيّة (thymus gland) للخنزير؛ والتي تُساعِد الجِهاز المَناعي في التَّعرُّف على الكُلية كجُزءٍ من الجِسم؛ فتتحسَّن بذلك فُرص قبولِ الجِسم للكُلية المزروعَة. كما تمَّ إعطاءِ المريضة بعضَ الأدوية المُثبِّطَة للمناعة.
بعد بضعِ دقائِق بدأت الكُليةُ في إنتاجِ كمياتٍ كبيرةٍ من البول، وأظهرت العديدَ من العلاماتِ الأخرى الدَّالة على قِيامِها بوظائِفها الطَّبيعيَّة. راقبَ الفريقُ الكُلية عن كثبٍ لمُدة أربع وخمسين ساعةٍ ولم تُظهِر أيَّ علاماتٍ للرفضِ. يُعقِّب مونتجوميري: «قامتِ كُلية الخنزير بوظائِفها كما لو كانت كُلية إنسانٍ».
توقّف الفريقُ عن المُتابعة بعدَ 54 ساعة؛ طِبقًا لتعليماتٍ من فريقِ المُراجعَة الأخلاقِيَّة.
• ما حجمُ هذا الإنجاز؟
يُعِدُّ العُلماءُ العامِلين على عملياتِ نقلِ الأعضاءِ الأجنبيَّة هذا الإنجاز مُهمَّاً ولكنه غير مُفاجيء. يُصرِّح بارسيا فاجيفي
(Parsia Vagefi) -جرّاح زراعة الأعضاءِ في مستشفى جامعة جنوب غرب تكساس الطبية في دالاس- : «كنا على أتمِّ الثِّقة أنَّه لن يحدُث رفض بالِغ الحِدّة» ويُشير أن كُلى الخنازير المُستخدمة في هذه العمليّة قد استمرّت في أداءِ وظيفَتها لأكثرَ من عامٍ في الرَّئيسيَّاتِ غيرِ البشريَّة.
ويُضيف: «إنّها دليلٌ على المبدَأ العِلميّ. ولكنِّها لم تُغيِّر كثيرًا في الحقائِق العلميَّة» ولكن كشفُ بعضِ التَّفاصيل حول الكيفيّة التي تمَّت بها العمليَّة قد يُسلِّط الضُّوء حول الاستجابةِ المناعِيَّة لجسمِ المريضة. ويوافقُه على هذا الرأي بيتر كوان (Peter Cowan) عالمُ المناعةِ في جامعةِ ملبورن بأستراليا، قائلًا: «كانت النتائجُ متوقَّعةً تمامًا، ومع ذلك فهي مُهمَّة لدعمِ توجيهِ دفَّة التَّجارب السَّريريَّة نحوَ عملياتِ زِراعة كُلى الخنازيرِ في البشرِ»
• ما الخُطوة التَّالية؟
يجيبُ فاجيفي: «بقاءُ الكلية على قيدِ الحياةِ لخمس وأربعين ساعةً هي خطوةٌ مُهمَّة، ولكن لن يحتاجَ أحد كُليةً لثلاثةِ أيامٍ فقط!» فقبلَ أن تسودَ زراعةِ كُلى الخنازيرِ، يجبُ على الباحثين إثباتُ قدرةِ الأعضاءِ على النَّجاة من هجماتِ جهازِ المِناعة، والبقاء لشهورٍ أو سنواتٍ في جسدِ الإنسانِ.
فعلى سبيلِ المِثال، وبمرورِ الوَقتِ، قد تبدأُ الخلايا التائِيَّة -إحدى أنواعِ خلايا الدم البيضاء- في اعتبارِ العُضو المزروع غريباً عن الجسمِ وبالتّالي مُهاجمتُه. قد تُخفِّف الأدوية المُثبِّطَة لجهازِ المَناعةِ من حدَّة هذه الهجماتِ، ولكن ستُعرِّض الجسم لآثارها الجانبيّة كالقابليَّة للإصابة بالعَدوى، وهو عبءٌ كبيرٌ.
يقولُ -الجرَّاحُ وعالمُ المناعة في جامعة كولومبيا- كازوهيكو يامادا (Kazuhiko Yamada): «تُساعد زراعةُ الغدَّة التيموسيَّة -والتي تساعدُ في تكوينِ خلايا المناعةِ والأجسامِ المُضادة- مع الكُلية في خفضِ احتماليَّة الرَّفضِ طويلِ المَدى. فهي كالمُعلِّم الذي يُوجِّه جهازَ المناعة في الجسم ألّا يُهاجمَ الكُلية» وقد عملَ يامادا على هذه التقنيَّة لعقودٍ في التَّجارب على الرَّئيسيَّاتِ الغير بشريَّة.
ويُضيف أنَّه يجبُ على الباحثين إثبات فاعليَّة هذه العمليَّات على المَدى الطَّويل؛ للحصولِ على موافقةِ إدارةِ الغذاءِ والدَّواءِ الأمريكيَّة. فقد تحتوي كُلى الخنازير على فيروساتٍ قهقريَّة خامِلة في جيناتِها. يستخدمُ بعضُ الباحثين تقنيّة تعديل الجينات كريسبر (CRISPR)، للقضاءِ على هذه الفيروساتِ وزيادةِ مستوى الأمان.
قد تُنقل أعضاءٌ أخرى غير الكُلى من الخنازير كالقلبِ أو الكبدِ، ولكن لكلِ عضوٍ تحدّياتُه.
يضيف يامادا: «لقد عملنا على هذا لمُدَّة عشرين عاماً. ويبدو أنّنا على وشكِ النَّجاح. ولكن من الصَّعبِ التَّنبُّؤ بمتى يُمكن بسهولةٍ زراعةِ كُلى خنزيرٍ في جسدِ شخصٍ في أمسِّ الحاجةِ إليها»
• هل من الأخلاقِي تربيَّة الخنازير للاستفادةِ من أعضاءِها؟
يُثير المستقبلُ حيثُ تُربَّى الخنازيرُ للاستفادةِ من أعضائها لخدمةِ الإنسانِ العديدَ من التَّساؤلاتِ الأخلاقيَّة. تُصرح مُنظّمة حقوق الحيوان (PETA): «ليست الخنازيرُ بقطعِ غيارٍ، ولا يجب أن تُستخدم كذلك فقط لأن البّشر أنانيّون ولا يرغبون في التَّبرُّع بأعضائهم للمَرضى المُحتاجين لزراعةِ الأعضاءِ»
على الجانب الآخر، يرى المُروِّجون لزراعةِ الأعضاءِ الحيوانيَّة بأنَّ الاستفادَة المرجُوَّة من التَّوسًّع في إمداداتِ الأعضاء تطغى على الضَّررِ المُحتمَل للخنازيرِ.
يختمُ مونتجوميري قائلًا: «تسوءُ حالةُ نصفِ المرضى المُحتاجون لزراعةِ الأعضاء أو يموتون قبل إيجادِهم عُضوًا. ولن يتمكّن أبدًا النِّظام التَّقليدي المُتمثِّل في ضرورةِ وفاةِ أحدهم ليعيشَ الآخر من مُواكبَة المُعدَّلات المُتزايدَة من الإصابةِ بفشلِ الأعضاء»
فهل تعتقِد أنَّه قد يأتي اليوم الذي لا نحتاجُ فيه للتبرُّع بالأعضاءِ البشرية؟
المصدر: ناسا بالعربي