ماذا لو طلب الله منّا بذل الدماء في سبيل الشهادة
“إن تاريخ الكنيسة، التاريخ الحقيقي للكنيسة، هو تاريخ القديسين والشهداء: الشهداء المضطهدين”. بهذه الكلمات، ذكّر البابا بوجود المسيحية: الشهادة التي كل معمد مدعو إليها حتى في وجه الإضطهاد وحتى ولو اضطر الى إراقة الدماء – إن طلب منه اللّه ذلك. إنها حقيقة يكشف عنها بكل وضوح إنجيل القديس متى في فصله العاشر ويؤكد عليها تاريخ ألفي سنة إلا أن لمسها باليد اليوم وسط لاجئي إربيل، كما فعلته في يونيو الماضي بدعوة من البطريركَين بشارة الراعي ولويس ساكو لتجربة تبقى محفورة في الذاكرة والقلب.
يؤكد القديس ماكسيم المُعرّف ان التمتع “بفكر المسيح” يعني التفكير حسب المسيح لكن وقبل كل شيء “التفكير به في كل شيء”: هذا هو معنى التجسد، هذه هي العبقرية المسيحية. ما معنى إذاً التمتع بفكر المسيح إزاء كل ما يحصل في الشرق الأوسط؟ أعتقد أن ذلك يعني، قبل كل الاعتبارات الجيوسياسية والإقتصادية والإستراتيجية، التوقف أمام ملاحظة واحدة: تتكرس على هذه الأرض الشهادة. إن فكر المسيح هو مبدأ يفسر الواقع، كل الواقع، ويبدو لي أنه يعطينا في هذا الإطار ثلاثة دروس.
دروس الشهادة الثلاث:
كنزٌ ثمين
يرتبط الدرس الأول بموقع الشهادة في حياة الكنيسة. فقد تداخلت في العقود الماضية ظاهرتَين مأسويتَين في المنطقة: من جهة، محاولة بناء دول أكثر تجانساً ومن جهة أخرى، عودة الى الأصولية الإسلامية التي، وابتداءً من العام ١٩٦٠، أعادت ادراج لغة دينية وممارسات تميزية خُيّل لنا أنها ذهبت الى غير رجعة. ومن ثم، تسبب انهيار عدد كبير من دول الشرق الأوسط، على ضوء ثورات العام ٢٠١١، باندلاع المرحلة الأخيرة فانتقلنا من التمييز الى الاضطهاد المفتوح ما أجبر عدد كبير من السكان الى ترك منازلهم سريعاً هرباً من المجازر.
صُدمت شخصياً عندما زرت مخيمات اللاجئين في إربيل، بالظروف الصعبة التي أُجبر اللاجئون المسيحيون – وأقليات مُضطهدة أخرى – على عيشها بعد أن تركوا مدنهم وبيوتهم بسبب التقدم الوحشي للإرهابيين. لكنني وجدتُ فيهم، وعلى الرغم من هذا الوضع الصعب، كرامةً نفتخر بها إلا أن أكثر ما يُفاجئني هو ايمانهم الفريد الذي يغذي رجاءهم حتى في وجه مستقبل يبدو وكأنه معلقاً.
الإنتصار الحقيقي
ومع ذلك، فإن الرسالة التي يوجهها المسيحيون الشرقيون الى العالم ليست مجرد مسألة كنسيّة داخليّة. فهي تحمل في طياتها أيضاً تعاليم سياسية واقعية جداً تسمح بتحديد الفيروس الذي يُدمر بلدان بأكملها من سوريا حتى العراق. فمن أين يأتي هذا المرض؟ من البحث عن الانتصار مهما كلّف الثمن ومن خلال السيطرة على الخصم والإطاحة به. وتستهدف عملية “التجريد من الإنسانية” التي تتلوه على من هم “مختلفين دينياً” أولاً إلا أنها لا تكتفي بهذا الحد.
يقول شهداء اليوم في مواجهة هذا المشروع “كلا!” بكل وضوح. هذا ليس المسار المرجو للشرق الأوسط فمزيد من الوئام لا يعني نزاعات أقل لأنه دائماً ما سيكون هناك “شخصاً أكثر أصوليةً وتطرفاً مني” يسعى الى اعتناقي معتقده. هذا ليس الانتصار الواجب الوصول إليه حتى على المدى المنظور فالانتصار الحقيقي هو الفصح وهو المسيح القائم من الأموات الذي قَبِل ان يحمل خطيئة العالم وهو انتصارٌ عالمي يضم أيضاً من لا يؤمنون.
تغيير المسار
وتسلط التجربة القاسية التي وقعت ضحيتها الجماعات المسيحية الشرقية الضوء أيضاً على تخلي الغرب. ففي حين تساهم الولايات المتحدة بشكل فعال في زعزعة استقرار العراق، برهنت أوروبا عن عجزها التام في سوريا. ففضل الاتحاد الأوروبي، الذي خان مهمته التاريخية بالدفاع عن الحرية وما يُسمى بالقيم الأوروبية، النظر في اتجاه آخر ولم يستفيق إلا عندما بدأت وفود اللاجئين تتوافد الى حدوده.
لكن، من الواجب ابتكار خطة شبيهة بـ”خطة مارشال” لضمان امكانية الاختيار بين البقاء أو الرحيل، تماماً كما حصل في أوروبا في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما وجدت قارة مدمرة في سنوات قليلة الطريق للنهوض من جديد. إن القدرة الكبيرة للتكنولوجيا تترافق أيضاً بقدرة مقلقة على الدمار، يشهد الشرق الأوسط عليها الآن إلا أنها تعطي أيضاً فرصة قلب مسار الظروف التي قد يكون ميؤوس منها. وهنا أعود الى كلام البابا فرنسيس في منشوره البابوي الأخير “الحمد لك” (رقم ١٣) “لا يتركنا الخالق ولا يتراجع أبداً عن مشروع حبه ولا يندم لكونه خلقنا. لا تزال الانسانية تتمتع بالقدرة على التعاون من أجل بناء المنزل المشترك.”
المصدر: أليتيا