الفاتيكان
08 كانون الثاني 2018, 15:00

ماذا قال البابا عن لبنان في خطابه أمام أعضاء السّلك الدّبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ؟

توجّه البابا فرنسيس في كلمة إلى أعضاء السّلك الدّبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ الّذين زاروه مقدّمين التّهاني بالعام الجديد، فقال نقلاً عن "إذاعة الفاتيكان":

 

"إنه لتقليدٌ جميلٌ لقاءنا هذا الّذي يسمح لي أن أعبّر لكم شخصيًّا، في حين ما زال الفرحُ الآتي من عيد الميلاد حيًّا في القلب، عن أمنياتي للعامّ الّذي بدأ للتوّ وأن أُظهر قُربي ومحبّتي للشّعوبِ الّتي تمثّلون. أشكر عميد السّلك الدّبلوماسيّ، صاحب السّعادة السّيّد أرميندو فرنانديز دو إسبيريتو سانتو فييرا، سفير أنغولا، على الكلمات الموقّرة الّتي وجّهها إليّ منذ قليل باسم كامل السّلك الدّبلوماسيّ المُعتمد لدى الكرسيّ الرّسوليّ. أوجّه تحيّة خاصّة للسّفراء القادمين من خارج روما للمناسبة، الّذين ازداد عددهم نتيجة إقامة العلاقات الدّبلوماسيّة مع جمهوريّة اتّحاد الميانمار في شهر مايو/أيّار الماضي. أحيّي أيضًا السّفراء المقيمين في روما الّذين يزداد عددهم باستمرار، ونرى في صفوفهم الآن أيضًا سفيرَ جمهوريّة جنوب أفريقيا. كما أودّ أن أخصّص بالفكر سفير كولومبيا الرّاحل، غيليرمو ليون إسكوبار-هيران، الّذي توفّاه الله قبلَ أيّام قليلةٍ من عيدِ الميلاد. أشكركم على العلاقات المثمرة والثّابتة القائمة مع أمانة سرّ الدولة ومع باقي دوائر الكوريا الرّومانيّة، شهادةً للاهتمام الّذي يوليه المُجتمع الدّولي لمهمّة الكرسيّ الرّسوليّ ولالتزام الكنيسة الكاثوليكيّة في بلدانكم. ففي هذا المنظور، يقيم الكرسيّ الرّسوليّ علاقاته الدّبلوماسيّة، وقد شهد خلال العامّ الماضي التّوقيع على الاتّفاق الإطاريّ مع جمهوريّة الكونغو، في شهر فبراير/شباط، وعلى الاتّفاق بين أمانة سرّ الدّولة وحكومة الاتّحاد الرّوسيّ، في شهر آب، حول السّفر بدون تأشيرة لحاملي جوازات سفر دبلوماسيّة.  

إنّ الكرسيّ الرّسوليّ، عبر العلاقات مع السّلطات المدنيّة، لا يهدف إلّا إلى دعم رفاه الأشخاص الرّوحيّ والمادّيّ، كما وتعزيز الخير العامّ. وقد كانت الزّيارات الرّسوليّة الّتي قمتُ بها خلال العام الماضي في مصر، والبرتغال، وكولومبيا، والميانمار، والبنغلاديش، تعبيرًا عن هذا الاهتمام. ذهبت كحاجٍّ إلى البرتغال، في الذّكرى المئويّة لظهورات السّيّدة العذراء في فاطيما، للاحتفال بإعلان قداسة الرّاعيين الصّغيرين جاسنتا وفرانسيسكو مارتو. واستطعتُ هناك أن أرى الإيمانَ المملوءَ حماسًا وفرحًا الّذي أذكته العذراءُ مريم في الكثير من الحجّاج الّذين أتوا للمناسبة. استطعتُ في مصرَ أيضًا، والميانمار والبنغلاديش، أن التقيَ الجماعات المسيحيّة فيها الّتي تُقدَّرُ محلّيًا، بالرّغم من قلّة عددها، على المساهمةِ الّتي تقدّمها في نموّ بلدانها والتّعايش المدنيّ فيها. كان هناك أيضًا اللّقاءات مع ممثّلي أديان أخرى، شهادَةً لكيفَ أنّ خصوصيّات كلّ منها لا تشكّلُ عائقًا للحوار، إنما اللمفاويّة التي تغذّيه، مع الرغبة المشتركة في معرفة الحقيقة وممارسة العدالة. وفي النّهاية، أردتُ في كولومبيا أن أباركَ جهودَ الشّعب الحبيب وشجاعتَه، هذا الشّعب المطبوع برغبة حيّة في السّلام، بعد أكثر من نصف قرن من الصّراع الدّاخليّ.

أيها السّفراء الأعزاء،

يصادفُ هذا العام الذّكرى المئويّة لنهاية الحرب العالميّة الأولى: صراعٌ أعادَ تصميمَ وجه أوروبا والعالم بأسره، مع ظهور دول جديدة حلّت مكان الإمبراطوريّات القديمة. من رماد الحرب الكبيرة، يمكننا استخراج إنذارين لم تفهمهما البشريّة فورًا للأسف، فتوصّلت في غضون عشرين عامًا، إلى خوضِ صراع جديد أكثر تدميرًا من سابقه. الإنذار الأوّل هو أن الانتصار لا يعني أبدًا إهانة الخصم المهزوم. والسّلام لا يُبنى كتثبيتٍ لسلطةِ الظّافِر على المهزوم. ليست شريعة الخوف الّتي تردع عن العدوان في المستقبل، إنّما قوّة التّفهّم العقلانيّ الوديع، الّتي تدفع إلى الحوار والتّفهّم المتبادل لرأب الخلافات . ومن هنا يشتقّ الإنذار الثّاني: السّلام يتشدّد عندما يكون باستطاعة الدّول أن تتواجه بجوّ من المساواة. وقد استنتجه ببداهة، قبل قرن– تمامًا مثل اليوم- رئيسُ الولايات المتّحدة آنذاك توماس وودرو ويلسن، حين اقترح تأسيس جمعيّة عامّة للأمم تهدف إلى دعم ضمانات متبادلة، لجميع الدّول، الكبيرة والصّغيرة بدون تمييز، للحرّيّة وللسّلامة الإقليميّة. فوُضِعَت هكذا أسسُ الدّبلوماسيّة المتعدّدة الأطراف، الّتي اكتسبت على مرّ السّنين دورًا وتأثيرًا متزايدًا وسط المجتمع الدّوليّ بأسره.

إنّ العلاقات بين الدّول أيضًا، على غرار العلاقات بين البشر، "يجب تنظيمها ضمن الحقيقة، والعدل، والتّضامن الفاعل، والحرّيّة". وهذا يتضمّن "المبدأ أنّ كلّ الجماعات السّياسيّة هي متساوية بحكم طبيعتها" ، كما والاعتراف أيضًا بالحقوق المتبادلة، بالإضافة إلى الوفاء بواجبات كلّ منها . والتّمهيد الأساسيّ لمثلِ هذا التّصرّف هو التّأكيد على كرامة كلّ إنسان، الّتي إن تمّ احتقارها تقود إلى أعمال بربريّة تسيء إلى ضمير الإنسانيّة. من جهة أخرى، "إنّ الاعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أفراد الأسرة البشريّة وفي حقوقهم المتساوية وغير القابلة للتّصرّف، يشكّلُ أساسَ الحرّيّة والعدالة والسّلام في العالم" ، كما يؤكّده الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.

أودّ أن أكرّس لقاءنا اليوم لوثيقةٍ مهمّة كهذه، بعد سبعين عامًا من اعتمادها من قِبَلِ الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة يوم 10 ديسمبر/كانون الأوّل 1948. إنّ التّكلّم عن حقوق الإنسان، بالنّسبة للكرسيّ الرّسوليّ في الواقع، يعني قبل كلّ شيء إعادة اقتراح محوريّة كرامة الإنسان، لأنّ الله أراده وخلقه على صورته ومثاله. فالرّبّ يسوع نفسه، حين شفى الأبرص، وأعاد النّظر للأعمى، وسامَرَ العشّار، وأنقذ حياة الزّانية، ودعا إلى الاعتناء بالمسافر المجروح، جعلنا نفهم كم أنّ كلّ إنسان، بغضّ النّظر عن وضعه الجسديّ أو الرّوحيّ أو الاجتماعيّ، يستحقّ الاحترام والاعتبار. هناك بالتّالي، من منظور مسيحيّ، علاقة مهمّة بين رسالة الإنجيل والاعتراف بحقوق الإنسان، في روح الّذين عمّموا الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.

حقوق كهذه، تستمدّ شروطها المسبقة من الطّبيعة الّتي توحّد الجنس البشريّ بكلّ موضوعيّة. وقد تمّ إعلانها كي تُنزَع جدران الفصل الّتي تفرّق الأسرة البشريّة، وكي تدعم ما تسمّيه العقيدة الاجتماعيّة للكنيسة الكاثوليكيّة التّنمية البشريّة المتكاملة، لأنّها تعتني "بتعزيز كلّ إنسان، وكلّ الإنسان (...) إلى أن تشملَ البشريّة جمعاء" . أمّا النّظرة الاختزاليّة للإنسان فإنهّا تفتح الطّريق لنشر الظّلم، وعدم المساواة الاجتماعيّة، والفساد.

ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ تفسير بعض الحقوق، مع مرور السّنين، ولاسيّما بعد الاضطرابات الاجتماعيّة عام "ثمانية وستّين"، تغيّر تدريجيًّا فتمّ إدراج العديد من "الحقوق الجديدة"، الّتي غالبًا ما تتناقض مع بعضها. ولم يساعد هذا الأمر على تعزيز علاقات الصّداقة بين الدّول، لأنّه تمّ تثبيت بعض المفاهيم المثيرة للجدل حول حقوق الإنسان الّتي تتناقض مع ثقافات العديد من البلدان، الّذين لا يشعرون بالتّالي أنّهم مُحتَرمون في تقاليدهم الخاصّة الاجتماعيّة- الثّقافيّة، إنّما مُهملون إزاء الاحتياجات الواقعيّة الّتي عليهم مواجهتها. هناك بالتّالي خطر– متناقض بمعنى ما- إنشاءِ، باسم حقوق الإنسان نفسها، أشكال جديدة من الاستعمار الإيديولوجيّ من قِبَلِ الأقوياء والأغنياء على حسابِ الفقراء والضّعفاء. وفي الوقت عينه، من المستَحسَن الإبقاء حاضرًا في الذّاكرة، أنّه ليس من الممكن الاستشهاد بتقاليد الشّعوب الفرديّة كذريعة لإهمال الاحترام الواجب للحقوق الأساسيّة المنصوص عليها في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. 

من المؤسف أيضًا الاستنتاج كيف أنّ- بعد سبعين عامًا- الكثيرَ من الحقوق الأساسيّة ما زالت تُنتَهَك اليوم. وأوّلها الحقّ، لكلّ إنسان، في الحياة والحرّيّة والحرمة . وليست الحرب وحدها أو العنف الّذي يلحق بها الأذى. فهناك، في أيّامنا هذه، أشكالٌ أكثر حذاقة: أفكّر أوّلًا في الأطفال الأبرياء، الّذين يتمّ التخلّص منهم قبل أن يولدوا؛ غير مرغوب فيهم أحيانًا لأنّهم مرضى أو معاقين، بسبب أنانيّة الكبار. أفكّر بالمسنّين، وغالبًا ما يكونوا هم أيضًا مُستبعَدين، ولاسيّما إن كانوا مرضى، لأنّهم يُعتَبرون عبئًا. أفكّر بالنّساء، اللّواتي غالبًا ما تعانين من العنف وسوء المعاملة أيضًا داخل أسرهنّ. أفكّر ثمّ في جميع ضحايا الاتّجار بالبشر الّذي ينتهك حَظرَ جميع أشكال الاستعباد. كم من الأشخاص، ولاسيّما الهاربين من الفقر والحرب، هم ضحايا تجارة كهذه يقوم بها أشخاص عديمي الضّمير؟

إنّ الدّفاع عن الحقّ بالحياة والسّلامة الجسديّة، يعني من ثمّ حماية الحقّ بالصّحّة للشّخص ولأعضاء عائلته. ومفعول هذا الحقّ اليوم، قد تجاوز مفهومه الأصليّ في الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، الّذي كان يهدف إلى تثبيت حقّ كلّ شخص بالحصول على الرّعاية الطّبّيّة والخدمات الاجتماعيّة اللّازمة. وأتمنّى، في هذا المنظور، أن يتمّ اتّخاذ الاجراءات، في المحافل الدّوليّة المختصّة، أوّلًا وقبل كلّ شيء، لتسهيل حصول الجميع على الرّعاية والعلاجات الصّحّية. من المهمّ توحيد الجهود كيما يتمّ تبنّي سياسات قادرة على ضمان توفير الأدوية الأساسيّة للمعوزين، بأسعار معقولة، من دون إهمال البحث عن علاجات، على الرّغم من كونها غير مهمّة اقتصاديًّا بالنّسبة للسّوق، لكنّها حاسمة لإنقاذ الأرواح، كما وتنمية هذه العلاجات.

الدّفاع عن الحقّ بالحياة يعني أيضًا العمل بفعاليّة من أجل السّلام، المُعترف به عالميًّا على أنّه إحدى القيم الأسمى الّتي يجب البحث والدّفاع عنها. ومع ذلك فما تزال الصّراعات المحليّة الخطيرة تُشعل مناطق مختلفة من الأرض. وتبدو الجهودُ الجماعيّة للمجتمع الدّوليّ، والعملُ الإنسانيّ الّذي تضطلع به المنظّمات الدّوليّة، والنّداءاتُ المستمرّة من أجل السّلام الّتي ترتفع من الأراضي المضرّجة بالدّمّ، وكأنّها تفقد فعاليّتها أكثر فأكثر إزاء منطق الحرب المنحرف.

إن مشهدًا كهذا لا يقدر أن يقلّل من رغبتنا بالسّلام ومن عملنا من أجله، مدركين أنّ التّنمية المتكاملة للإنسان، من دون هذه الرّغبة، تصبح غير قابلة للتّحقيق.

إنّ النّزعَ الكامل للسّلاح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتّنمية المتكاملة للإنسان. والبحثُ عن السّلام كشرط مسبق للتّنمية، من جهة أخرى، يعني محاربة الظّلم والقضاء، بشكل غير عنيف، على أسباب الخلاف الّتي تقود إلى الحروب. فانتشار الأسلحة يؤدّي بوضوح إلى تفاقم حالات الصّراع، ويتضمّن تكاليف بشريّة ومادّيّة ضخمة تزعزع التّنمية والبحث عن سلامٍ دائم. والنّتيجة التّاريخيّة الّتي تمّ التّوصّل إليها العام الماضي، باعتماد معاهدة حظر الأسلحة النّوويّة، في نهاية مؤتمر الأمم المتّحدة الّذي يهدف إلى التّفاوض حول صكّ يُلزم قانونيًّا بحظر الأسلحة النّوويّة، تبيّن كم أنّ الرّغبة بالسّلام ما زالت حيّة. وتعزيز ثقافة السّلام من أجل تنمية متكاملة يتطلّب مثابرة الجهود باتّجاه نزعِ السّلاح والحدّ من استخدام القوّة المسلّحة في إدارة الشّؤون الدّوليّة. لذا أودّ أن أشجّع على حوار سلميّ حول الموضوع، وعلى أوسع نطاق ممكن، يتفادى استقطابات المجتمع الدّوليّ حول مسألة حسّاسة للغاية كهذه. إنّ كلّ جهد في هذا الاتّجاه، مهما كان متواضعًا، يجسّد نتيجة مهمّة للبشريّة.

لقد وقّع الكرسيّ الرّسوليّ من جهته وصدّق، باسم دولة حاضرة الفاتيكان ونيابة عنها، معاهدةَ حظرِ الأسلحة النّوويّة، وفق المنظور الّذي صاغه القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرون في السّلام في الأرض، والّذي ينصّ على أنّ "العدل، والحكمة، والإنسانيّة، تطالب بوقف سباق التّسلّح، وبالحدّ من الأسلحة الموجودة بتزامنٍ وعلى نحوٍ متبادل؛ وبحظر الأسلحة النّوويّة" . في الواقع، حتّى "لو كان من الصّعب الاقتناع بوجود أشخاص قادرين على تحمّل مسؤوليّة الدّمار والآلام الّتي يمكن أن تسبّبها الحرب، فليس من المستبعد أن يقدر أمرٌ، لا يمكن التّنبّؤ به ولا يمكن السّيطرة عليه، أن يؤدّي إلى الشّرارة الّتي تحرّك جهاز الحرب" .

إنّ الكرسيّ الرّسوليّ يؤكّد بالتّالي مجدّدًا "اقتناعه بأنّه لا ينبغي حلّ أيّ نزاعات بين الشّعوب باللّجوء إلى الأسلحة؛ إنّما من خلال التّفاوض". ومن جهة أخرى، إنّ التّصنيع المستمرّ للأسلحة المتقدّمة والمتقنة، وامتداد العديد من محاور الصّراع- الّتي سمّيتها أكثر من مرّة "حرب عالميّة ثالثة على أجزاء"-، لا يمكنه إلّا أن يجعلنا نكرّر كلمات سلفي القدّيس: "من المستحيل، إنسانيًّا، الاعتقاد أنّ الحرب، في عصرنا الذرّيّ، هي الوسيلة المناسبة لتحقيق العدالة. (...) ومع ذلك يمكننا أن نرجو بأن يكتشف البشرُ، على نحو أفضل، عبر اللّقاء والتّفاوض، الرّوابطَ التّي تربطهم ببعضهم، الّتي تنبع من طبيعتهم الإنسانيّة المشتركة، وأن يكتشفوا أيضًا أن إحدى أهمّ متطلّبات إنسانيّتهم المشتركة هي أن يسود بينهم وبين شعوبهم، لا الخوف، إنّما الحبّ: الّذي يتجسّد من خلال التّعاون الودّيّ، والمتعدّد الأوجه، والّذي يحمل الكثير من الخيرات" .

ومن الأهمّيّة بمكان، في هذا المنظور، دعم أيّ محاولة للحوار في الشّبه الجزيرة الكوريّة، بهدف إيجاد طرق جديدة لتخطّي الخلافات الحاليّة، وزيادة الثّقة المتبادلة، وضمان مستقبل من السّلام للشّعب الكوريّ وللعالم بأسره. 

من المهمّ أيضًا متابعة مختلف مبادرات السّلام الحاليّة من أجل سوريا، في مناخ استباقيّ من ثقة أكبر بين الأطراف، كي يتمّ أخيرًا وضع نهاية للصّراع الطّويل الّذي أغرق البلد وتسبّب في معاناة هائلة. على أمل أن يكون قد حان وقت البناء، بعد الكثير من الدّمار. لكن، أكثر من بناء الحجر، من الضّروريّ بناء القلوب، وإعادة نسج شبكة الثّقة المتبادلة الّتي تشكّل الشّرط الأساسيّ لازدهار أيّ مجتمع. من الضّروريّ بالتّالي العمل على تعزيز الشّروط القانونيّة، والسّياسيّة، والأمنيّة، لاستئناف الحياة الاجتماعيّة، حيث يكون باستطاعة كلّ مواطن، بغضّ النّظر عن انتمائه العرقيّ والدّينيّ، أن يشارك في تنمية البلد. من الأهمّيّة بمكان، في هذا النّحو، أن يتمّ حماية الأقلّيّات الدّينيّة، ومن بينهم المسيحيّين، الّذين يساهمون بنشاط، ومنذ قرون، في تاريخ سوريا.

من المهمّ أيضًا أن يعود العديد من اللّاجئين الّذين وجدوا ضيافة وملجأ في البلدان المجاورة، ولاسيّما الأردنّ، ولبنان، وتركيا. إنّ العمل الّذي قامت به هذه البلدان، والجهود الّتي بذلتها في أوضاع صعبة كهذه، يستحقّ تقدير المجتمع الدّوليّ بأسره ودعمه، الّذي هو مدعوّ في الوقت عينه إلى العمل على خلق الظّروف اللّازمة لعودة اللّاجئين القادمين من سوريا. وهو التزام عليه أن يحمل مسؤوليّته فعليًّا انطلاقًا من لبنان، كيما يبقى هذا البلد الحبيب "رسالة" الاحترام والتّعايش، ونموذجًا ينبغي التّمثّل به، للمنطقة وللعالم بأسره.

من الضروريّ أيضًا وجود الرّغبة بالحوار في العراق الحبيب، كيما تقدر مختلف العناصر العرقيّة والدّينيّة أن تجد مجدّدًا طريق المصالحة والتّعايش السّلميّ والتّعاون، كما وفي اليمن أيضًا وفي أجزاء أخرى من المنطقة، وأيضًا في أفغانستان.

أفكّر بشكل خاص بالإسرائيليّين والفلسطينيّين، عقب توتّرات الأسابيع الأخيرة. إنّ الكرسيّ الرّسوليّ، إذ يعبّر عن أسفه على الّذين ماتوا في الاشتباكات الأخيرة، يجدّد نداءه الملحّ إلى التّفكير في أيّة مبادرة كيما يتمّ تجنّب تفاقم الخلافات، ويدعو إلى التزام مشترك باحترام الوضع الرّاهن، وفقًا لقرارات الأمم المتّحدة ذات الصّلة، في أورشليم القدس، المدينة المقدّسة للمسيحيّين واليهود والمسلمين. سبعون سنة من الاشتباكات تجعلُ من العاجل إيجادَ حلّ سياسيّ يسمحُ بوجود دولتين مستقلّتين في المنطقة، ضمن حدود مُعترف بها دوليًّا. وعلى الرّغم من الصّعوبات، تبقى الرّغبة بالحوار وبإعادة استئناف المفاوضات الطّريق الرّئيسيّة للتّوصّل أخيرًا إلى تعايشٍ سلميّ بين الشّعبين.

ضمن الأطر الوطنيّة أيضًا، ضروريّ هو الانفتاح والاستعداد على اللّقاء. أفكّر لاسيّما بفنزويلا العزيز، الّذي يمرّ حاليًّا بأزمة سياسيّة وإنسانيّة مأساويّة وغير مسبوقة. ويتمنّى الكرسيّ الرّسوليّ، فيما يحثّ على تلبية حاجات الشّعب الأساسيّة بدون تأخير، أن تُهَيّئ الظّروف حتّى تتمكّن الانتخابات المقرّرة للسّنة الحاليّة، من حلّ الصّراعات القائمة، ويصبح من الممكن النّظر إلى المستقبل بصفاء من جديد.

لا يجب أن ينسى المجتمع الدّوليّ أيضًا معاناة الكثير من أجزاء القارّة الأفريقيّة، ولاسيّما جنوب السّودان، وجمهوريّة كونغو الدّيمقراطيّة، والصّومال، ونيجيريا، وجمهوريّة أفريقيا الوسطى، حيث الحقّ بالحياة هو مهدّد بسبب الاستغلال العشوائيّ للموارد، والإرهاب، وانتشار الجماعات المسلّحة والصّراعات الدّائمة. لا يكفي إظهار الاستياء إزاء الكثير من العنف. إنّما على كلّ فرد أن يعمل بمجاله الخاصّ، وبنشاط، على إزالة أسباب البؤس وبناء جسور الأخوّة، الّتي هي الشّرط الأساسيّ لتنمية إنسانيّة أصيلة.

من المُلحّ أيضًا العمل المشترك على بناء جسور في أوكرانيا. فقد حصد العام الّذي انطوى للتّوّ ضحايا جديدة في الصّراع الّذي يعاني منه البلد، والّذي ما زال يسبّب معاناة كبيرة للشّعب، ولاسيّما للأسر المقيمة في المناطق المتضرّرة من الحرب، والّتي فقدت أحبّاءها، ومنهم الكثير من الأطفال.

أودّ أن أذكر الأسرة بالتّحديد بشكل خاصّ. إنّ الحقّ بتأسيس أسرة، الّتي هي "نواة المجتمع الطّبيعيّة والأساسيّة، [والّتي] لها الحقّ في أن يحميها المجتمع والدّولة" ، يعترف به في الواقع إعلان الـ 1948 نفسه. وللأسف، من المعروف كيف أنّ، لاسيّما في الغرب، الأسرة تُعتَبَر مؤسّسة قد تمّ تخطّيها. فاليوم، عوًضا عن الاستقرار في مشروع نهائيّ، يتمّ تفضيل العلاقات العابرة. لكنّ البيت المبنيّ على رمل العلاقات الهشّة والمتقلّبة لا يثبت. من الضّروريّ وجود صخرة توضَعُ عليها أسسٌ متينة. والصّخرة هي شركة الحبّ تلك، الأمينة والدّائمة، الّتي تجمع الرّجل والمرأة؛ شركة لها جمال جدّي وبسيط، ولها طابع مقدّس لا يمكن انتهاكه، ودور طبيعيّ في النّظام الاجتماعيّ. لذا فأعتبر أنّه من المُلحّ تطبيق سياسات حقيقيّة لدعم الأسرة، الّتي يتعلّق بها، علاوة على ذلك، مستقبل الدّول وتنميتها. فمن دونها لا يمكن بناء مجتمع قادر على مواجهة تحدّيات المستقبل. وعدم الاهتمام بالأسر يحمل في طيّاته عاقبة مأساويّة أخرى –حاليّة بشكل خاصّ في بعض المناطق- ألا وهي انخفاض معدّل المواليد. إنّنا نعيش شتاءً ديموغرافيًّا حقيقيًّا! وهو علامة لمجتمعات تتعب في مكافحة التّحدّيات الحاليّة وتخاف أكثر فأكثر من المستقبل، وتنتهي بالانغلاق على أنفسها.

في الوقت عينه، لا يمكننا أن ننسى أوضاع أسر مفكّكة بسبب الفقر، والحروب والهجرة. فكثيرًا ما نرى أمامنا مأساة الأطفال الّذين يعبرون الحدود الّتي تفصل جنوب العالم عن شماله، وغالبًا ما يكونون ضحايا الاتّجار بالبشر.

نتحدّث اليوم كثيرًا عن المهجّرين والهجرة، وأحيانًا فقط بهدفِ خلق مخاوف موروثة. لا يجب أن ننسى أنه لطالما وجدت الهجرة. وتاريخ الخلاص، في التّقليد اليهوديّ- المسيحيّ، هو بشكل أساسيّ تاريخ هجرة. لا يجب أن ننسى أيضًا أنّ حرّيّة التّنقّل، مثل حرّيّة ترك البلد والعودة إليه، هي من حقوق الإنسان الأساسيّة. ينبغي بالتّالي الابتعاد عن الكلام الشّائع حول هذا الموضوع والانطلاق من الاعتبار الأساسيّ أنّ أمامنا هناك قبل كلّ شيء أشخاص.

وهذا ما أردت أن أؤكّده عبر رسالة اليوم العالميّ للسّلام، الذي احتفلنا به الأوّل من يناير/كانون الثّاني الماضي، والّذي حمل عنوان: "مهجّرون ولاجئون: رجال ونساء يبحثون عن السّلام". علمًا أنه ليس لدى جميع المهجّرين على الدّوام نوايا حسنة، لا يمكننا أن ننسى أنّ أغلبيّتهم يفضّلون البقاء في أرضهم، فيما يجدون أنفسهم مُجبرين على تركها "بسبب التّمييز، والاضطهاد، والفقر والتّدهور البيئيّ. (...) إنّ استقبال الآخر يتطلّب التزامًا ملموسًا، وسلسلة مساعدات ورفق، وانتباه ساهر وتفهّم، وتدبير مسؤول لأوضاع جديدة معقّدة، تضاف أحيانًا على أوضاع أُخَر ومشاكل عديدة موجودة، فضلًا عن أنّ الموارد هي محدودة على الدّوام. باستطاعة الحكّام، عبر ممارسة فضيلة الفطنة، أن يستقبلوا ويعزّزوا ويحموا ويدمجوا هؤلاء، واضعين تدابير عمليّة، "ضمن الحدود الّتي يرسمها الخير العامّ بمفهومه الصّحيح، كي يسمح بهذا الدّمج" (السّلام في الأرض، 57). فلهؤلاء مسؤوليّة محدّدة تجاه مجتمعاتهم الخاصّة، الّتي ينبغي عليهم ضمان حقوقها وتنميتها المتناغمة، كي لا يكونوا مثل الباني الجاهل الّذي أخطأ بالحسابات ولم يستطع أن يكمل البرج الّذي شرع ببنائه (را. لو 14، 28- 30)" .

أودّ أن أشكر مجدّدا سلطات هذه البلدان الّتي عملت قصارى جهدها خلال هذه السّنوات لتقديم المساعدة للمهجّرين العديدين الّذين قدِموا إلى أراضيهم. أفكّر قبل كلّ شيء في عمل الكثير من البلدان، في آسيا وأفريقيا والأميركيّتين، الّذين يستقبلون ويساعدون الكثير من الأشخاص. وما زال حيًّا في قلبي اللّقاء الّذي عشته في دكّا مع بعض الأشخاص المنتمين إلى الشّعب الرّوهنجي، وأرغب في تجديد مشاعر الامتنان للسّلطات البنغلادشيّة على المساعدة الّتي تقدّمها لهم على أراضيها.

أرغب من ثمّ أن أعبّر عن امتنان خاصّ لإيطاليا الّتي بيّنت عن قلبٍ منفتح وسخيّ، وعرفت كيف تقدّم أيضًا أمثلة إدماج إيجابيّة. أمنيتي هي ألّا تقودُ الصّعوباتُ الّتي مرّ بها البلد في السّنين الأخيرة والّتي لا تزال تبعاتها حاليّة، إلى الانغلاق، بل إلى اكتشاف جديد لتلك الجذور والتّقاليد الّتي غذّت تاريخ البلد الغنيّ، والّتي تشكّل كنزًا لا يُقدّر بثمن، يجبُ تقديمه للعالم بأسره. كذلك، أعبّر عن تقديري للجهود الّتي قامت بها بلدان أوروبّيّة أخرى، ولاسيّما اليونان وألمانيا. لا يجب أن ننسى أنّ الكثير من اللّاجئين والمهجّرين يحاولون الوصول إلى أوروبا لأنّهم يعلمون أنّه بإمكانهم أن يجدوا فيها السّلام والأمان، اللّذين هما ثمرة مسيرة طويلة نتجت عن المُثُل العليا للآباء المؤسّسين للمشروع الأوروبّيّ بعد الحرب العالميّة الثّانية. ينبغي أن تفتخر أوروبا بهذا التّراث الّذي يقوم على مبادئ معيّنة وعلى رؤية للإنسان تقوم على أساس تاريخه الألفيّ، مستوحاة من المفهوم المسيحيّ للإنسان. إنّ وصول المهجّرين يجب أن يشجّعها على إعادة اكتشاف تراثها الخاصّ الثّقافيّ والدّينيّ، فتقدر في الوقت عينه، إذ تعي من جديد على القِيم الّتي تأسّست عليها، أن تحافظ على تقاليدها، وتبقى مكانًا مضيافًا، يبشّر بالسّلام والتّنمية.

لقد تباحثت السّلطات والمنظّمات الدّوليّة والمجتمعات المدنيّة خلال العام الماضي حول المبادئ الأساسيّة، والأولويّات، وأنسب الطّرق لمعالجة حركة الهجرة والأوضاع الّتي طال أمدها والّتي تتعلّق باللّاجئين. وقد أطلقت الأمم المتّحدة، بعد إعلان نيويورك بشأن اللّاجئين والمهجّرين سنة 2016، عمليّات إعداد بهدف اعتماد ميثاقين عالميّين، أحدهما بشأن اللّاجئين والآخر من أجل هجرة آمنة ومنظّمة ومنتظمة.

ويتمنّى الكرسيّ الرّسوليّ أن تتوصّل هذه الجهود، عبر المفاوضات الّتي ستفتتح قريبًا، إلى نتائج تليق بمجتمع دوليّ يزداد ترابطًا بعضه ببعض، ويقوم على مبادئ التّضامن والمساعدة المتبادلة. ففي الإطار الدّوليّ الحاليّ، لا تنقص الإمكانيّات والوسائل الكفيلة بأن تضمن لكلّ رجل وكلّ امرأة تعيش على الأرض ظروفًا معيشيّة تليق بالإنسان.

وقد اقترحت، في رسالة اليوم العالميّ للسّلام لهذا العام، أربعة "مراحل أساسيّة" للعمل: استقبال، حماية، تعزيز وإدماج. أودّ أن أتوقّف بالأخصّ عند هذه الأخيرة، الّتي تواجه مواقف مختلفة على ضوء تقييمات وخبرات وانشغالات وقناعات عديدة. إنّ الإدماج هو "عمليّة مزدوجة الاتّجاه"، له حقوق وواجبات متبادلة. فالّذي يستضيف هو في الواقع مدعوّ إلى تعزيز التّنمية البشريّة المتكاملة، فيما أنه يُطلب من الّذي يتمّ ضيافته التّوافقَ، الّذي لا غنى عنه، مع قوانين البلد المُضيف، كما واحترام المبادئ المحدّدة لهويّته. على كلّ عمليّة إدماج أن تضع دومًا حمايةَ الأشخاص وتعزيزَهم، ولاسيّما الّذين يمرّون بأوضاع هشّة، في محور القوانين الّتي تتعلّق بمختلف جوانب الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة.

إنّ الكرسيّ الرّسوليّ لا ينوي التّدخّل بالقرارات الّتي تعود إلى الدّول التي، على ضوء أوضاعها الخاصّة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، كما وإمكانيّاتها وقدراتها الخاصّة على الضّيافة والإدماج، تحملُ مسؤوليّة الضّيافة الأولى. لكنّه يعتبر أنّه من واجبه أن يلعب دور "المُذكِّر" بالمبادئ الإنسانيّة والأخويّة، الّتي عليها يقوم كلّ مجتمع متماسك ومتناغم. وفي هذا المنظور، من المهمّ ألّا ننسى التّفاعل بين الجماعات الدّينيّة، سواء كانت مؤسّسية أو على مستوى الجمعيّات، الّتي باستطاعتها أن تلعب دورًا قيّمًا في تعزيز الرّعاية والحماية، وفي الوساطة الاجتماعيّة والثّقافيّة، وفي التّهدئة والإدماج.

ومن بين حقوق الإنسان الّتي أودّ أن أذكّر بها اليوم هناك الحقّ في حرّيّة التّفكير، والضّمير، والدّين، الّذي يشمل حرّيّة اعتناق دين آخر. معروف من المؤسف كم أنّه غالبًا ما يتمّ تجاهل الحقّ في الحرّيّة الدّينيّة، وكثيرًا ما يصبح الدّين مناسبةً لتبريرٍ إيديولوجيّ لأشكالٍ جديدة من التّطرّف، أو ذريعة للتّهميش الاجتماعيّ، هذا إن لم يكن لأشكالِ اضطهادٍ للمؤمنين. إنّ بناء مجتمعات شاملة للجميع يتطلّبُ كشرط له فهمًا كاملًا للإنسان الّذي يمكنه أن يشعر بأنّه مقبول بالفعل عندما يُعترف بِه ويُقبل بجميعِ الأبعادِ الّتي تكوّن هويّته، بما في ذلك الدّينيّة.

في النّهاية، أودّ التّذكير بأهمّيّة الحقّ في العمل. فليس هناك من سلام ولا من تنمية إذا حُرِم الإنسانُ من إمكانيّة المساهمة شخصيًّا في بناء الخير العامّ، عبر عمله الشّخصيّ. ومن المؤلم أن نستنتج كيف أنّ العمل هو، في أجزاء كثيرة من العالم، خيرٌ من الصّعب أن يتوفّر. وقليلة هي أحيانًا فرصُ وجودِ عمل، ولاسيّما للشّباب. وغالبًا ما يكون من السّهل فقدانه، ليس فقط بسبب عواقب تناوب الدّورات الاقتصاديّة، إنّما أيضًا بسبب الاستخدام التّدريجيّ لتكنولوجيّات وآلات متقنة ودقيقة قادرة على أن تحلّ مكان الإنسان. وإذا كان هناك، من جهة، توزيع غير متكافئ لفرص العمل، فمن جهة أخرى، هناك الميل إلى مطالبة العامل بوتيرة عملٍ متزايدة على الدّوام. فقد قادت متطلّبات الرّبح الّتي تُمليها العولمة، إلى تخفيضٍ تدريجيّ لساعات وأيّام الرّاحة، ونتج عن ذلك أنّنا قد خسرنا بُعدًا أساسيًّا للحياة- بُعد الرّاحة- وهو الّذي يعيد إلى الشّخص قواه ليس فقط الجسديّة، إنّما أيضًا الرّوحيّة. اللهُ نفسُه استراح في اليوم الساّبع: وباركه وقدّسه "لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" (تك 2، 3). والإنسانُ، عبر تناوب التّعب والرّاحة، يشاركُ في "تقديس الوقت" الّذي قام به الله ويُنبِل عملَه، إذ يخرجه من ديناميّات متكرّرة في حياة يوميّة قاحلة لا تعرف الرّاحة.

هناك من ثمّ مصدر قلق خاصّ وهي البيانات الّتي نشرتها منظّمة العمل العالميّة مؤخّرا بشأن زيادة عدد الأطفال العمّال وعدد ضحايا أشكال جديدة من العبوديّة. وما زالت آفة عمالة الأطفال تهدّد جدّيًّا التّنمية النّفسيّة- الجسديّة لدى الأطفال، وتحرمهم من أفراح الطّفولة، حاصدة ضحايا أبرياء. ليس من الممكن التّفكير في تصميم مستقبل أفضل، ولا التّمنّي ببناء مجتمع أكثر شمولًا، إذا ما استمرّت نماذج اقتصاديّة تتطلّع إلى الرّبح وإلى استغلال الضّعفاء: الأطفال على سبيل المثال. يجب أن تكون إزالةُ الأسباب الهيكليّة لآفة كهذه، أولويّةَ الحكومات والمنظّمات الدّوليّة، المدعوّة لتكثيف الجهود من أجل تبنّي استراتيجيّات متكاملة وسياسات منسّقة تهدف لإنهاء عمالة الأطفال بجميع أشكالها.

أصحاب السّعادة، سيّداتي، سادتي،       

إذ أذكّر بِبَعضِ الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالميّ لسنة 1948، لا أقصد أن أهملَ ناحيةً وثيقةَ الصِّلةِ بها: أنّه على كلّ فردٍ واجبات نحو المجتمع، تهدف إلى "الوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنّظام العامّ ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطيّ" . إنّ التذكير العادل بحقوق كلّ إنسان، عليه أن يأخذ بعين الاعتبار أنّ كلّ فرد هو جزء من هيئة أكبر منه. فمجتمعاتنا أيضًا تتمتّع بصحّة جيّدة، مثلَ أيّ جسم بشريّ، إذا قام كلّ عضوٍ بعمله الخاصّ، مدركًا أنّه في خدمة الخير العامّ.

ومن الواجبات الملحّة بصفة خاصّة اليوم، هو الاهتمام بأرضنا. نعرف أن الطّبيعة تقدر أن تكون هي نفسها دامية حتّى عندما لا يكون هذا من مسؤوليّة الإنسان. وقد رأينا هذا في السّنة الأخيرة عبر الهزّات الأرضيّة الّتي ضربت مناطق مختلفة من الأرض، لاسيّما المكسيك في الأشهر الأخيرة، وإيران، حاصدة ضحايا عديدة، كما وعبر الأعاصير الّتي أضرّت بالعديدَ من بلدان منطقة البحر الكاريبي وحتّى سواحل الولايات المتّحدة، والّتي ضربت مؤخّرا الفلبّين. لكن، يجب ألّا ننسى أن هناك أيضًا مسؤوليّة رئيسيّة للإنسان في التّفاعل مع الطّبيعة. فالتّغيّر المناخيّ، مع الارتفاع العامّ في درجات الحرارة، والتّأثيرات المدمّرة الّتي تتضمّنها، هي أيضًا نتيجة العمل البشريّ. من الواجب بالتّالي، وفي جهد مشترك، مواجهة مسؤوليّة ترك أرض أكثر جمالًا وصالحة للعيش، للأجيال الصّاعدة، عبر العمل، على ضوء الالتزامات المتّفق عليها في باريس في عام 2015، للحدّ من انبعاثات الغاز الضّارّة بالغلاف الجوّيّ، والمضرّة بصحّة الإنسان.

يمكننا تشبيهه بالرّوح الّذي يجب أن يحرّك الأفراد والأمم في هذا العمل، بروح بنّائي كاتدرائيّات العصور الوسطى الّتي تملأ أوروبا. هذه المباني الرّائعة تروي أهمّيّة مشاركة كلّ فرد في عمل قادر أن يتخطّى حدودَ الزّمن. كان يعلم باني الكاتدرائيات أنّه لن يرى نهاية عمله. ومع ذلك عمل بنشاط، مدركًا أنّه جزء من مشروع، سوف يتمتّع به الأبناء، الّذين- بدورهم- قد يقومون بتجميله وتوسيعه من أجل أبنائهم. إنّ كلّ امرأة وكلّ رجل في هذا العالم- ولاسيّما مَن له مسؤوليّة السّلطة- هو مدعوّ لتنمية الرّوح نفسه، روح الخدمة والتّضامن بين الأجيال، ولأن يكون هكذا علامة رجاء لعالمنا المضطرب.

مع هذه الاعتبارات، أجدّد أمنيتي لكلّ منكم، ولأسركم ولشعوبكم، بعامٍ جديد غنيّ بالفرح والرّجاء والسّلام. شكرًا".