ماذا تعني كلمة توبة أو ارتداد؟
هكذا استهلّ بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا تأمّله في إنجيل الأحد الثّاني من زمن المجيء، وتابع قائلاً بحسب إعلام البطريركيّة:
من أجل مساعدتنا على التّعرّف عليه، يُخبرنا متّى، في البداية، عن ثيابه: "كان لباس يوحنّا من وبر الإبل، وعلى حقويه مِنطقةٌ من جلد" (متّى ٣، ٤). وهذا ليس مجرّد عبارة بسيطةً، أو صفة مُمّيزة لا أهمّيّة لها، وإنّما إشارة واضحة إلى ملابس النّبيّ إيليّا، الّذي تمّ وصفه، تحديدًا، في بداية مهمّته، بأنّه "رجل أشعر متنطّق بمنطقة من جلد على حقويه (٢ ملوك١، ٨).
بهذا الإقران بين لباس الشّخصيّتين، يبدو أنّ الإنجيليّ يريد أن يقول لنا: أنظروا، لقد عاد إيليّا، وهذه هي العلامة المُنتظرة منذ قرون مضت، وهي العلامة الّتي تؤكّد، دون التباس، أنّ المسيح آتٍ. لأنّه، بحسب نبوءة ملاخي (ملاخي ٣، ٢٣)، سوف يكون الرّبّ قد أرسل النّبيّ إيليّا: "هاءنذا أرسِلُ إليكم إيليّا النّبيّ قَبلَ أن يأتي يَوم الرّبّ العَظيمُ الرّهيب". فيما بعد، في بشارة متّى (متّى ١١، ١٠ و ١٧، ١٠–١٣)، سوف يؤكّد يسوع نفسه هذا التّماثل بين إيليّا ويوحنّا في مناسبتين.
وهذا يعني أنّه، مع ظهور يوحنّا في الصّحراء، فإنّ كلّ التّوقّعات المسيحانيّة لشعب إسرائيل كانت على وشك أن تتحقّق، وأنّ شيئًا عظيمًا على وشك الحدوث.
ينتج عن هذا الخبر حركة وانتظار ورجاء: يذهب النّاس إلى الصّحراء، وهي مكان الارتداد والتّوبة، ومكان الإصغاء، من أجل رؤية إيليّا الجديد هذا، المُرسل من السّماء.
يعظ يوحنّا في الصّحراء، مؤكّدًا بقوّة أنّ "ملكوت السّماء قد اقترب".
وهذا يعني أنّه يؤكّد البشرى السّارّة، تلك البشرى الّتي كان الجميع ينتظرها، وهي أنّ الرّبّ قريب، ويُحافظ على وعوده، وأنّه على وشك زيارة شعبه. يقول يوحنّا (٣، ١١) "يأتي بعدي مَنْ هو أقوى منّي …".
فإذا كان الأمر هكذا، وإذا كان الملكوت قريبًا، فهنالك، بالتّالي، حاجة لإعداد أنفسنا لاستقباله، وهذه، بالضّبط، هي مهمّة المعمدان: يحرص الإنجيليّ متّى على تضمين نبوءة أشعيا هنا (أشعيا ٤٠، ٣) حيث يطلب صوتٌ غامض وغير معروف من الشّعب إعداد الطّريق الّتي ستشهد عودة الرّبّ.
حسنا، لا تذهبوا أبعد من ذلك، فإنّ هذا الصّوت يمكن سماعه مرّة أخرى، وهو صوت المعمدان. وكلّ شيء صار له لهجة الوفاء بالوعد الّذي يبدأ بالتّحقّق.
إنّه زمن الاستعداد. يُقدّم المعمدان بعض المؤشّرات البسيطة والأساسيّة حول طريقة الاستعداد هذه.
فهو يُحذّرنا، في المقام الأوّل، من خطر كبير: الظّنّ بأنّنا جاهزون منذ الآن.
وهذا هو خطأ الفرّيسيّين والصّدّوقيّين (متّى ٣، ٧ وتابع)، الّذين يظهرون هنا للمرّة الأولى في الإنجيل. يُفسّر يوحنّا فكرهم، المرتكز على هذه المقولة وهي أنّه يكفي مُجرّد الانتماء إلى شعب ما، وإلى تقليد معيّن، كي يشعر الفرد بالأمان، وبأنّ كلّ شيء على ما يرام: "ولا يخطر لكم أن تعلّلوا النّفس فتقولوا: "إنّ أبانا إبراهيم!" (متّى ٣، ٩). لا جدوى من اللّجوء إلى مثل هذا الادّعاء.
وبالتّالي، فإنّه من الغرابة القول إنّ العائق الحقيقيّ للقاء الرّبّ، ليس هو الخطيئة، بل الافتراض أنّنا أبرار.
إضافة إلى هذا، فإنّ يوحنّا لا يطلب عمل أيّ شيء خاصّ: لا داعي للصّيام، ولا لممارسة التّزهّد، ولا القيام بالطّقوس الدّينيّة. ولكن، أوّلاً وقبل كلّ شيء، ببساطة، لا بدّ من التّوبة.
إنّ كلمة توبة هي الكلمة المركزيّة في المقطع الإنجيليّ لهذا اليوم وتتكرّر ثلاث مرّات.
ماذا تعني كلمة توبة أو ارتداد؟ هي ما كان يفعله النّاس، المتزاحمون على يوحنّا، بشكل عفويّ: كانوا "يعتمدون على يده في الأردنّ معترفين بخطاياهم" (متّى٣، ٦). تعني التّوبة تبنّي موقف متواضع يُقرّ بعدم الاستحقاق الشّخصيّ، وبالشّرّ الّذي يسكن فينا، والحاجة الشّخصيّة للخلاص الّذي ينفتح على رحمة الرّبّ.
إنّ هذا، بالنّسبة للبشير متّى، هو الشّكل الوحيد لإعداد طريق الرّبّ.
قد يبدو لنا في غاية البساطة، ولكن نحن نعلم أنّ الأمر ليس كذلك….
وأخيرًا، فإنّ المسيح الّذي كان ينتظره يوحنّا المعمدان هو في المقام الأوّل قاض، ونحن نفهمه بهذا الشّكل من الصّور الّتي يستخدمها المعمدان لوصفه: الفأس الّذي يوضع على أصل الشّجر والّذي يقطع الأشجار الّتي لا تُعطي الثّمر (آية ١٠)؛ والمذراة الّتي تُنقّي البيدر وتحرق التّبن (آية ١٢). وهذه صور لقاضٍ لا يُظهر الرّحمة، ولكنّه يَحُلّ مشكلة الشّرّ والخطيئة تمامًا كما كان الجميع يتوقّعون، وكما الإنسان، وحده، يُمكنه أن يتخيّله: القضاء على الخطيئة وعلى الخاطئ. إنّها كلمات مشحونة بالعنف.
لن يكون الأمر كذلك، وأوّل من يُعبّر عن دهشته من هذا المسيح الجديد كلّيًّا سوف يكون يوحنّا ذاته (متّى ١١، ٣). يوحنّا المعمدان، الّذي يظهر في إنجيل اليوم واثقًا من نفسه ومن زنزانته، حائرًا إزاء ما يسمعه عن يسوع الذي يقوم بأمور مختلفة وغير متوقّعة، سيرسل تلاميذه ليقولوا ليسوع: "أأنت الآتي، أم آخر ننتظر؟" (متّى ١١، ٣). هل أنت حقًّا الشّخص الّذي كان قد أُعلن عن مجيئه على نهر الأردنّ حينما دعوت النّاس إلى التّوبة؟
في الإجابة عن تساؤله، يشير يسوع إلى نبوءة أشعيا، الّتي سنقرأها في فترة زمن المجيء: "العميان يبصرون والعرج يمشون مشيًا سويًّا، البرص يبرأون والصّمّ يسمعون، الموتى يقومون والفقراء يبشّرون" (متّى ١١، ٥). نعم، يقول يسوع إنّه هو من يقوم بما هو مكتوب. أيّ أنّه يدعو المعمدان إلى الرّجوع إلى المعنى الحقيقيّ لمجيئه وهو ما أعلنه النّبيّ أشعيا. بكلمات أخرى، يدعوه إلى التّخلّص من توقّعاته الشّخصيّة المحدودة وإفساح مجال لكلمة يسوع الخلاصيّة.
وسوف تكون هذه توبته الشّخصيّة. وربّما ينبغي أن تكون توبتُنا بشكل ما أيضًا."