لبنان
03 آذار 2020, 10:32

مئويّة لبنان الكبير بين الماضي والحاضر

تيلي لوميار/ نورسات
عقدت قبل ظهر أمس ندوة صحفيّة في المركز الكاثوليكيّ للإعلام، بدعوة من اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، تحت عنوان "مئويّة لبنان الكبير بين الماضي والحاضر"، شارك فيها رئيس اللّجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام المطران أنطوان- نبيل العنداري، المطران بولس مطر، مدير المركز الكاثوليكيّ للإعلام الخوري عبده أبو كسم، الرّئيسة العامّة لجمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات الأمّ ماري أنطوانيت سعاده، المتخصّص في التّاريخ الحديث المعاصر للبنان والشّرق الأدنى البروفيسور أنطوان حكيم، وحضور أعضاء من اللّجنة الأسقفيّة المذكورة ومن الإعلاميّين والمهتمّين.

بداية رحّب المطران أَنطوان- نبيل العنداري بالحضور وقال:

"يطيبُ لَنا في هذِهِ النَّدوَة الصَّحَفِيَّة الثَّانِيَة لِهذِه السَّنَة، أَن نَبدَأَ سِلسِلَةَ مَواضيعَ تَتَناوَلُ الوَضعَ اللُّبنانيّ المَأزوم بِأَبعَادِهِ الوَطَنِيَّة والاقتِصَادِيَّة والاجتِماعِيَّة والسِّياسِيَّة.

نَنطَلِقُ بِدَايَةً مِن فَحوى رِسالَةِ غِبطَةِ أَبينَا السَّيِّدِ البَطرِيَرك مار بشارَة بُطرُس الرّاعي الكُلّيّ الطُّوبى الّتي أَطلَقَها بِمُنَاسَبةِ عيدِ الميلادِ المَجيد، يُوَجِّهُ فيهَا، بِمُنَاَسَبَةِ المِئَوِيَّةِ الأُولى لإِعلانِ دَولَةِ لُبنانَ الكَبير، تَذكيرًا بِهذا "المَشروعِ اللُّبنانيّ الإِنسانيّ مِن أَجلِ الحُرِّيَّاتِ وَالمُساواةِ والعَيشِ المُشتَرَك، والّذي يُشَكِّلُ نَمُوذَجًا وَرِسَالَةً في هذا الشَّرق يَجِبُ حِمَايَتُهُ.

في قَلبِ المُعانَاة، يُطَالِعُنَا سِيَادَةُ المُطران بُولُس مَطَر، السَّلَفُ الصّالِح في رِئاسَةِ هذِهِ اللَّجنَة، بِمُداخَلَةٍ تَعرُضُ نَظرَةَ الكَنيسَة لِواقِعِ وَمُرتَجى لُبنانَ اليَوم القَابِعِ في مَهَبِّ الأَزَمَة. وتُسَلِّطُ الأُمّ ماري- أَنطوانيت سعادِة، الرَّئيسَة العَامَّة لِجَمعِيَّةِ راهِباتِ العائلَة المُقَدَّسَة المارونِيّات، الضَّوء على روحانِيَّةِ المُؤَسِّس رَجُلِ اللّه المُكَرَّم البَطريرك الياس الحويّك في مُواجَهَةِ الأَزَمات، وَهوَ الّذي عَايَشَ شَعبَهُ أَهوالَ المَجاعَة إِبَّانَ الحَربِ العالَمِيَّة الأُولى، وَتَحَمَّلَ وِزرَها، وعَمِلَ رائدًا معَ الخَيِّرينَ مِن أَبناءِ عَصرِه على التَّخفيفِ مِن وَطأَتِهَا. أَمّا البرُوفيسور أَنطوان حكَيِّم، الأُستاذُ الجَامِعي وَالاختصاصيّ في التَّاريخِ الحَديثِ المُعاصِر لِلُبنانَ والشَّرقِ الأَدنى، فَيُظَهِّرُ لَنا مِن مَوقِعَهِ وَعُمقِ خِبرَتِه نَظرَةَ البَطريرك الحوَيِّك إِلى الكِيانِ اللُّبناني".

ثمّ تحدّث المطران بولس مطر فقال:

"عقدنا العزم، في الكنيسة وفي الوطن، على الاحتفال بمرور مئة عام على قيام دولة لبنان الكبير. وتألّفت لجنة بطريركيّة عليا، أنشأها ورعى اسمها غبطة أبينا السّيّد البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي الكلّيّ الطّوبى. وأنشأ فخامة رئيس البلاد العماد ميشال عون لجنة وطنيّة عليا للغرض نفسه، وأطلق نشاطها بكلمة تاريخيّة ألقاها في مناسبة افتتاح السّنة اليوبيليّة الّتي أراد إحياءها من أجل لبنان. وسادت رغبة في التّعاون بين الجميع من أجل إنجاح هذا الاحتفال بما يليق بهذا الحدث وبتاريخ لبنان العزيز.

لكنّ الفرح الّذي اعتمر منّا القلوب، كان علينا أن ندفع أمانه بالآلام العميقة الّتي أصابتنا بعد انطلاق الانتفاضة الأخيرة الّتي حرّكت ضمير لبنان، لا لأنّ هذه الانتفاضة كانت سلبيّة إذ أنّ العكس هو الصّحيح، بل لأنّ هذه الانتفاضة كشفت لنا حقائق مرّة عن الفشل الذّريع الّذي أصاب مشروع الدّولة في لبنان والأخطاء بل الخطايا الّتي ارتكبت بحقّ الدّولة والوطن والشّعب على مدى ثلاثين عامًا أيّ منذ انطلاق اتّفاق الطّائف انطلاقًا معوجًّا، أو حتّى على مدى سبعين عامًا ونيّف أيّ منذ وصلت دولتنا النّاشئة إلى استقلالها النّاجز في العام 1943.

وبصراحة  نقول إنّ المنتظر للبنان في مثل مناسبة مرور مئة عام على قيام دولته، كان تعداد النّجاحات الّتي سُجّلت لصالح البلاد خلال مئة عام من تاريخه الحديث، وصولاً بنا إلى تجمّع تصاعديّ لهذه النّجاحات في السّنوات الأخيرة من حياة الوطن. وما يزيد على ألمنا ألمًا هو أنّ تعداد الدّول المنشأة في العشرينات من القرن الماضي أو المستقلّة في الأربعينات من القرن نفسه لم يكن يتجاوز الخمسين أو السّتّين دولة في العالم كلّه. وكان لبنان واحدًا من هذه الدّول بالذّات. وكان قد سجّل لصالحه فضل خاصّ في وضع شرعة الأمم المتّحدة، وحقوق الإنسان في العام 1945 أيّ لدى تأسيس هذه الجمعيّة العالميّة للدّول، بحضور ومشاركة الدّكتور شارل مالك في هذا العمل الحضاريّ الكبير. وعندما صار تعداد الدّول المستقلّة في أيّامنا الحاضرة يناهز المئة وتسعين دولة،  تأخّر لبنان في التّصنيف العالميّ للدّول، إلى حدّ أنه صار في طليعة الدّول المصابة بالفساد والتّخلّف المدنيّ والبيئيّ على أنواعه. ومن المؤسف القول أيضًا إنّ دولتنا باتت على مشارف إعلان إفلاسها وعلى بعد قوسين أو أدنى من اعتبارها دولة فاشلة، لا سمح الله.

لا شكّ في أنّ دور الكنيسة المارونيّة كان حاسمًا في خلق الأجواء لقيام هذه الدّولة الجديدة لبنان الكبير. فالكنيسة كانت وراء تقدّم المجتمع اللّبنانيّ على صعيد الثّقافة والعلم والقانون والاستشفاء والرّعاية الاجتماعيّة لذوي الحاجات على أنواعها. وقد سبقت عمل الدّولة لا بل وجودها في هذه الحقول. وقد حضنت الكنيسة شعبها إبّان الحرب العالميّة الأولى وفي زمن المجاعة الكبرى تحديدًا، إذ باع البطريرك الحويّك صليبه لهذه الغاية ورهن أرزاق الكرسيّ البطريركيّ برمّتها تأمينًا لإطعام النّاس وإبعاد شبح الجوع والموت عن أعداد كبيرة منهم.

وكان للبطريرك دور خاصّ في جغرافيّة لبنان أيّ في النّظر إلى حدوده إذ أراده وطن العيش المشترك بين مسيحيّيه ومسلميه، أولئك الّذين اعتبرهم جميعًا من اهله وبني قومه. فخيار البطريرك هذا وعلى الرّغم من انتقاد البعض له ممّن كانوا يرغبون بدولة أصغر من لبنان الحاليّ، هو الّذي أعطى لبنان رسالة مميّزة في هذا الشّرق وفي العالم وصورة محبّبة لدى جميع المقدّرين في العالم لحوار الحضارات وتفاعلها من أجل السّلام العالميّ.

لكن إذا سألنا عمّا حدث للبنان بعد مرور مئة عام على جهود البطريرك الحويّك من أجل قيام دولته وكيانه المستقلّين، ينتابنا شعور صادمٌ بأنّ الجهود الّتي بذلها هذا البطريرك العظيم والّتي أدّت بداية إلى نقل لبنان من الموت إلى الحياة، قد أعقبها خذلان وأخطاء وخطايا اقترفت بحقّ الوطن بالفعل أو بالإهمال، وصلت معها الأمور إلى نقل لبنان في اتّجاه معاكس، أيّ من الحياة نحو التّلاشي والموت، لا سمح الله. فقد عصفت بالبلاد رياح عاتية على المستوى السّياسيّ هزّت أركان الوطن والدّولة وعلى المستوى الاقتصاديّ بخاصّة، إذ وصلت إلى تهديد الشّعب بالإفلاس الكامل. فعلى المستوى السّياسيّ وُقّع نظام جديد للتّداول في لبنان هو نظام التّوافق في كلّ شاردة وواردة، كبيرة كانت أم صغيرة، ما جعل التّصويت المتعارف عليه في الحياة الدّيموقراطيّة وحيث يجب التّصويت يتلاشى ليحلّ محلّه كباش من الجميع ضدّ الجميع مع حقّ النّقض الّذي يستعمل عادة  في جمعيّة الأمم المتّحدة وليس في صفوف الشّعب الواحد. وكان أن توقّفت عجلة الحياة عن الدّوران وأصيبت البلاد بالعودة إلى القهقرة إلى التّخلّف وفقدت دورها وتأثيرها في المنطقة والعالم. وعلى  مستوى الاقتصاد، وُضعت على مناهل البلاد ديون لا يتصوّرها عقل ولا يقبلها اقتصاد وهي بحوالي تسعين مليارًا من الدّولارات لم يفد منها لبنان بشيء يذكر بل ذهبت بمعظمها هدرًا على حشر موظّفين ما كانت الدّولة بحاحة إليهم وعلى تمويل الكهرباء الّتي لم تستفد من هذا التّمويل بل تراجعت مع الرّغم منه إلى حدّ لا تعرفه شيمة أيّ دولة. والأدهى من كلّ ذلك أنّ هذا الأمر الفاضح لم يُحاسب عليه أحد كما يجب وينبغي، إلى أن سقط لبنان في هوّة لا يستطيع النّهوض منها  إلّا بأعجوبة إنقاذيّة تجنّد جميع الإرادات الطّيّبة لإنجازها، اليوم ولا غدًا. وهذا  ما لم  يتمّ تأمينه حتّى الآن.

لقد أطلقت الكنيسة في لبنان منذ ثلاثين عامًا ونيّف صرخاتٍ ضمير، جسدّها أوّلاً البطريرك الرّاحل مار نصرالله صفير، وقد أتبع غبطة البطريرك الرّاعي هذه المقولات بصرخات وطنيّة إنقاذيّة. فدعا أوّلاً إلى التّمسّك بلبنان الواحد ولبنان العيش المشترك، لأنّ هذا المشروع الوطنيّ وحده هو القابل للحياة والمنصف لجميع النّاس، ودعا إلى أن يحترم كلّ إنسان حقّ الآخر، ما يؤمّن شراكة حقّة في الحكم وفي مسيرة البلاد نحو خيرها وخير أبنائها مهما كانت ومن دون استثناء.

وعندما وقعت الواقعة الاقتصاديّة الأخيرة وانتفض الشّعب اللّبنانيّ ضدّ أوضاع وطنه المزرية والمرفوضة، تبنّى غبطته هذه الثّورة السّلميّة الّتي أثبتت أنّ شعب لبنان يستحقّ الحياة وهو ليس بشعبٍ خاملٍ يرضى بالمذلة كما كان العالم يحكم عليه بها، لولا هذا التّصرّف الحضاريّ الأخير الّذي أدهش سائر الدّول. وأضاف غبطته أنّ هذا الحراك يجب أن يبقى تحت سقف الدّستور والمؤسّسات لئلّا يضيع لبنان الّذي بنيناه على مدى مئات من السّنين. ثمّ أوعز غبطته إلى المؤسّسات الكنسيّة أن تبذل كلّ ما في وسعها لمنع الحياة والمدارس والمستشفيات ودور الأيتام والحاجات الخاصّة عن التّوقّف. فنرفع جميعًا سدًّا منيعًا من دون استسلام شعبنا  للمجاعة أو لأيّ نوع من الإذلال. إنّها جهود تبذل ويجب أن تكثّف وصولاً إلى من تصبو إليه من صمود قبل الإقلاع من جديد.

لكن عمل الإنقاذ يجب أن يجمع كلّ الجهود أيّ كلّ طاقات الكنيسة والشّعب والدّولة معًا. ولنتّعظ في هذا الأمر بمواقف البطريرك الحويّك بالذّات ولنتمسّك بتعليمات البطريرك الرّاعي وقد أطلقها واضحة قبل رسالة الميلاد الأخيرة ومعها ومن في من بعدها، وحتّى يومنا هذا، هذه المواقف وهذه التّعليمات تتضمّن أنّ الكنيسة لا تستطيع وحدها تحقيق الدّعم الكامل. فلقد ساهم الحويّك في إنقاذ لبنان من براثن الجوع في الحرب العالميّة الأولى.

إنّ خير زمن لالتقاط أنفاسنا ولشحذ هممنا والعمل بضمائرنا الصّوم الّذي نعيشه اليوم ونحن ما زلنا في بدايات الأسبوع الثّاني من أسابيعه السّبعة. فلعلّنا نسير به مع الرّبّ يسوع المسيح فنشرك الإنسان بآلامه وتضحياتنا الكبرى من أجل العالم ولعلّنا نصل أيضًا مع المسيح إلى مجد القيامة.

ثمّ كانت مداخلة الرّئيسة العامّة الأمّ ماري أنطوانيت سعاده فقالت:

"لا يخلو زمنٌ ولا مكانٌ مِنَ الأزماتِ والصُّعوبات. هكذا تَشهدُ تواريخُ الشّعوبِ والأوطانِ والأشخاصِ. لكنْ، ممّا لا يقبلُ الشّكَّ أنَّ زمانَ "رجلِ الله" المكرّم البطريرك الياس الحويّك كانَ مِنَ الأزمنةِ الشّديدةِ الصّعوبةِ، الكثيرةِ الأزماتِ، المتعدّدةِ التَّحدّياتِ، في مختلفِ المجالات. وهو بالتّأكيد، أَشدُّ صعوبةً مِن زمانِنا الحاليّ، على الرّغم ممّا نعاني منه اليوم على الصّعيد السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.

في ظروفٍ قاسيةٍ، كانَ البطريرك الحويّك "رجلَ المرحلة"، وصانعَ تاريخِ إعلانِ دولةِ لبنان الكبير الّتي نحتفلُ هذه السّنةَ بيوبيلِها المئويّ الأوّل، مُصلِحًا اجتماعيًّا وراعيًا أمينًا ومدبِّرًا حكيمًا. كانَ كلُّ هذا وأكثر لأنّه كان أوّلًا وآخِرًا "رجلُ الله".

تميّزَ البطريرك الحويّك بصِفاتٍ قلّما تجتمعُ في إنسانٍ واحِدٍ. وصَفَه المطران أغوسطين البستانيّ، قالَ عنه إنّه كان في كلِّ المواقفِ على اختلافِها ممتازًا في القداسة، ممتازًا في الحكمة، ممتازًا في العلم، ممتازًا في الرّصانة، ممتازًا في الصّدقِ، ممتازًا في الوفاء، ممتازًا فياللّطف، ممتازًا في الغيرة على الكنيسةِ.

عُرِفَ الحويّك وهو بعدُ شابّ، وتلميذٌ في لبنان وروما، بحدّةِ ذكائِهِ: "بلْ كانَ آيةً في الذّكاءِ والنَّجاحِ والتّقَدُّم". أنهى دروسَه في كُلِّيّةِ مَجْمَعِ نَشْرِ الإيمانِ المقدَّسِ في روما مكلِّلًا سنواتٍ أربعة "بنجاحٍ باهرٍ قَلَّ نظيرُه" (الخوري منصور عوّاد، صفحة ذهبيّة من تاريخ لبنان).

الفضائلُ الإنسانيّة كثيرة عند الحويّك، هو رجلٌ واسِعُ الآفاقِ، رئيسٌ، وراعي وقائد، فَرَضَ نفسَهُ حيث تواجَدَ بشخصيّته المتّقدة. لا يطيقُ الأوسطيّةَ ولا التَّلبُّسَ. رجلُ واجبٍ، دائمُ السَّهرِ على جماعتِهِ، دائمُ الإصغاءِ إلى كنيستِهِ، مُرهَفُ الإحساسِ بحاجاتِ مجتمعِهِ، حاضرٌ دائمًا ومستعِدٌّ من أجلِ خيرِ شعبِهِ. أردفت "من هذه الفضائِلِ ما يطالُ العلاقاتِ الاجتماعيّة والقدرةَ على التّواصل، ووِسعَ الرّؤية، وشموليّةَ المحبّة الّتي لا تستثني أحدًا. عُرِفَت عن الحويّك قدرتُه على الحوار وعلى العمل الجماعيّ في إدارتِهِ الكنسيّة ومع إخوتِه المطارنة، كما وفي علاقاتِهِ الوطنيّة بين مختلف الطّوائف ومع الدُّولِ الكبرى. بَقِيَ الحويّك أبًا محبًّا يحنو بعطفٍ ومحبّة على الوضعاء والفقراء" (الأبُ بطرس حبيقة)؛ "وهو أطالَ اللهُ عمرَه مشهورٌ ببذلِه المالَ للمحتاجين بسخاءٍ وارتياح".

وعن روحانيّتُه وعلاقتُه بالله قالت: إجتمعَت هذه الصّفات الإنسانيّة في رجلٍ كانَ "رجلَ الله"، رجلٍ كلُّه لله، عمِلَ من أجلِهِ، مبتغيًا رضاه، واعتقدَ يقينًا أنّ كلَّ شيءٍ هو من تدبيرِه وعنايتِهِ (الخوري منصور عوّاد).

في علاقتِهِ مع الله، عاشَ الحويّك روحانيّةَ البنوّةِ، هو الابنُ الّذي فَتَّشَ عن إرادةِ الله ليتمِّمَها مُلقيًا كلَّ همِّهِ واتّكالِه عليه. يمكنُ اختصارُ روحانيّةِ البطريرك الياس الحويّك بهذه الآيةِ من الرّسالة الى أهل روما: "كلُّ شيءٍ منه وبه وإليه له المجد الى الأبد".

عاشَ البطريرك الحويّك أمينًا لله، أمينًا لحضورِهِ أمامَه، زاهِدًا في كلِّ ما سِواه. لَمْ يَرغَبْ يومًا بأمجادِ العالمِ الزّائلة، بل بَقِيَ فقيرًا بسيطًا وحُرًّا مِن تَعَلُّقاتِ هذا العالم، وكانَ يُردِّدُ لسامِعيهِ أنّ نفسَهُ اشمئزّتِ المظاهرَ الدُّنيويّة.

إنَّ الواقع كثيرًا ما يكون مريرًا وصعبًا ويدعو إلى التّشاؤمِ والخوفِ على المستقبلِ حيث لا انفراجاتٍ في الأفُق. وهنا تكمُنُ نظرةُ الرّجاءِ والتّطلُّعِ الى فوق، الّتي ميّزت البطريرك الحويّك. فالبطريرك الحويّك هو رجلُ الرّجاءِ بامتيازٍ لأنّهُ رجلُ الثّقةِ غيرِ المشروطةِ والاتّكالِ المطلَقِ على العنايةِ الإلهيّةِ."

ثمّ تحدّث البروفيسور أنطوان الحكيم فقال:

"لم يكن موقف البطريرك الحويّك، في سعيه لإنشاء دولة لبنان الكبير، منبثقًا من تصوّر شخصيّ  للأمور، بل كان يعتبر لسان حال القسم الأكبر من اللّبنانيّين الّذين، ابتداءً من العام 1840، أيّ بعد سقوط حكم الأمير بشير الشّهابيّ الثّاني، شرعوا يفكّرون جدّيًّا بمستقبل بلادهم، آخذين في الاعتبار التّقلّبات الّتي عرفتها آنذاك الدّولة العثمانيّة المتهاوية الّتي، على الرّغم من محاولات الإصلاح المعروفة بالتّنظيمات، لم تستطع الصّمود في وجه التّوغّل الاقتصاديّ والثّقافيّ الأوروبيّ داخل أراضيها، ولا في وجه الهجمة الاستعماريّة على ولاياتها الأفريقيّة الشّماليّة، ولا في وجه الحركات القوميّة التّحرّريّة الّتي أشعلت بلدان البلقان وأرمينيا والولايات العربيّة.  

إنّ المساحة القزميّة الّتي أعطيت للمتصرّفيّة في بروتوكول 1861-1864 حمل اللّبنانيّين، وعلى رأسهم البطريركيّة المارونيّة، على المطالبة بتوسيع حدود بلادهم وبالدّفع بها شرقًا نحو البقاع فالسّلسلة الشّرقيّة، وغربًا نحو المتوسّط، عبر إلحاق المدن– المرافىء السّاحليّة بالجبل.

كانت فرنسا تعتبر المرجعيّة الأولى لكلّ ما له علاقة بالشّأن اللّبنانيّ، وكان سفيرها في إسطنبول يفاوض الباب العالي، باسم الدّول الموّقعة على البروتوكول، لاختيار المتصرّفين ولإدخال تعديلات على النّظام اللّبنانيّ. لكن العثمانيّون امتعضوا من هذه الهيمنة الفرنسيّة، وزاد من امتعاضهم بعض التّظاهرات الّتي كانت تجري في الجبل وبعض التّصاريح المؤيّدة لفرنسا الّتي كانت تصدر في مناسبات شتّى، وبعض الزّيارات الّتي كان يقوم بها قباطنة السّفن الفرنسيّة إلى بكركي. في ربيع 1913 مثلاً زار الأسطول الفرنسيّ السّواحل السّوريّة- اللّبنانيّة وتوقّفت ثلاث قطع منه في خليج جونية، ثمّ نزل الأتراك مع بعض ضبّاطه إلى اليابسة وتوجّهوا إلى بكركي لزيارة البطريرك الياس الحويّك. اهتمّت الأوساط العثمانيّة بهذه الزّيارة وحملتها أبعادًا سياسيّة لم تكن في الحسبان.

إنّ المجاعة الّتي فتكت بسكّان الجبل، خلال الحرب العالميّة الأولى، شكّلت حافزًا للّبنانيّين الّذين نجوا من الموت ليواصلوا نضالهم من أجل توسيع الحدود. إنّ الحصاد التّموينيّ الّذي فرضه جمال باشا على المتصرّفيّة والّذي قضى على ثلث سكّانها جوعًا، زاد من قناعاتهم بأنّ بلدهم، بحدود 1861، غير قابل للحياة، وبأنّه يتوجّب عليهم السّعي إلى كسر الطّوق الضّيّق الّذي فرضه العثمانيّون وإلى إلحاق سهل البقاع والمرافىء السّاحليّة بالجبل.

في مراسلات مكماهون- الحسين، اسثنى المفوّض البريطانيّ، في جوابه على مذكّرة الحسين الثّانية في تشرين الأوّل 1915، السّاحل اللّبنانيّ– السّوريّ، مع متصرّفيّة الجبل من المنطقة الّتي سيحكمها الحسين. وفي اتّفاق سايكس بيكو في أيّار 1916، قرّرت الدّولتان الموقّعتان عليه، وضع هذا السّاحل حتّى حدود فلسطين مع المتصرّفيّة اللّبنانيّة وسهل البقاع وكيليكيا تحت الإدارة الفرنسيّة المباشرة.

نذكّر أيضًا أنّ مجلس إدارة المتصرّفيّة كان مجلسًا طائفيًّا تمثلّت فيه الطّوائف اللّبنانيّة السّتّ الكبرى، أيّ الموارنة والأرثوذكس والرّوم الكاثوليك والسّنّة والشّيعة والدّروز. شكّل هذ المجلس، منذ أن تأسّس في العام 1861، رأس الحربة بالنّسبة إلى مطالب اللّبنانيّين، واستمرّ يناضل للأهداف نفسهاـ حتّى بعد سقوط الدّولة العثمانيّة وانسحابها من بلادنا في 30 أيلول 1918، وكان ينسّق مواقفه مع البطريرك المارونيّ، وإنّ الوفود اللّبنانيّة إلى مؤتمر الصّلح قامت بالمهمّات الّتي أوكلت إليها بموجب قرارات صادرة عن المجلس.

إنّ ما عرضناه حتّى الآن يظهر أنّ البطريرك الحويّك ذهب إلى باريس مفوّضًا من قبل مجلس الإدارة وحاملاً عبء هذا المسار الاستقلاليّ المتعثّر الّذي يعود تاريخه إلى منتصف القرن التّاسع عشر وعبء هذه المطالب المتراكمة الّتي صاغها الشّعب اللّبنانيّ وممثّلوه في مجلس الإدارة بمشاركة قسم كبير من سكّان المناطق المطلوب ضمّها إلى المتصرّفيّة، وقد عبّر هؤلاء عن رغائبهم في العرائض الّتي قدّموها إلى لجنة كينغ-كراين. إنّ رئيس هذه اللّجنة كان على صواب عندما اعتبر أنّ الحويّك يمثّل "آمة بكاملها".

كان لمذكّرة البطريرك الحويّك المارونيّ وللاتّصالات الّتي قام بها بمسؤولين سياسيّين وكنسيّين فرنسيّين وغير فرنسيّين وزن كبير في دعم خيار لبنان الكبير الّذي من أجله قصد الوفد اللّبنانيّ باريس. بدا للمراقبين آنذاك أنّ الحويّك قد أطلق بقوّة مشروعه ودعمه في ذلك الأساقفة المرافقون وعلى رأسهم المطران مغبغب الّذي قدّم بدوره إلى مؤتمر الصّلح مذكّرة باسم طائفة الرّوم الكاثوليك طالب فيها بضمّ الأقضية البقاعيّة الأربعة إلى لبنان، كما ودعمه مؤيّدو لبنان الكبير من المغتربين الّذين أطلقوا حملة صحفيّة لهذه الغاية وأرسلوا عشرات المذكّرات إلى الدّول الكبرى وإلى مؤتمر الصّلح.

لم يرتكب الحوّيك أيَّ خطأ لأنّه لم يكن يسعى في الأساس إلى إنشاء وطن مسيحيّ صرف، بل وطن لجميع أبنائه، شرط أن يعيش فيه المسيحيّون أحرارًا، متساوين مع غير المسيحيّين، نابذين عنهم عقدة الذّميّة. هذا هو لبنان الّذي أراده الحويّك بلد ذو حدود واسعة يمتلك سهولاً ومرافىء وأنهرًا لكي يستطيع أن يؤمّن لأبنائه مقوّمات الحياة، بلد ملجأ للأقلّيّات المضطهدة، يتمتّع فيه الجميع بالحرّيّة والمساواة".

وإختتمت النّدوة بكلمة الخوري عبده أبو كسم فقال:

"اليوم الأنظار متّجهة إلى كيفيّة مواجهة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والصّحّيّة النّاتجة عن اهتراء مكوّنات الدّولة اللّبنانيّة، من جرّاء الفساد المستشري على كافّة المستويات، حيث جعلوا منها أيّ من الدّولة، "بقرة حلّوب، واليوم لمّا وعقت كترو سلاخيها."

ونسمع اليوم من كانوا شركاء في الحكم يتراشقون التّهم، ويلقون باللّوم على بعضهم البعض، ويفتحون الملفّات والمدعّمة بالمستندات ونحن ننتظر من القضاء التّحّرك ومحاسبة كلّ الفاسدين مهما علا شأنهم.

أمّا واقع الحال فنحن أمام بلد يئنّ تحت وطأة 35 بالمئة من البطالة، وفوق 50 بالمئة من حالات الفقر، فهناك أكثر من نصف اللّبنانيّين لا يستطيعون تأمين الخبز والتّعليم والاستشفاء وكأنّه لم يكفنا هذه المصائب فجاءنا ما يسمّى بالـ"كورونا". فالمطلوب اليوم الوقوف إلى جانب شعبنا وأن نستشعر بالقلق والخوف الّذي يهدّد مستقبلهم ووجودهم".

ورأى "المطلوب اليوم مزيد من التّضامن بين الكنيسة وأبنائها مزيد من التّعاضد، فالكنيسة ليست دولة، لكنّها أمّ. والأمّ تُشعر أبناءها بالطّمأنينة والحنان وهي تعطي من ذاتها."

وقال: "التّاريخ يعيد ذاته، وما أشبه اليوم بالأمس البعيد أيّ منذ 100 سنة فالجوع  يدقّ الأبواب والمرض يهدّد الشّعب اللّبنانيّ وها هم اللّبنانيّون يحاصرون بين الجوع والوباء في حين أنّ الدّولة مترهّلة كي لا نقول إنّها تنظر بعينيها، لكنّها صمّاء.

وما يطلبه اليوم اللّبنانيّون هو تحمّل الدّولة لمسؤوليّاتها من خلال مكافحة كلّ أشكال الجوع وتأمين الأمن الصّحّيّ والأمن الاجتماعيّ، وتحذّر من سرقوا أموال الدّولة من أن يمدّوا يديهم إلى جيوب النّاس ومدخّراتهم وجنى عمرهم.

ما يطلبه اللّبنانيّون اليوم محاسبة الفاسدين: نسمع بإخبارات كثيرة، وادّعاءات عديدة ولكن لم نسمع أنّ القضاء، حاسب أحدًا، مع أنّ الفاسدين معروفين بالإسم.

ثورة الجياع بدأت وسوف تكون أشدّ بؤسًا من سابقاتها ومن له أذنان صاغيتان فليسمع ونردّد مع سيّدنا يسوع "من له إذنان صاغيتان فليسمع".