لبنان
06 حزيران 2022, 05:00

ليونار ملكي وتوما صالح طوباويّان جديدان من لبنان، فكيف كانت أجواء قدّاس التّطويب؟

تيلي لوميار/ نورسات
في احتفال مهيب، احتفلت الكنيسة في لبنان بإعلان الشّهيدين ليونار ملكي وتوما صالح من رهبنة الإخوة الأصاغر الكبّوشيّين طوباويّين، خلال قدّاس إلهيّ ترأّسه عميد مجمع دعاوى القدّيسين الكاردينال مارتشيلو سيميرارو مساء السّبت في الباحة الخارجيّة لدير الصّليب- جلّ الدّيب، بمشاركة السّفير البابويّ المونسنيور جوزف سبيتيري، والرّئيس العامّ للرّهبنة الكبّوشيّة في العالم روبرتو جنوين، والنّائب الرّسوليّ لطائفة اللّاتين المطران سيزار إسايان، والأمين العامّ لمجمع الأساقفة الكاردينال ماريو غريك، وبحضور البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، وبطريرك السّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان، وممثّلين عن رؤساء الطّوائف المسيحيّة، ولفيف من المطارنة والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات للرّهبانيّات والكهنة والرّهبان والرّاهبات، وحشد من المؤمنين من مختلف المناطق اللّبنانيّة؛ فيما خدمت القدّاس جوقة سيّدة اللّويزة بقيادة الأب خليل رحمة.

هذا وحضر القدّاس ممثّلون عن الرّئاسات اللّبنانيّة الثّلاثة، وفعاليّات سياسيّة وعسكريّة ورسميّة وحزبيّة وروحيّة.

وفي بداية القدّاس تلا المطران سيزار إسايان الرّسالة الرّسوليّة الّتي تضمّنت مرسوم إعلان التّطويب الّذي وقّعه البابا فرنسيس في 18 نيسان/ إبريل وجاء فيها: "نحن، تلبية لرغبة أخينا سيزار إسايان أسقف ماريوتس الفخريّ، النّائب الرّسوليّ على بيروت وإخوة كثيرين والعديد من المؤمنين، بعد أخذ مشورة مجمع دعاوى القدّيسين، بسلطتنا الرّسوليّة، نسلّم أنّ خادمي الله الكريمين ليونار ملكي وتوما صالح، الشّهيدين، الكاهنين المعترف بهما من رهبنة الإخوة الأصاغر الكبّوشيّين، الرّسولين البطلين لإنجيل يسوع حتّى سفك دمائهما، أن يدعيا من الآن وصاعدا طوباويّين، على أن يحتفل بعيدهما في الأماكن ووفقًا للقواعد الّتي يحدّدها القانون، في العاشر من حزيران من كلّ عام".

هذا وكانت عظة للكاردينال سيميرارو، قال فيها: "إن عطش أحد فليقبل إليّ" (يو 7، 37). إنّها كلمات يسوع الأولى الّتي سمعناها من إعلان بالإنجيل المقدّس وهي كافية بالفعل لكي تُشركنا وتعزّينا. هو يقول: "فليُقبل إليَّ!" ولكن لمن يقول ذلك؟ للصّالحين؟ لمن هم بدون خطيئة؟ لمن يحافظ على الشّرع الكنسيّ وكذلك شريعة الله؟ لا! إن يسوع يقول ببساطة: إن عطش أحد! هذا هو الشّخص الّذي يتوجّه إليه يسوع!

إنَّ الشّعور بالعطش يعني أشياء كثيرة. يتحدّث الإنجيل، على سبيل المثال، عن "العطش إلى العدالة" وهذا عطش يشعر به الإنسان جدًّا على الدّوام. واليوم أيضًا وفي أجزاء كثيرة من العالم، لا يزال الظّلم يجرح البشريّة ويسبّب آلامًا كبيرة. في التّطويبات، يمدح يسوع هذا العطش، ولكن- كما يشرح البابا فرنسيس- من الضّروريّ أن نفهم أنّ العدالة الّتي يتحدّث عنها يبدأ تحقيقها في حياة كلّ فرد عندما يكون المرء عادلاً في قراراته، ويعبِّر من ثمَّ عن ذلك في السّعي لتحقيق العدالة للفقراء والضّعفاء والعُزَّل وهذه هي القداسة. أمّا في لغتنا البشريّة، فكلمة عطش تعني أيضًا شيئًا آخر. فهي تعبّر على سبيل المثال عن الرّغبة. لقد ولدنا جميعًا من رغبة: رغبة الله بالطّبع، وهذا هو سبب امتلاء كلّ فردٍ منّا بالرّغبات وفي جميعها يمكننا أن نرى تاريخنا: أفراح وأحزان، نجاحات وإخفاقات، آمال وخيبات... ومع ذلك، نحتاج دائمًا إلى تمييز هذه الرّغبات، لأنّه لا أحد منّا يتّسم بالشّفافيّة تجاه نفسه لدرجة أن يعرف أين يقيم قلبه. لذلك يدعو يسوع: أقبل إليّ! يعلّق القدّيس توما الأكوينيّ قائلاً إنّه يقول ذلك " in impletione desideriorum" أيّ لتحقيق كلّ رغبة صالحة. ولكي يساعدنا على فهم هذا كلَّه، أوضح الإنجيليّ أنّ يسوع قال ذلك عن الرّوح القدس. لذلك، في هذا السّياق، نودّ هذا المساء أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار صورة الرّاهبين الكبّوشيّين اللّبنانيّين، الأب ليونار ملكي والأب توما صالح، اللّذين طوِّبا الآن كشهيدين.

من هم الشّهداء؟ للإجابة على هذا السّؤال، اعتبر القدّيس أمبروسيوس الكنيسة الّتي، في كلِّ مرّة تعلن فيها موت مخلّصها (وهذا ما نفعله عندما نحتفل بالإفخارستيّا المقدّسة)، تنال جرح حبّ. ثمّ يشرح قائلاً: "لا يمكن للجميع أن يقولوا إنّهم قد جُرحوا بهذا الحبّ، ولكن يمكن للشّهداء أن يقولوا ذلك لأنّهم جُرحوا بسبب المسيح، ولأنّه قد أُعطي لهم أن يُجرحوا بسبب اسمه، فهم يحبّونه أكثر". لنتأمّل الآن إذًا في الحياة الأرضيّة لطوباويَّينا. هما ضحيّتين على الصّعيد البشريّ، ضحيّتا موجة الكراهيّة الّتي اجتازت مرارًا وتكرارًا نهاية الإمبراطوريّة العثمانيّة وتشابكت مع الأحداث المأساويّة لاضطهاد الشّعب الأرمنيّ بأكمله وضدّ الإيمان المسيحيّ. في الواقع، عندما اختار طوباويّانا أن يذهبا في رسالة، كانت تلك السّنوات بالتّحديد. ورواية الأحداث الّتي أدّت إلى استشهادهما قد سمعناه في بداية الاحتفال. لذلك سأوجزها بإيجاز. في كانون الأوّل ديسمبر عام 1914، بينما لجأ جميع الكبّوشيّين الآخرين إلى مكان أكثر أمانًا، اختار الطّوباويّ ليونار أن يبقى في دير ماردين لمواصلة رعاية أخٍ مسنّ. وفي الخامس من حزيران يونيو عام 1915، تمّ اعتقال الطّوباويّ ليونار وتعرّض بعد ذلك للعنف والتّعذيب إلى أن قُتل مع رفاقه رجمًا ثم طُعِن بخنجر وسيف. أمّا الطّوباويّ توما، فقد تمَّ استقباله في كانون الأوّل ديسمبر عام 1914، مع إخوة آخرين له في دير أورفة. وإذ قُبِض عليه مع الإخوة الآخرين، سُجن في سجون مختلفة وخضع للعديد من مسيرات الموت وعذابات رهيبة لكي يجحد بإيمانه. ولكن على الرّغم من ذلك، فإنّ هدوءه وقوّته يتوارثان في الكنيسة اللّبنانيّة.

إذا قُلتُ إنّهما ضحيّتين على الصّعيد البشريّ، ولكنّهما فائزين في منظار الإيمان المسيحيّ. ولكن ما هي القوّة الّتي نتحدّث عنها؟ هي بالتّأكيد ليست إرادة السّلطة، الّتي تحكم غرائز المراوغة والسّيطرة، والّتي نشهدها بشكل مؤلم على جميع المستويات الشّخصيّة والجماعيّة والاجتماعيّة. لا! نحن نتحدّث بالأحرى عن موهبة القوّة الرّوحيّة، والّتي يشار إليها في العقيدة الكاثوليكيّة على أنّها الفضيلة الأساسيّة الثّالثة؛ أيّ إحدى الفضائل الّتي تشكّل أساسات الحياة الفاضلة. لذلك، لا يتعلّق الأمر باستخدام قوّة العضلات، وإنّما الشّغف للحقيقة والمحبّة للخير وصولاً إلى نكران الذّات والتّضحية بالحياة. وبالتّالي فإنّ رسالة الكنيسة هي أيضًا أن تشهد لهذه القوّة. كتب البابا الفخريّ بندكتس السّادس عشر في الرّسالة العامّة "بالرّجاء مخلَّصون" أنّ في تجارب الحياة ومحنها الخطيرة، لاسيّما عندما يتعيّن علينا أن نتّخذ قرارنا النّهائيّ لوضع الحقيقة قبل الرّفاهيّة، والوظيفة، والامتلاك، واليقين للرّجاء الحقيقيّ الكبير، عندها بالتّحديد نكون "بحاجةٍ لشهودٍ ولشهداء بذلوا ذواتهم بشكل كامل، لكي يُرشدونا إلى الطّريق يومًا بعد يوم. نحنُ بحاجةٍ إليهم لكي نُفضِّلَ حتّى في أصغر أمورِ حياتنا اليوميّة، الخيرَ على الرّاحة، عالمين أنّنا هكذا نعيشُ الحياةَ بشكل حقيقيّ". وهناك سؤال آخر: من يعطي الشّهيد الشّجاعة ليكون شاهدًا؟ الرّوح القدس هو الّذي يعطي الشّجاعة. هذا هو الجواب. وقد سمعناه من القدّيس بولس الرّسول: "إنّ الرّوح أيضًا يأتي لنجدة ضعفنا". يخبرنا الآباء القدامى أنّ الشّهداء هم مثل الرّياضيّين الّذين وإذ تحرّروا من الملابس الّتي تمنعهم من السّباق، يركضون إلى الملعب يحرّكهم الرّوح القدس، لكي يفوزوا بإكليل النّصر.

لنصلِّ إذًا بهذه الكلمات المستعارة من القدّيس غريغوريوس النّاريكيّ: "إنّ الشّهداء الطّوباويّين، الّذين جُعلوا كاملين بآلامهم، هم يرقصون الآن سُعداء في وليمة لا تنتهي. بشفاعتهم وصلواتهم الّتي ترضي عينيك لأنّها ملوّنة بتقدمة دمائهم، اقبلنا نحن أيضًا يا ربّ، واحفظنا راسخين وثابتين بك لكي نبلغ إلى الخلاص الأبديّ. آمين"."

وفي الختام، شكر الرّئيس العامّ لرهبنة الأصاغر الكبّوشيّة عبدالله النّفيلي كلّ من حضر وشارك وعمل لإنجاح قدّاس التّطويب.