لبنان
03 نيسان 2018, 05:50

لبنان يصلّي على نيّة فرنسا في الفصح

ترأس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قبل ظهر أمس، قدّاس اثنين الفصح على نيّة فرنسا في كنيسة الصّرح البطريركيّ في بكركي، بحضور السّفير الفرنسيّ برونو فوشيه وأعضاء الهيئة الدّبلوماسيّة وأركان السّفارة الفرنسيّة في لبنان.

 

وألقى البطريرك الرّاعي بعد نصّ الإنجيل عظة قال فيها: "لم يعد هنا... لقد قام".

 

"1- هذه الكلمات الّتي قالها الملاكان للنّسوة المندهشات، تنتشر في العالم حتّى يومنا هذا، وسط ضبابيّة الحياة. إنّه الحيّ الّذي قام من الموت: "لماذا تبحثن عن الحيّ بين الأموات "(لوقا25:5). ابن الله مخلّصنا لم يعد في القبر لأنّه لا يمكنه أن يبقى سجين الموت كما يقول بطرس في كلمته يوم العنصرة، والقبر لا يمكنه أن يحتجز الحيّ (أعمال الرّسل 1:18) الّذي هو مصدر الحياة. إليه نوجّه أنظارنا لفهم معنى الحياة والتّاريخ لكي ينيرنا وينير الإنسانيّة جمعاء بشخصه وبكلمته.

 

2-  نحن سعداء جدًّا بالاحتفال معكم سعادة السّفير ومع معاونيكم بهذا القدّاس الإلهيّ على نيّة فرنسا ورئيسها والشّعب الفرنسيّ النّبيل. نحن نصلّي من أجل ازدهار واستقرار بلدكم ولكي يتمكّن الرّئيس ماكرون من تحقيق رؤيته الواسعة الّتي عبّر عنها في كتابه الثّورة، من أجل فرنسا الّتي يريدها الشّعب، من أجل مستقبلها، وقدرتها على التّحكّم بمصيرها وتعليم أولادها. نصلّي أيضًا من أجل أوروبا الّتي وضعت فرنسا في قلبها. نحن نصلّي على نيّة ضحايا الإرهاب وبخاصّة الّذين سقطوا أخيرًا في كاركاسون مع الضّابط الفرنسيّ أرمان بلترام. نعبر عن تعازينا الحارّة لعائلاتهم ونتمنّى الشّفاء العاجل للجرحى.

 

3-إنّ قيامة المسيح هي الحدث المؤثّر والحاضر دائمًا في تاريخ الإنسانيّة. إنّها السّرّ الأساسيّ للإيمان المسيحيّ. لأنّ المسيح حيّ بيننا. ومن الآن وصاعدًا اسمه هو الحيّ والموت لا يملك عليه أيّ سلطان كما كتب القدّيس بولس. يلجأ إليه كلّ من تعرّض لتجارب الخيبة واليأس وعنده يجدون الأمل الّذي لا يخيب أبدًا.  أفكّر تحديدًا بكلّ المظلومين، المهجّرين واللّاجئين الّذين هربوا من ويلات الحرب في العراق، سوريا، في الأرض المقدّسة واليمن وبلدان أخرى. كما أفكّر بالأشخاص المهدّدين بالظّاهرة اللّاإنسانيّة والمنتشرة بكلّ أسف وهي الإرهاب. نتضرّع إلى الله أن ينير قلوب البشر في التزامهم ضدّ تلك الآفة. ندعو إلى أن تتوحّد جهود المجتمع الدّوليّ وجهود المسؤولين نحو الحلّ السّياسيّ للصّراعات، وقف الحروب وتأمين السّلام العادل والشّامل والدّائم.

 

3-  لم يعد هنا. لا يمكنه أن يكون في القبر. لقد مشى على طرقات البشر، أكمل طريقه إلى القبر كما كلّ البشر ولكنّه غلب الموت وبفعل حبّ نقيّ فتح طريق السّماء واسعًا أمام كلّ كائن بشريّ. إنّه بالنّسبة لكلّ إنسان الطّريق والحقّ والحياة. وبفضل سرّ العماد فإنّ قيامته تصبح قيامة لقلوبنا لحياة جديدة. إنّه العطيّة الكبرى لعيد الفصح. فلنشكر الآب والإبن والرّوح القدس آمين.

بعد القدّاس، رحّب البطريرك الرّاعي بالحضور على مائدة الغداء وألقى كلمة بالمناسبة قال فيها: "سعادة السّفير، باسم الأسرة البطريركيّة نتقدّم منكم بأحرّ التّعازي لما تعرّضت له فرنسا من اعتداء إرهابيّ أصاب  Carcassonne  وTrebes فيAude، ومن خلالكم نوجّه تعازينا للشّعب الفرنسيّ وللرّئيس إيمانويل ماكرون كذلك للعائلات ولأقارب ضحايا هذا العمل البغيض. نحن نحيي العمل البطوليّ الّذي قام به الكولونيل Arnaud Beltrame   الّذي سلّم نفسه للخاطفين في مقابل إتمام عمليّة تحرير الرّهائن.

 

إنّ الإرهاب الّذي يمسّكم في العمق ما هو إلّا جرح وقتنا الرّاهن، فنحن نمشي جنبًا إلى جنب معه في منطقة الشّرق الأوسط بأكملها وهذا جرح من بين الجراح الكثيرة الّتي تستنزف الشّعوب من حولنا.

 

2-  لطالما جسد لقاؤنا معًا تقليدًا سنويًّا عريقًا، حيث نحتفل بذبيحة اثنين الفصح على نيّة فرنسا وشعبها العظيم الصّديق والدّاعم لموارنة لبنان منذ مئات السّنين. أودّ في هذه المناسبة شكر فخامة الرّئيس إيمانويل ماكرون على كلّ ما يقوم به من أجل لبنان، وهو دائمًا على الخطى التّاريخيّة المشرفة لإسلافه. نحن نقدّم له تمنّياتنا الحارّة لكي تنجح مسيرته الشّجاعة في ما يتعلّق بالإصلاح العميق لفرنسا ورؤيته لأوروبا أكثر وحدة وحضورًا، ونحن نرافقه في صلواتنا. إنّ تعزيز فرنسا هو مصلحة حيويّة لشعبينا، وأن تكون فرنسا قويّة وملتزمة في العالم فهذا أمر يفيد لبنان وينقذه.

 

3- عنف الحروب، التّدخّل المسلّح للقوى الإقليميّة والدّوليّة، الحقد الطّائفيّ والنّزوح المكره للشّعوب باتّجاه البلدان المجاورة وباتّجاه أوروبا، يذكّرنا بخوف بمرحلة تداعي السّلطنة العثمانيّة، الّتي امتدّت من منتصف القرن الرّابع عشر لغاية مؤتمر لوزان سنة 1923، هذه الحقبة الطّويلة الّتي وصفها الدّيبلوماسيّ والمستكشف النّروجيّ الشّهير Nansen في كلمته لمناسبة افتتاح مؤتمر لوزان في كانون الثّاني من العام 1922 بـ"انفصال الشّعوب"، وهي لم تتوقف في الشّرق بل تكرّرت مع الشّعب الفلسطينيّ في العام 1947، في قبرص في العام 1964، في لبنان منذ العام 1975 لغاية العام 1990 واليوم في العراق كما في سوريا.

أذكر هنا وبكلّ فخر وعلى الرّغم من كلّ الصّعوبات الّتي ظهرت من يومها، إنّ فرنسا والبطريركيّة المارونيّة اتّخذتا موقفًا مغايرًا في العام 1920 تمثّل بتطبيق العيش المشترك المتوازن والحرّ للجماعات وذلك بإنشاء دولة لبنان الكبير.

سعادة السّفير،

 

4- مرّة جديدة نحن نتّكل على دعم فرنسا للتّنسيق معنا لتجنّب أن يتحوّل لبنان مركزًا للأزمة والمواجهة بين إسرائيل وإيران، وأن لا ينهار اقتصاده ونظامه السّياسيّ تحت وطأة الأعباء المتراكمة  منذ سنة 1990 والّتي تضخّمت نتيجة للأزمات الإقليميّة المتعدّدة، وتدفّق النّازحين الّذين بلغ عددهم نحو مليون و700 ألف نسمة. كلّ هذا أوجد لبنان على مفترق طرق قد يقودنا أمًّا إلى الخلاص إذا كنّا نتمتّع بدعم دوليّ وصحوة ضمير عميقة لقياديينا أمّا نتجّه صوب أزمة أكثر صعوبة نتيجة نقص المسؤوليّة عند معظم السّياسيّين والقادة.

 

5-  ان وضعنا الاقتصاديّ صعب جدًّا والوضع الماليّ مقلق. منذ عشرات السّنين، أدّى التّنظيم الماليّ والضّريبيّ إلى دين مستشر لتمويل القطاع العامّ، أضف إلى ذلك عبء النّازحين السّوريّين واللّاجئين الفلسطينيّين الّذي يفوق قدرة لبنان وتزيد من فقر شعبه.

6-  نوجّه تحيّة للجهود المتواصلة لفخامة رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة لجهة تصويب الوضع الوطنيّ والتّقدّم الملحوظ  في إطار إحياء المؤسّسات الحكوميّة. ونأمل أن تكون الانتخابات البرلمانيّة في 6 أيّار المقبل رافعة أساسيّة لإخراج لبنان من أزمة حادّة لا بل خطيرة لبقائه.

 

كما نحيّي أيضًا جهود فرنسا والدّول الصّديقة الّتي تنظّم وتشارك في مؤتمرات روما، باريس وبروكسل لإنقاذ استقرار لبنان لكونه يشكّل عنصر استقرار في المنطقة. ونحن نقدّر مطلبهم الملحّ أن ينأى لبنان بنفسه عن الصّراعات الإقليميّة وأن يطبّق فورًا الإصلاحات. إنّ التّجربة منذ العام 1991 تظهر وللأسف أنّ الطّبقة السّياسيّة تفتقد في غالب الأحيان إلى الإرادة أو القدرة على تطبيق إصلاحات ضروريّة وواضحة. ومن أجل إنقاذ لبنان لا يجب أن تزيد المساعدات من دينه العامّ لذلك نحن بحاجة لمرافقة دوليّة للبدء بإصلاح جدّيّ ترافقه متابعة دقيقة وفعالة كما حصل في اليونان. ونريد أن تكون هذه المرافقة إنقاذيّة على المدى الطّويل تمامًا كتلك المتابعة الأوروبيّة في تركيا منذ التّسعينيّات وهذا ما ساهم بشكل كبير في النّجاح الاقتصاديّ والصّناعيّ والتّجاريّ في هذه الدّولة.

 

وبهذه الطّريقة يمكن لأصدقاء لبنان وفي مقدّمتهم فرنسا مساعدة وطننا ليسلك الطّريق الصّحيح انطلاقًا من مفترق الطّرق الّذي هو موجود عليه.

 

7-  أمّا بالنّسبة لنا فنحن سنواكب جهود أصدقائنا الدّوليّين مستفيدين من الانتخابات ومن الشّرعيّة الشّعبيّة للبرلمان الجديد لتذكير القياديّين الجدد بضرورة معالجة الملفّ الاقتصاديّ وملف الدّين العامّ سنشجّعهم للاتّفاق على قواعد جديدة وعلى أداء سياسيّ ضروريّ لإعادة بناء الدّولة.

 

سعادة السّفير،

 

8- نحن ندرك حجم تطلّعاتنا وما نحتاجه من فرنسا الصّديقة الحاضرة دائمًا من أجل لبنان في أيّ وقت مع معرفتنا جيّدًا أنّ لبنان هو البلد الوحيد الّذي يتعايش فيه المسلمون والمسيحيّون بسلام ويتشاركون الحكم والقيادة، إنّه البلد الوحيد في الشّرق الأوسط الّذي كان ولا يزال منارة وحاملاً للفرنكوفونيّة وللثّقافة الفرنسيّة الرّائعة التّي يساهم في نشرها في منطقة الشّرق الأوسط".

 

بدوره شكر السّفير الفرنسيّ البطريرك والأسرة البطريركيّة على "حفاوة الاستقبال"، معبّرًا عن سعادته "للمشاركة في هذا التّقليد العريق وفي الصّلوات الّتي رفعت على نيّة فرنسا"، وقال: "إنّه تقليد يؤكّد على متانة العلاقة الّتي تربط فرنسا بالجماعة المارونيّة في لبنان. في هذا اليوم تتجّه أفكاري ناحية الشّعوب المسيحيّة في الشّرق الأوسط وتحديدًا تجاه الشّعوب والجماعات الّتي تواجه اليوم ومنذ وقت طويل مأساة دراماتيكيّة مخيفة ومتكرّرة من اضطهادات لأقلّيّات وتطرّف دينيّ وحروب أخويّة أو إقليميّة ونزوح شعوب وعنف عشوائيّ. ندرك قلقكم يا صاحب الغبطة، ونشارككم إيّاه، نحن من ضرب العنف أرضنا من جديد. وأودّ أن أوجّه تحيّة تكريم وتقدير للكولونيل Beltrame  الّذي قدّم حياته لإنقاذ حياة شخص آخر في الاعتداء الإرهابيّ الّذي أصاب فرنسا في 23 آذار الماضي. تضحيته لم تكن تضحية عسكريّ أتمّ مهمّته ببطولة وحسب وإنّما هي بذل للذّات من أجل الآخر."

 

أضاف: "اليوم تلتزم فرنسا على كلّ الجبهات للمساهمة في إمكانيّة تثبيت مستقبل مسالم في المنطقة، لقد حاربت داعش في العراق وسوريا وهي تعمل اليوم لإيجاد حلول سياسيّة موثوقة وقابلة للتّطبيق. كما أنّها  تدعو أيضًا لإحياء اتّفاقيّة السّلام وإنشاء دولة فلسطين تعيش بسلام وأمان إلى جانب إسرائيل. وتعمل أيضًا لكي يتمكّن الجميع من التّعايش بهدف الحفاظ على التّعدّديّة وتنوّع المعتقدات والأفكار، والحياة المشتركة الّتي هي غنى لبلدان المنطقة وللبنان بشكل خاصّ."

 

ثم شكر السّفير  لبنان وشعبه على كرمهم في استضافة النّازحين السّوريّين، لافتًا إلى "إدراك فرنسا للتّحدّي الكبير النّاتج عن هذا الأمر إن لناحية التّوازن السّياسيّ الضّعيف أو لناحية الهيكليّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبنان الّذي يرزح تحت ثقل هذا العدد من النّازحين".

 

وأضاف: "غبطة البطريرك، على الرّغم من الأزمات الّتي يواجهها لبنان فإن الدّيناميّة السّياسيّة الّتي التزم بها لبنان تعطي المزيد من الآمال. نحن نثمن تنظيم الانتخابات النّيابيّة الّتي ستتمّ في أيّار المقبل في لبنان وهي تشكّل علامة إيجابيّة جديدة في عمليّة إعادة الأمور إلى طبيعتها الّتي بدأت مع انتخاب الرّئيس ميشال عون نتيجة اتّفاق موسّع للقوى السّياسيّة في البلد تبعته عمليّة تعيين رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة ثم إقرار قانون انتخابيّ جديد. نحن نستمرّ في دعم لبنان في الهيئات الدّوليّة، وعلى الصّعيد الأمنيّ نعزّز تعاوننا مع الجيش اللّبنانيّ والقوى الأمنيّة، وفي مؤتمر روما التزمت فرنسا بفتح خط اعتماد بقيمة 400 مليون يورو للمساهمة في تجهيز القوى اللّبنانيّة المسلّحة.  في 6 نيسان سينعقد مؤتمر سيدر بدعوة من الرّئيس إيمانويل ماكرون ومن أهدافه مرافقة الدّولة اللّبنانيّة للبدء بإصلاحات جادّة تهدف إلى تشجيع الاستثمارات العامّة والخاصّة."

 

وختم السّفير الفرنسيّ: "يسرّنا تعميق التّعاون الفرنكوفونيّ على الصّعيدين الثّقافيّ واللّغويّ في الوقت الّذي تلتزم فيه فرنسا باستراتيجيّة طموحة لنشر الفرنكوفونيّة في العالم أجمع. وفي لبنان كنيستكم وجماعتكم يمثّلون المدافع الغيور في هذا الإطار فالآلاف من التّلامذة الّتي تستقبلهم مدارسكم وجامعاتكم يتعلّمون الفرنسيّة ونحن مصمّمون على متابعة هذا العمل المشترك معكم."