كيف شرح الرّاعي دستور الحياة المسيحيّة؟
"هو الرّبّ يسوع، المعلّم الإلهيّ، يعلن في أوّل تعليمٍ للجموع، إنجيل التّطويبات، كدستورٍ للحياة المسيحيّة قائمٌ على ثلاثة: الفضائل الشّخصيّة، والرّسالة في المجتمع، والموقف حيال الصّعوبات. وهي تشكّل الثّقافة المسيحيّة الّتي تعلّمها ثانويّة القلبَين الأقدسَين، هنا في مدينة الحدث العزيزة، بالإضافة إلى جودة التّعليم منذ مئة سنة.
يسعدني أن أحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، في مناسبة يوبيل مئة عامّ على تأسيس هذه الثّانويّة. ويطيب لي أن أحيّي فخامة رئيس الجمهوريّة وأشكره على إفادة معالي وزير الدّفاع الياس بو صعب لحضوره هذا الاحتفال المهيب، الّذي نحمّله تحيّاتنا وصلاتنا إلى فخامته وهو الحريص على تربية أجيالنا الجديدة وتعزيز قيمها الإنسانيّة والرّوحيّة والأخلاقيّة والوطنيّة، وأحيّي حضرة الرّئيسة العامّة الأُمّ دانييلّا حرّوق، وأشكرها على كلمة التّرحيب اللّطيفة في بداية هذا القدّاس الإلهيّ. كما أحيّي مديرة الثّانويّة الأخت سعاد خرّاط ورئيسة الدّير وجمهور الرّاهبات، والأسّرة التّربويّة، إدارةً وهيئةً تعليميّةً وأهالي وطلّابًا. إنّا، إذ نهنّئكم بيوبيل المئة سنة للتّأسيس، نسأل الله، بشفاعة القدّيس فرنسيس كسفاريوس شفيع الثّانويّة، أن يفيض عليكم من قلبَي يسوع ومريم نِعم محبّته ورحمته وحنانه.
مئة سنةٍ وراهبات القلبين الأقدسين يتعهّدن تعليمَ أجيالنا الطّالعة وتربيتهم، في هذه الثّانويّة الّتي كانت تتطوّر وتكبر مع السّنين وفقًا لحاجات المنطقة. فلبَّين بذلك طلب أهالي الحدث العزيزة، بروحانيّة القدّيس فرنسيس كسفاريوس الرّساليّة، صامداتٍ بوجه كلّ الأحداث الصّعبة، القريبة والبعيدة، وما خلّفت من أضرار في مبانيها وطلّابها وأهاليها، بثبات الإيمان وقوّة الرّجاء وعزيمة الرّسالة.
مئة سنة وراهبات القلبين مع الأسرة التّعليميّة تواصلن تعليم الرّبّ يسوع على الجبل. فبالإضافة إلى التّعليم العلميّ بمستواه الرّفيع، بحسب تقاليد ومنهج وخبرة مدارس القلبَين، قد اعتنَين عنايةً خاصّةً بتربية شخصيّة الطّالب الّذي أُوكِل إلى هذه الثّانويّة، ليكون محطّ آمال والديه، وعضوًا فاعلًا في المجتمع، ومؤمنًا ملتزمًا في الكنيسة، ومواطنًا مخلصًا في الدّولة. هذه التّربية تتأصّل في دستور الحياة المسيحيّة الّذي أعلنه الرّبّ يسوع في إنجيل التّطويبات المعروف بعظة الجبل. هذا الدّستور قائمٌ على ثلاث ركائز: الفضائل الشّخصيّة، والرّسالة في المجتمع، والموقف تجاه صعوبات الحياة. وكلّ ركيزة تحمل ثلاثة أبعاد (راجع متى5، 1-12).
فالفضائل الشّخصيّة هي روحُ التّجرّد المقرون بالتّواضع الّذي يغنينا بنعم الله: "طوبى للمساكين بالرّوح، فإنّ لهم ملكوت السّماوات" (الآية 3)؛ والوداعةُ الظّاهرة في اللّطف والبساطة في الإيمان والصّبر على تحمّل الإساءة، لأنّها تغني بالقيم الإنسانيّة: "طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض" (الآية 5)؛ ونقاوةُ القلب الّتي هي الاغتناء بالفضيلة والعيش في التّعقّل والتّقوى، إنّها فضيلة ترينا الله: "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله" (الآية 8).
أمّا الرّسالة المسيحيّة في المجتمع فهي:
الجوع والعطش إلى صنع الخير وبالتّالي إلى الله. إنّه "الجوع" إلى الخبز النّازل من السّماء، و"العطش" إلى الماء الحيّ أي الرّوح القدس. نصلّي في المزمور: "إلى الإله الحيّ عطشت نفسي، فمتى آتي وأرى وجه الله؟" (مز2:42). هذا الجوع إلى البرّ يُشبع نفس الإنسان وقلبه: "طوبى للجياع والعطاش الى البرّ، فإنّهم سيُشبعون" (الآية 6).
الرّحمة وهي المشاعر الإنسانيّة الّتي تتحنّن وتساعد بأفعال محبّة تجاه أيّ محتاج مادّيًّا أو روحيًّا أو معنويًّا. وهي مغفرة الإساءة، تشبّهًا بالله الغنيّ بالرّحمة. إنّها الشّرط لنحظى برحمة الله: "طوبى للرّحماء فإنّهم سيُرحمون" (الآية 7).
صنع السّلام. الّذي هو أوّلًا إقتناء السّلام في داخل القلب ويعطيه المسيح، لأنّه هو سلامُنا (أفسس 14:2)، الّذي لا يعطيه العالم (يو27:14). بفضل هذا السّلام الدّاخليّ، نستطيع أن نبني السّلام الخارجيّ في العائلة والمجتمع والدّولة. إنّه سلام يتجنّب الشّرّ والشّقاق والنّزاع، ويسيطر على كلّ ما هو سيّئ، ويجعلنا أبناء الله وبناته: "طوبى لصانعي السّلام، فإنّهم أبناء الله يدعون" (الآية 9).
أخيرًا الموقف تجاه صعوبات الحياة الّذي يأتي كثمرة للفضائل الشّخصيّة وللقيام بالرّسالة في المجتمع. وهو موقف مثلَّث:
الحزن: وهو مرتبطٌ بشريعة المرض والألم والموت من جهّةٍ، وعزاؤه يأتي من النّعمة الإلهيّة الّتي تساعد وتقوّي وتعزّي. هذه الآلام تكتسب قيمةً خلاصيّةً لأنّ فيها تتواصل آلام المسيح لفداء العالم. والحزن من جهّةٍ أخرى هو الحزن على ما في العالم من خطايا وشرور. فبولس الرّسول بكى على كثيرين من الّذين خطئوا من قبل، ولم يندموا على ما ارتكبوه من خطايا وشرور (راجع 2 كور21:12). يسوع نفسه بكى على أورشليم، لأنّها لم تعرف ساعة افتقادها. عزاء هذا الحزن يأتي عندما يتوقّف ارتكاب الشّرّ: "طوبى للحزانى، فإنّهم يُعزَّون" (الآية 4)..
الإضّطهاد من أجل الحقّ. إنّه الاضّطهاد بسبب الإيمان بالمسيح، وبسبب السّعي إلى الخير بوجه الشّرّ، والعدالة بوجه الظّلم، والحقيقة بوجه الكذب، والسّلام بوجه النّزاع. إكليل هذا الاضّطهاد، هو التّنعّم في ملكوت السّماء: "طوبى للمضّطهَدين من أجل البرّ، فإنّ لهم ملكوت السّماوات" (الآية 10).
التّعيير الكاذب من أجل المسيح. يقتضي الصّبر، وهو نوع آخر من الاضّطهاد، الّذي ليس دائمًا بالعلن والمباشر، وقد يكون بتكذيب الشّهادة المسيحيّة وعدم قبول تعليم الكنيسة، وبانتقاده، وبعدم التّقيّد به، أو بكلام السّوء في اللّقاءات الخاصّة. أمام هذا الاضّطهاد يدعونا الرّبّ يسوع لنتشبّه بالأنبياء الّذين شهدوا لكلام الله بشجاعة وجرأة، ولنفرح ونبتهج لأنّ إكليل المجد محفوظٌ لنا في السّماء (الآيتان 11 و 12).
دستور الحياة المسيحيّة هذا موجّهٌ إلى كلّ إنسان عامّة وإلى كلّ مسيحيّ خاصّة، لكي يتقيّد به كروح ينعشه في حياته وأعماله ونشاطاته، وكثقافة ينشرها على المستوى الاجتماعيّ والوطنيّ، فيعيش فرح الإنجيل والانتماء إلى الدّين المسيحيّ. ونرجو أن يكون هذا الدّستور الرّوحيّ مدرسةً للجماعة السّياسيّة إلى جانب الدّستور اللّبنانيّ. ففيما الدّستور الوطنيّ يشكّل الطّريق لبناء الدّولة وإحياء مؤسّساتها العامّة، فإنّ الدّستور الرّوحيّ يغني الجماعة السّياسيّة والسّلطة بالقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ، ويعطي نكهة لنشاطها. أليس صاحب السّلطة بحاجة إلى التّجرّد والوداعة ونقاوة القلب، لكي يكون مؤهّلًا كأرض طيّبة لقبول ما يُلقى عليه من مسؤوليّة، فيعطي ثمارًا وفيرة؟ وهل من رسالة أسمى من السّعي الدّؤوب إلى توفير الخير العامّ، والرّحمة تجاه حاجات الشّعب إلى تأمين حقوقه الأساسيّة لعيشٍ كريم، وحاجات المظّلومين إلى عدالة تنصفهم؟ وإحلال السّلام القائم على الحقيقة والمحبّة والعدالة والحرّيّة، وإطفاء كلّ نزاع، والعمل على حلّ النّزاعات بالمصالحة؟ وكيف تستطيع السّلطة العامّة القيام بواجباتها الدّستوريّة والقانونيّة، إذا لم تتّصف بتحمّل الألم المعنويّ بصبرٍ والاضّطهاد والتّشهير الكاذب والرّفض؟ فكما أنّ الجسد من دون روحٍ ميتٌ، كذلك الحياة السّياسيّة ميّتةٌ من دون دستورٍ روحيٍّ أعلنه إنجيل التّطويبات.
إنّ المدرسة الكاثوليكيّة، وعلى الأخصّ ثانويّة القلبَين الأقدسَين في الحدث الّتي تجمعنا في يوبيل مئة سنةٍ على تأسيسها، مدعوّةٌ لتعلِّم دستور الحياة المسيحيّة إلى جانب جودة العلوم والمعرفة. فتنال هذه نكهةً وروحًا ومعنًى. فكلّ شيء في حياة الدّنيا، وفي طليعته سرّ الإنسان، يبقى لغزًا، ما لم يستنر بنور الكلمة الإلهيّ الّذي صار بشرًا (الدّستور الرّاعوي: الكنيسة في عالم اليوم، 22 ؛ يو14:1).
نصلّي في هذا اليوبيل من أجل هذه الثّانويّة، راهباتٍ وإدارة، وهيّئةً تعليميّة، وطلّابًا وأهلاً وموظَّفين، ملتمسين لهم فيض النّعم الإلهيّة والإزدهار الدّائم. ونصلّي من أجل رهبانيّة قلبَي يسوع ومريم السّاعية دائمًا إلى كمال المحبّة على خطى المسيح منذ مئةٍ وستّين سنة، من أجل رئيستها العامّة ومجلسها وسائر الرّاهبات والمؤسّسات التّابعة لها، لكي تظلّ محبّتهنّ للمسيح وللكنيسة بكلّ أبنائها وبناتها، بقلبَي يسوع ومريم، ونلتمس لها دوام النّموّ بدعواتٍ مقدَّسة. ونصلّي من أجل مدينة الحدث بمسؤوليها وشعبها، مع شكري من كلّ القلب للاستقبال الشّعبيّ الّذي نظّمه مشكورًا رئيس بلديّتها ومجلسه سائلاً الله أن يفيض عليكم جميعًا نعمه وبركاته. نصلّي من أجل المسؤولين عندنا وعلى رأسهم فخامة رئيس الجمهوريّة لكي يقود البلاد إلى ميناء خلاصه. وليتمجّد دائمًا الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".