كنيسة جديدة لمريم العذراء في بصرما- الكورة
خلال القدّاس، ألقى المطران بو جودة عظة قال فيها بحسب "الوكالة الوطنيّة للإعلام": "يطيب لي أن أدشّن معكم وأكرّس هذا المزار التّاريخيّ المبنيّ على اسم السّيّدة العذراء سيّدة البرّيّة، بعد أن قام بترميمه حضرة الأب باخوس طنّوس رئيس دير سيّدة النّجاة في بصرما، والمعروف أنّ هذا المزار موجود في منطقة يعيش فيها المسيحيّون والمسلمون بجوّ من التّوافق والحوار والتّعاون نظرًا لما يكنّه المسلمون للسّيّدة العذراء.
تتمّ هذه الذّبيحة الإلهيّة ونحن على مشارف الاحتفال بعيد انتقال السّيّدة العذراء مريم بالنّفس والجسد إلى السّماء.
يعتبر هذا العيد قمّة الأعياد المريميّة، إن من ناحية احتفالنا بمناسبات من حياتها على الأرض أو من ناحية تكريمنا لها كأمّ لابن الله المتجسّد، يسوع المسيح. لأنّ لهذا العيد، كما لسائر أعيادها، أبعاد بشريّة عاطفيّة وأبعاد لاهوتيّة روحيّة.
إنّ تكريمنا للعذراء وتطويبنا لها لا يقوم فقط على الأمور العاطفيّة المادّيّة بل يتعدّاها إلى البعد اللّاهوتّي. فالمسيح، عندما رفعت امرأة من الجمع صوتها، وهو يعلّم، لتقول له طوبى للبطن الّذي حملك وللثّديين اللّذين رضعتهما، لم يتوقف عند الأمومة الجسديّة لأمّه، بل تعدّاها للتّركيز على الأمومة الرّوحيّة لكون حياة أمّه مريم على الأرض كانت باستمرار حياة إصغاء لكلام الرّبّ وعمل بمقتضاه.
ولكي نفهم المعنى الحقيقيّ لهذه الأمومة علينا أن نعود إلى الكتاب المقدّس، في عهديه القديم والجديد وبصورة خاصّة إلى سفر التّكوين في العهد القديم وإلى إنجيل لوقا في العهد الجديد.
في سفر التّكوين، عندما يروي لنا الكاتب رواية الخلق، يقول لنا الكاتب إنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، ونفخ فيه روحه. ذكرًا وأنثى خلقهما، إذ أخذ ضلعًا من آدم وجعله امرأة فقال هذا الأخير: هذه هي لحم من لحمي وعظم من عظامي هذه تسمّى امرأة، لأنّها من امرئ أخذت.
لكن آدم وحوّاء استسلما لإرادة الشّيطان المجرّب، المتمثّل بالحيّة، الّذي أغراهما بقوله لهما إنّهما إذا أكلا من ثمر شجرة معرفة الخير والشّرّ، يصبحان كآلهة ويصبح بإمكانهما الحصول على السّعادة بإمكانيّاتهما الخاصّة والاستغناء عن الله. لكنّهما بفعلهما هذا حكما على نفسهما بالهلاك، فاكتشفا عريهما ومحدوديّتهما، وسمعا الرّبّ يذكّرهما أنّهما من التّراب أخذا وإلى التّراب يعودان.
الله الّذي هو محبّة، وبمحبّة خلق الإنسان، لم يرد أن يتركه فريسة بين أيدي الشّيطان، بل وعده بمخلّص يعيد إليه الحياة، ويكون مولودًا من امرأة إذ قال للحيّة الشّيطان: "أجعل عداوة بينك وبين المرأة، بين نسلك ونسلها، أنت ترصدين عقبها وهو يسحق رأسك".
وفي ملء الزّمان، كما يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل غلاطية، أرسل الله ابنه الوحيد مولودًا من امرأة، إذ أن نسل المرأة سوف يكون يسوع المسيح، المخلّص، وهو آدم الثّاني، والمرأة سوف تكون مريم العذراء، حوّاء الثّانية. وهكذا كما خلق آدم وحوّاء بريئين من الخطيئة، أرسل ابنه يسوع الّذي لم يكن فيه خطيئة. وخلق مريم بريئة من الخطيئة كي تستطيع، كحوّاء الأولى، أن تتمتّع بالحرّيّة التّامّة.
وعلى عكس حوّاء الأولى الّتي استعملت هذه الحرّيّة لرفض الله، تستعمل حوّاء الثّانية، مريم هذه الحرّيّة، لتعمل إرادة الرّبّ، وتقول للملاك عندما بشّرها بأنّها ستكون أمًّا للمخلّص: "ها أنذا أمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك".
هنا نصل إلى الإنجيل بحسب القدّيس لوقا الّذي يروي لنا حادثة البشارة. فنجد أنّ بين هذا النّصّ، وسفر التّكوين، أوجه شبه عديدة. ففي كلي النّصّين عندنا امرأة: حوّاء ومريم. وفي كليهما مرسل: من الشّيطان، في سفر التّكوين هو الحيّة، ومن الله في الإنجيل، هو الملاك جبرائيل وفي كلي النّصّين حوار بين المرسل والمرأة: في سفر التّكوين يقول الشّيطان لآدم وحوّاء إنّهما إذا خالفا إرادة الرّبّ، لن يموتا، بل يصبحان كآلهة ولن يعود لله سلطان عليهما.
في الإنجيل يقول الملاك لمريم عكس ذلك تمامًا: إنّ كلّ شيء مستطاع عند الله وإنّها هي ستكون أمًّا للعمّانوئيل الّذي معناه الله معنا، وهو يسوع المسيح.
وأخيرا في كلي النّصّين موقف تأخذه المرأة: إستسلام لإرادة الشّيطان الّذي نتيجته الموت، في سفر التّكوين. وعمل بإرادة الرّبّ في الإنجيل، ونتيجته العودة إلى الحياة والفردوس، في الإنجيل.
هذا ما يساعدنا على فهم العقائد المريميّة الّتي تؤمن بها الكنيسة، ويفسّر لنا سبب تكريمها للعذراء بهذه الصّورة المميّزة. فالعذراء هي حوّاء الثّانية الّتي بواسطتها جاء الخلاص إلى الإنسان. فكلمة حوّاء تعني أمّ الحياة، وقد جعلت حوّاء الأولى من نفسها، بمخالفتها للرّبّ، أمًّا للموت، بينما جعلت مريم من نفسها، بعملها بإرادة الرّبّ، أمًّا لمن هو الحياة، يسوع المسيح.
وهكذا عندما تعلّم الكنيسة أنّ مريم هي بريئة من الخطيئة الأصليّة وقد حبل بها بلا دنس، فإنّها تعود في تعليمها هذا إلى الكتب المقدّسة.
وعندما تعلّم أنّ العذراء انتقلت بالنّفس والجسد إلى السّماء، وهو العيد الّذي نحتفل به اليوم، فإنّها تعلّمنا بأنّ يسوع المسيح، آدم الثّاني، الّذي انتصر على الموت بالقيامة، ووطئ الموت بالموت كي يعيد الحياة للّذين في القبور، هو الّذي يعيد الإنسان إلى الفردوس، بمشاركة أمّه مريم العذراء، وكما صعد هو إلى السّماء بعد قيامته، هكذا أخذ أمّه معه إلى السّماء بعد رقادها، عربونًا عن انتقالنا نحن أيضًا بعد الموت، وعند القيامة الأخيرة.
عقيدة الحبل بمريم بلا دنس، وعقيدة انتقالها إلى السّماء بالنّفس والجسد عقيدتان مرتبطتان ببعضهما. ذلك أنّ الله الّذي خلق مريم بريئة من الخطيئة الأصليّة لتتمتّع بالحرّيّة التّامّة، لم يرد أن يرى جسدها فسادًا فنقلها إليه بالنّفس والجسد. وبإمكاننا القول إنّه بذلك وكأنّه يخلق البشريّة من جديد، ويعيد إليها صورته الّتي فقدتها وشوّهتها عندما قرّرت الابتعاد عنه ورفضه.
وقد آمنت الكنيسة بهاتين العقيدتين منذ البدء، لكنّها لم تحدّدهما كعقيدتين إيمانيّتين إلّا عندما بدأ البعض يشكّكون بهما تحت تأثير تيّارات فكريّة وفلسفيّة ملحدة، على أثر ما سمّي عصر الأنوار، أيّ القرن الثّامن عشر في أوروبا، فاضطرّ البابا الطّوباويّ بيوس التّاسع إلى إعلان عقيدة الحبل بمريم بلا دنس في الثّامن من كانون الأوّل سنة 1854، والبابا بيوس الثّاني عشر إلى إعلان عقيدة الانتقال في الخامس عشر من آب سنة 1950.
إنّ مريم هي مثال وقدوة لنا، أيّها الأحبّاء، فإذا كان الله قد ميّزها بهذه الصّورة، فإنّه من خلالها يميّزنا نحن كأبناء لها. وإذا كان قد نقّاها من الخطيئة فلأنّه يريد أن ينقّينا نحن أيضًا منها بواسطة الأسرار لنستحقّ مثلها أن نشاركه مجده الأبديّ. لكن ذلك يفرض علينا اتّخاذ موقف واع وحرّ، أيّ أن نعمل إرادته ونرفض أن نستسلم لإرادة الشّيطان المجرّب.
وإنّنا إذا ما قمنا بمراجعة حياة وفحص ضمير، وجدنا أنّ كلّ واحد منّا اسمه آدم وحوّاء الأوّلان، وبإمكانه أن يكون آدم وحوّاء الثّانيين.
فإنّنا عند ارتكابنا الخطيئة ومخالفتنا لإرادة الله ووصاياه نتصرّف كأبوينا الأوّلين ونحكم على نفسنا بالهلاك. وعندما نندم ونتوب على فعلتنا فإنّ الله، على مثال الآب في مثل الإبن الشّاطر يفتح لنا قلبه وذراعيه ويستقبلنا من جديد في بيته الأبويّ، ويقول: "إبني هذا كان مائتًا فعاش وضالّاً فوجد".
وقد عبّر بولس الرّسول عن هذين الموقفين في رسالته إلى أهل روما حين قال: "ما أتعسني من إنسان، فالخير الّذي أريده لا أعمله، والشّرّ الّذي لا أريده إيّاه أعمل. فمن يخلّصني من جسد الموت هذا؟ المجد ليسوع المسيح الّذي بواسطته نلت الخلاص.
إنّنا نعيش هذا التّجاذب والصّراع في حياتنا اليوميّة، عندما نتعرّض للتّجربة ونستسلم لها، مع أنّنا نقول بأنّنا نؤمن بما يعلّمنا إيّاه المسيح والكنيسة، نظرًا لضعفنا البشريّ. فلذلك نحن مدعوّون باستمرار إلى أن نكون في حالة إصغاء إلى كلام الرّبّ، والعمل بمقتضاه، على مثال العذراء مريم والقدّيسين، فلا يكون إيماننا بالله بالكلام واللّسان، بل بالعمل والحقّ، أيّ بأن نعيش متطلّبات إيماننا المسيحيّ، ونتقيّد بتعاليم وإرشادات الكنيسة بصورة فعليّة وعمليّة. فإيماننا المسيحيّ ليس أفكارًا ونظريّات فكريّة مجرّدة ولا هو إيديولوجيّة، بل هو حياة عمليّة. على مثال المسيح الّذي أحبّنا ببذل ذاته عنّا على الصّليب. وهو بذلك يوصينا ويقول لنا: من أراد أن يكون لي تلميذًا عليه أن يحمل صليبه ويتبعني، ويضيف أن ّوصيّته لنا هي أن نحبّ بعضنا بعضًا كما هو أحبّنا.
فلنجعل من احتفالنا بهذا العيد مناسبة للاقتداء بالمسيح والعيش حسب وصاياه، والاقتداء بمريم، أيّ بسماع كلمة الله والعمل بها حتّى نستحقّ الطّوبى الحقيقيّة الّتي استحقّتها من ابنها، وننتقل معها إلى السّماء بعد نهاية حياتنا على هذه الأرض.
إنّنا نصلّي اليوم، أيّها الأحبّاء، ونطلب من الرّبّ أن ينير قلوبنا وقلوب جميع المسؤولين السّياسيّين في هذه البلاد كي يصغوا إلى كلام الرّبّ ويعملوا ما هو لمصلحة لبنان في هذه الظّروف الصّعبة والقاسية وفي سبيل مصلحة المسيحيّين في هذا الشّرق المتعذّب، الّذين يتعرّضون للمضايقات والاضطهادات والتّهجير، كي يعود إلينا السّلام ونستطيع أن نكون شهودًا حقيقيّين للإيمان بالتّعاون مع بعضنا البعض، مسيحيّين ومسلمين، فنعود ونجعل من لبنان، كما قال عنه البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني رسالة للشّرق والغرب وللعالم أجمع".
تبع القدّاس رسيتال دينيّ في دير سيّدة النّجاة- بصرما أحيته جوقة قاديشا، وعشاء قرويّ.