سوريا
14 كانون الأول 2023, 07:15

كلمة المطران غريغوريوس الخوري خلال احتفال تنصيبه على أبرشيّة حمص وتوابعها للرّوم الأرثوذكس

تيلي لوميار/ نورسات
بعبارات مفعمة بالرّجاء والفرح والإيمان، ألقى متروبوليت أبرشيّة حمص وتوابعها للرّوم الأرثوذكس غريغوريوس الخوري كلمة خلال تنصيبه في كاتدرائيّة الأربعين شهيدًا في حمص، قال فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"تأمّلت طويلاً فيما كنت أخطُّ هذه السّطور، كيف للكلمات وحدَها أن تحمِلَ ما يجتاحُني! وكيف لها أن تبوحَ بخفقِ الرّوح! فلطالما آمنت أنَّ الأفعالَ أبلغُ وأشدُّ تأثيرًا من هدير الكلمات، لا بل هي الطّريقُ إلى كلمةٍ فاعلةٍ مثمرة. ولكن إذ أنا متشوقٌ أن أخطَّ الدّربَ معكم، لي أن أتفوّهَ نحوكم ببِضعِ كلماتٍ آملاً أن ترسُمَ جسرَ عبورٍ يصلُ القلبَ إلى القلبِ وأبعد.

أستهلُّ كلمتي بالشّكرِ والحمدِ للهِ مَنْ يفيضُ نِعمَهُ علينا غزيرةً، والّذي ينتدبني اليومَ بروحِه القدّوس وبواسطةِ آباءِ المجمع الأنطاكيّ المقدّس لهذهِ الخدمةِ الجليلةِ المقدّسة، لك يا ربُّ يليقُ كلُّ شكرٍ وإكرامٍ وسجود.  

كما أشكُر صاحبَ الغبطة وآباء المجمع الأنطاكيّ المقدّس على الثّقةِ الّتي وضعوها في شخصي المتواضع بانتخابهم إيّاي لرعايةِ هذه الأبرشيّةِ المحروسة بالله، وأرجو أن أظهرَ بصلواتِهم خادمًا وراعيًا أمينًاً على قلبِ الله.

إنّ اجتماعنا اليومَ في هذه الكنيسةِ المقدّسةِ وتحت سقفٍ واحدٍ من مختلفِ الأطيافِ والمشارب، ما هو إلّا صورةٌ مصغّرةٌ عن حقيقةِ وطنٍ واحدٍ كنّا وما زلنا وسنبقى نعيشُ تحت سقفِهِ مسلمين ومسيحيّين، ونسيرُ فيه معًا إلى مصيرٍ واحدٍ ترسُمُه إرادتُنا الحرّة، وطنٍ قويٍّ صامدٍ يتَّسع ليضُمَّ إليه الجميع، إذا ما تنزَّهت تلك الإرادة عن المصالحِ الضّيّقة.  نعم هذه صورةٌ عن حقيقةِ وطنٍ اسمُه سوريّة، سورية الجريحة والعظيمة في آن؛

سورية الجريحة بسبب النّزوح والتّشريد والحصار الاقتصاديّ وفقدان الأحبّة، بسبب هجرة أبنائها، وبسبب ما يتبع هذا من جروح نفسيّة وأزماتٍ اقتصاديّة واجتماعيّة...

ولكنهّا أيضًا ما زالت وستبقى سورية العظيمة، عظيمةً بأبنائها، عظيمةً بإرادتِهم وتصميمِهم وقدرتِهم دومًا على النّهوض من بعد محنة، برؤيتِهم المتفائلةِ والتّوّاقةِ لعبور الحاضر والامتداد نحو المستقبل برجاء لا يموت، عظيمةً بكم أنتم.

فسورية كانت وما زالت وستبقى ولّادةَ رجالٍ يبنون حضاراتٍ ويُنهضون وطنًا.

نحن مؤمنون بسورية الشّعبِ الأبيّ، الشّهمِ والكريم النّفس، وفخورون بوحدة جيشنا ونثمّن تضحياتِه الجسيمةَ في سبيل استقرار وحماية الوطن، كما واثقون بقيادةٍ حكيمة للسّيّد الرّئيس الدّكتور بشّار الأسد.  

وإذ نحن مقيمون في الرّجاء، وثابتون في الإيمان، ومنغمسون في المحبّة للقريب وللوطن حتّى المنتهى، فسورية لا بدَّ باقيةٌ وطنًا عزيزًا وشامخًا يُعِزُّ أبناءَهُ ويعتزُّ ويفْخرُ بهم.

قدّيسون وأبرارٌ ولدوا ومرّوا في حمص وعطّروا تاريخها بعبق الفضيلة والمآثر والقيم، فتركوا لنا أمثلةً ونماذج حيّةً أصيلةً في اقتناءِ الفرحِ ومواجهةِ الألمِ والصّعوبات، لنا أن نتعلّم منها ونقتدي بها. أولئك تركوا لنا وديعةَ الإيمانِ نحفظُها ونسلّمُها لمن يأتي بعدَنا، فامتدادُ الكنيسةِ في الزّمنِ ليس عبورًا يفنى وإنّما حضورٌ يُحيي ويدوم، واليومَ إذ نحن واقفون هنا على أكتاف جميعِ الأبرارِ الّذين سبقوا وأخصبوا ترابَ حمصَ ثمارًا، لنا أن نأخذ الوديعة ونتاجر بها لنقدِّمَها ذبيحةً مقبولةً في هيكل الرّبّ هاتفين إليه: الّتي لك، وهي ممّا لك، نقدّمها لك.  

وإذ نختارُ معًا من دروبِ الحياة، ذاك الدّربَ ذاتَه الّذي سلَكَه أولئك الأبرارُ والقدّيسون، دربَ القداسةِ البهيّ، القداسةِ الّتي هي مرامُنا، نسعى لعيشِها الآن وهنا بين أحبّةٍ لنا سبيلاً لعيشِها مكتملةً في الدّهر الآتي، مسخِّرين كلَّ فرصةٍ لبلوغها. وفيما نجتازُ معًا هذا الدّربَ سنواجه صعوباتٍ وعقباتٍ ولربّما عثرات، أرجو أن نتّخذَها فُرَصًا ودرجاتٍ نرتقي بواسطتِها ونسمو من خلالِها بدلَ أن تكونَ لنا حجرَ عِثارٍ وتقهقر.

ولأنّنا على يقينٍ أنّه "إن لم يبنِ الرّبُّ البيتَ فباطلاً يتعبُ البنّاؤون"، سنلتمسُ الرّبَّ وكلمتَه دليلاً وموجِّهًا في كلّ المواقف والقرارات. لن نكونَ بدونِه أبدًا، فالبناءُ كلُّه قائمٌ عليه، هو الصّخرةُ وهو نفسُه الباني بنا وبواسطتنا بيوتًا، وفي داخلِنا بشرًا جُددًا متجدّدين على صورته.

فدعوتي اليوم، أن نمضيَ قُدُمًا بقوّةَ الرّوح، لأنَّ "من يضعُ يده على المحراث لا يلتفتُ إلى الوراء" مستلهمين كلماتِ بولسَ الرّسولِ: "إفرحوا كلَّ حين، صلّوا على الدّوام، اشكروا في كلِّ شيء، لأنَّ هذه هي مشيئةُ اللهِ في المسيح من جهتِكم" (1تسا 5: 17) نعم هذه هي مشيئةُ الله أن نفرحَ بالرُّغمِ من كلِّ شيء، وليسَ بسببٍ من شيء، أن نُبقيَ الصّلةَ دائمةً معه عالمين أنَّ في حضورِه ملءَ الفرحِ والسّلام

دعوتي، ونحن نتهيّأ لاستقبالِ الطّفلِ الإلهيّ أن نهدأ إلى خُلوةِ قلوبِنا لنُسَكِّن ضجيجَ أفكارِنا وعاصفَ انفعالاتِنا، وننفتحَ على عملِ الرّوحِ القدس فينا، حتّى إذا ما حوينا السّيّدَ ضابطًا لخلجاتِ النّفسِ ومالئًا لمفارقِ الرّوح، نَلِدَه في عالمٍ يحتاجُه بشدّة.  

لا أستطيعُ أن أنهيَ كلمتي دونَ أن أذكرَ إخوتي وأخواتي بناتي وأبنائي في معتمديّة الإمارات العربيّة المتّحدة، الّذين ائتمنني الرّبُّ الإله على خدمتِهم ورعايتِهم لأعوامٍ ثمانيةٍ مرّت كلمح البصر، عُدتُ منها محمَّلاً بثروةٍ لا تُقدّرُ بثمن هي محبتُهم الّتي سترافقُني كنزًا ثمينًا، أنتم باقون في صلاتي كما أرجو أنّني في صلاتكم أيضًا.

أشكركم جميعًا على حضورِكم وأخصّ الّذين حضروا من الإمارات والّذين حضروا من لبنان ومن كلّ المحافظات السّوريّة لمشاركتنا هذا الاحتفال.

أشكر جميع الّذين تعبوا وبذلوا وقدّموا لتنظيم وإنجاح هذا الاحتفال، أشكركم فردًا فردًا.

كما أشكر الإعلام المحلّيّ والمركز الأنطاكيّ الأرثوذكسيّ للإعلام وراديو صوت النّعمة وتلفزيون تيلي لوميار الّذين واكبوا الاحتفال وجعلوه متاحًا لإخوة لنا لم يتسنَّ لهم مشاركتنا حضوريًّا.

وأخيرًا وليس آخرًا،  

إلى من تعلّمت منه أبجديّةَ الحياة الرّوحيّة وما زلت أتعلّم وأنهل من مدرسته

إلى من تعلّمت منه أن دربَ القداسةِ هو سعيٌ دائمٌ للاكتمالِ في محبّة الله والقريب  

إلى من تعلّمت منه بالأعمالِ والأفعال، أنّ الرّعايةَ مسؤوليّة، والمسؤوليّةَ تضحية، والتّضحيةَ في مداها ارتفاعٌ طوعي إلى الصّليب

إلى الأب والمعلّم، لكم يا صاحب الغبطة أقدّم باسمي وباسم أبنائِكم في حمص أيقونة قدّيسي حمص الّذين عطّروا هذه المدينة وباركوها بوطء أقدامهم، وصدق محبّتهم، وحرارة صلاتهم، وقوّة شفاعاتهم، ليكونوا إلى جانبِكم شفعاءَ عاضدين تُصلّون معهم لأجلنا إكليروسًا وشعبًا محبًّا لله.

أختم مردّدًا ما تفوّه به القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ: "أطلب من ربِّ السّلام نفسِه أن يمسكَ بيدي اليمنى ويقودَني بمشورته ويقبَلَني بمجدِ راعي الرّعاة ومرشدِ المرشدين، فأتمكَّنَ من تغذيةِ قطيعه إيمانًا ومعرفةً... بحسبِ النّعمة..." آمين."