لبنان
16 آب 2018, 13:29

كلمة الرّاعي في ذكرى مرور 250 سنة على وفاة المطران السّمعانيّ

في إطار المؤتمر الثّقافيّ الذي نظّمته بلدة حصرون تحت عنوان "العلّامة السّمعانيّ علامة فارقة في تاريخ وحاضر الكبيسة" في ذكرى مرور 250 سنة على وفاة المطران يوسف سمعان السّمعانيّ، ألقى البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الرّاعي كلمة جاء فيها:

 

"المثلّث الرّحمة المطران يوسف سمعان السّمعانيّ شخصيّة تفوق العاديّين. فهو متفوّق بمواهبه العلميّة، وبإدارة المكتبة الفاتيكانيّة وبخدمة الكرسيّ الرّسوليّ، وبإعلاء شأن كنيستنا المارونيّة، وبمؤلّفاته.

 

متفوّق بمواهبه العلميّة

ولد في حصرون العزيزة في 27 تمّوز 1687، وتربّى على التّقوى والإيمان، بعناية عمّه المطران يوسف السّمعانيّ رئيس أساقفة طرابلس. وإذ وجد فيه النّباهة وروح التّقوى أرسله إلى روما وهو بعمر ثماني سنوات ليتنشّأ بالعلوم الكنسيّة في المعهد المارونيّ الذي أنشأه البابا غريغوريوس الثّالث عشر في 11 تموز 1584.

تفوّق في العلوم حتّى نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة واللّاهوت، واتّقن اللّغات العربيّة والسّريانيّة والكلدانيّة والعبريّة واليونانيّة واللّاتينيّة والإيطاليّة.

 

متفوّق في إدارة المكتبة الفاتيكانيّة

عندما همّ بالرّجوع إلى لبنان بعد تلك السّنوات الطّوال، استبقاه في روما البابا كليمنضوس الحادي عشر، وكلّفه تأليف فهرس المخطوطات الشّرقيّة التي أرسلها إلى المكتبة الفاتيكانيّة ابن عمّه المونسنيور الياس السّمعانيّ. فلبّى رغبة البابا بالشّكل الكامل، إذ وضع الفهرس وأغناه بالحواشي والشّروحات، حتى عيّنه الحبر الأعظم في سنة 1710، وهو بعمر 23 سنة مترجم اللّغات العربيّة والسّريانيّة والكلدانيّة في المكتبة الفاتيكانيّة. وفي السّنة نفسها عيّنه مستشارًا في المجمع الذي أنشأه لإعادة النّظر في الكتب اللّيتورجيّة الشّرقية وتصحيحها.

 

بعد خمس سنوات أُرسل إلى الشّرق للبحث عن مخطوطات قديمة. فجال في مصر وسوريا. وبفضل نسيبه البطريرك يعقوب بطرس عوّاد، تمكّن من جمع عدد كبير منها. ما مكّنه من تأليف كتابه الشّهير: "المكتبة الشّرقيّة - الكليمنتيّة – الفاتيكانيّة Bibliothèque Orientale – Clémentine – Vaticane. وفي سنة 1730 عيّنه البابا نفسه مديرًا ثانيًا للمكتبة الفاتيكانيّة، وبعد 3 سنوات أصبح المدير الوحيد. فامتدّت وظيفته على كلّ سنيّ حياته، وكان محلّقًا في العمل والتّنظيم والكتابة والنّشر.

 

متفوّق في خدمة الكرسيّ الرّسوليّ

تكريمًا لخدمته رفعه البابا كليمنضوس الثّاني عشر سنة 1730 إلى رتبة مونسنيور، مع الحقّ باستعمال الشّارات الحبريّة، وعيّنه بعد سبع سنوات أحد أحبار وكهنة بازيليك القدّيس بطرس القانونيّين. كما عيّنه مجمع نشر الإيمان مستشارًا لشؤون الكنائس الشّرقيّة، ولسبل المحافظة على الإيمان الكاثوليكيّ في الشّرق. وفوق ذلك أسند إليه الحبر الأعظم في سنة 1739 مهمّة مقرّر في هيئات التّوقيع الرّسوليّ. وقبلها عيّنه الملك شارل الرّابع، ملك الصّقليّتين، ومن ثمّ ملك إسبانيا، مؤرّخًا لمملكة نابولي في سنة 1737، وأعلنه مواطنًا فيها في السّنة التّالية.

 

أمّا البابا بندكتوس الرابع عشر فكان يستشيره مرارًا وسمّاه مستشارًا في مجمع محكمة التّفتيش التي أصبحت اليوم مجمع عقيدة الإيمان. وكان يقدّم في السّابق خدمات جلّى لهذه المحكمة. وعيّنه مقرّرًا في مجمع الكرادلة الذي ثبّت فيه انتخاب البطريرك سمعان بطرس عوّاد في 26 تشرين الثّاني 1742، والمجمع الثّاني الذي ثبّت فيه انتخاب البطريرك طوبيّا بطرس الخازن في 28 آذار 1757. وجاء البابا كليمنضوس الثّالث عشر ليعيّنه سنة 1759 مؤرّخًا لوثائق مجمع التّوبة، وبعد سنتين محاميًا للعدل فيه. ثمّ رقّاه في أوّل كانون الأوّل 1766 إلى الدرجة الأسقفيّة بلقب رئيس أساقفة صور شرفًا.

 

متفوّق في خدمة الكنيسة المارونيّة

إنّ وجوده بهذه المكانة في حضرة البابوات الأربعة: كليمنضوس الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر وبندكتوس الرّابع عشر الذين قدّروه وتعاونوا معه، وفي مجامع الكرسيّ الرّسوليّ والمكتبة الفاتيكانيّة، كان كافيًا ليُعلي شأن الكنيسة المارونيّة وجبل لبنان.

 

لكنّ الخدمة الأهمّ هي إعداد نصوص المجمع المارونيّ الشّهير المعروف" بالمجمع اللّبنانيّ" الذي انعقد في دير سيّدة اللّويزة سنة 1736، وكان فيه المونسنيور يوسف السّمعانيّ مندوب البابا كليمنضوس الثّاني عشر. وعُرف هذا المجمع حتّى يومنا ّ"بدستور الكنيسة المارونيّة"، لكونه يتضمّن جميع جوانب الكنيسة المارونيّة وقطاعاتها بأقسامه الأربعة: الإيمان الكاثوليكيّ؛ الأسرار؛ البطريرك والأساقفة والكهنة والشّمامسة؛ الكنائس والأديار والمدارس والأخويّات. لقد كتبه باللّغتين العربيّة واللّاتينيّة ما مكّن البابا بندكتوس الرّابع عشر من الموافقة عليه بصيغة خاصّة سنة 1741.

والخدمة الثّانية هي دوره في تثبيت قوانين رهبانيّة القدّيس أنطونيوس للسّريان الموارنة اللّبنانيّين ورسومها من قبل البابا كليمنضوس الثّاني عشر في كانون الأوّل سنة 1732. وكان المؤسّسون قد سمّوها "الرّهبانيّة اللبنانيّة" نسبةً إلى جبل لبنان. هذه انقسمت الى اثنتين سنة 1770: الرّهبانيّة الحلبيّة اللّبنانيّة (الرّهبانيّة المارونيّة المريميّة فيما بعد)، والرّهبانيّة البلديّة (اللّبنانيّة المارونيّة فيما بعد).

 

متفوّق في مؤلّفاته

لقد نشر المطران يوسف سمعان السّمعاني واحدًا وعشرين مؤلّفًا. أوّلهم "المكتبة الشّرقيّة - الكليمنتيّة – الفاتيكانيّة، بأربعة أجزاء، مطبوع في روما بين سنة 1719 -1730 ويتضمّن فهرس المخطوطات السّريانيّة والعربيّة واليونانيّة والكلدانيّة وسواها، وسيرة مؤلّفيها وتاريخ الكنائس الشّرقيّة. ثمّ أضاف عليها ثمانية أجزاء غير مطبوعة. من بين مؤلّفاته "كلّ كتابات القدّيس افرام السّريانيّ"، مترجمة باليونانيّة واللّاتينيّة، مع مقدّمات وفهارس، في ثلاثة أجزاء (1732-1747). ورسائل وشروح لقوانين ورسوم كلّ من رهبانيّة القدّيس أنطونيوس للموارنة اللّبنانيّين (1735)، ورهبانيّة مار أشعيا الأنطونيّة (1741)، ورهبان مار باسيليوس للرّوم الملكيّين الكاثوليك (1758)، والرّاهبات الباسيليّات (1764). ومن بين مؤلفاته "مكتبة الحقّ القانونيّ والكنسي ّالشرقيّ" بخمسة أجزاء (1762-1763). ونجد عظتي تأبين: واحدة للبابا بندكتوس الثّالث عشر ألقاها في بازيليك القدّيس بطرس (22 شباط 1732)، وواحدة لملك بولونيا Frédéric Auguste II   ألقاها في بازيليك القدّيس كليمنضوس بروما (22 أيار 1733)، وخطاب في انتخاب الحبر الرّومانيّ ألقاه في بازيليك القدّيس بطرس.

 

ندرك من كلّ هذا النّتاج الذي أغنى به الكنيسة على مدى الأجيال أنّ المطران يوسف سمعان السّمعانيّ رجل غير عاديّ، وبكلّ جدارة هو فخر الكنيسة المارونيّة ولبنان. إنه يستحقّ هذا التّكريم في ذكرى وفاته المئتيّ والخمسين. فهنيئًا لحصرون بابنها، وشكرًا لكلّ الذين نظّموا هذا الاحتفال، وآتانا الله بأمثال هذا الأسقف العظيم، وأحيا في الأجيال الطّالعة طموح السّير على خطى الآباء والأجداد العظام الذين أنجبتهم حصرون وهذه المنطقة المطلّة على الوادي المقدّس، والمستنشقة أريج بخور القداسة والعلم.

 

عشتم! وعاش لبنان!"