لبنان
23 كانون الأول 2016, 09:22

كلمة البطريرك الراعي في افتتاح السنة القضائية 2016

وجّه البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي كلمة في بداية السّنة القضائيّة في المحاكم الرّوحيّة، تحت عنوان "العمل الرّاعويّ والقضاء في خدمة الزّواج والعائلة"، قال فيها:

"أصحاب السيادة،

الآباء القضاة والموظّفين القضائيِّين

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء

 

1. يُسعدُني أن أستقبلَكم اليوم في عشيّة عيد ميلاد إبنِ الله مخلّصنا وفادينا، يسوع المسيح، وأن أقدّمَ لكم أخلصَ التّهاني والتّمنّيات بالعيد وبالسّنة الجديدة 2017، راجياً لكم ثمار الأعيادِ الميلاديّة، نِعَمًا وخيرات سماويّة، والنّجاح في خدمة  خلاص النّفوس من خلال خدمة الحقيقة والعدالة والإنصاف والمصالحة.

 

وإنّي أشكركم على حضورِكم ومعايدتِكم وعلى عاطفتِكم التي عبّرَ عنها الأباتي مارون نصر في الكلمة التي ألقاها باسمِكم، وتناول فيها موضوع المعونة القضائيّة الكاملة والجزئيّة. وسرَّني السّماع أنّ جدول الدّعاوى للعام 2015 يُبيِّنُ تقاضي رسوم كاملة على 242 دعوى، وإعفاءً كاملاً من رسوم 1333 دعوى لذوي الحاجة الكبيرة، وإعفاءً جزئيًّا من رسوم 41 دعوى لغير القادرين على الإيفاء الكامل، وهذا دليل على  محبّة كنيستنا وتحسّسها لحالة أبنائها. لكنّنا نُناشدُ المحامين والوكلاء أن يأتوا هم أيضًا بخطواتٍ مماثلة، شاكرينَ الذين يقومون بمبادرات من هذا النّوع.

 

 

الهمُّ المشترك موضوع كلمتنا

2. أودّ في هذه الكلمة أن اشاطرَكم الهمَّ الرّاعوي الكبير بشأن الزّواج والعائلة، فيما نحن نشهد تهافتًا خطيرًا ومخيفًا إلى محاكمنا للحصول على بطلان الزواج، وإلى إبدال المذهب أو الدِّين للحصول على الطّلاق، من دون أيّ اعتبار للسرّ المقدّس وللعهد الذي قطعَه الزّوجان بينهما ومع الله ومع أولادهما. إنّنا بحاجة ماسّة إلى راعويّة فاعلة ومعمَّقة للزواج والعائلة في الأبرشيّات والرّعايا، وإلى تأسيس وتفعيل مراكز الإعداد للزّواج، ومراكز الإصغاء والمواكبة للازواج المتعثّرين من أجل حلّ النّزاعات قبل تفاقمها. كما نحتاج إلى مساهمة قضاة المحكمة في تعزيز التّفاهم  الحبّي والمصالحة بين الزوجَين المتخاصمَين، وتجنّب الضّرر النّفسي والعاطفي الذي يصيب أولادهما الأبرياء.

 

ويشغلُ بالنا بالأكثر اللّجوء المتكاثر في معظم الدّعاوى إلى الأسباب النفسيّة المعروفة بعدم القدرة الطبيعيّة التي ينصّ عليها القانون 818 من مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، الأمر الذي يقتضي فهمًا أدقّ لمضمون هذا القانون، في ضوء التعليم والإجتهاد القضائي الرسميّ، وهو اجتهاد  محكمة الروتا الرومانيّة.

 

راعوية الزواج والعائلة

 

3. إنّ راعويّة الزواج والعائلة ليست محصورة برُعاة الكنيسة، من أساقفة أبرشيِّين وكهنة رعايا، بل هي من واجب المحكمة وقضاتها وموظّفيها القضائيِّين. لقد ذكّرنا الأباتي مارون نصر في كلمته أنّ الأسقف في أبرشيّته هو "أب وقاضٍ وطبيب"، كما جاءَ في الإرادة الرسوليّة للبابا فرنسيس "يسوع العطوف الرّحوم"، وأنّ بهذه الصفة المثلّثة يجب على القاضي أن يبتّ دعوى بطلان الزّواج وما يتلازم معها من دعاوى.

 

4. تقتضي هذه الراعويّة التّركيز على أنّ الزّواج المسيحي سرٌّ مقدّس، أصبحَ فيه الله حاضرًا بنعمته وعونه في حياة الزوجَين والعائلة. فهو يهديهما ويعزّيهما ويُشجّعهما ويُساعدهما على حلّ كلّ نزاع، ويُقدّس حبّهما وأعمالهما الزوجيّة والعائليّة. وقد ارتبطَ معهما في سرّ الزّواج كثالث. فتجب العودة إليه أوّلاً، بالصلاة والتوبة والإصغاء لِما يوحي، وبالتّالي إلى كاهن الرّعيّة ومطران الأبرشيّة ثمّ، بعد استشارة الأسقف، وعند الحاجة القصوى، اللّجوء إلى المحكمة.

 

والزّواج عهدٌ مثلَّث الأبعاد: الأوّل هو عهدٌ بين الزوجَين قوامه التزام الواحد بإسعاد الآخر، والإلتزام معًا بتكوين جماعة "حياة وحبّ". وقد قطعا هذا العهد أمام الله وشاهدَين رسميَّين وأمام الكنيسة. والثاني هو عهدٌ مع الأولاد ويعني إلتزام الزوجَين بواجب إنجاب الأولاد كشريكَين لله الخالق، وبواجب تربيتهم وتأمين خيرهم وسعادتهم، وتجنّب أي ضرر يُصيبُهم نفسًا وجسدًا. والثالث هو عهدٌ مع الله الداعي إلى الزواج، ومنظّمه بشرائع موحاة، وبشرائع الكنيسة المكلَّفة  من المسيح  الرّب بسنّها.

 

هذا الزّواج السّرّ والعهد مصانٌ بالعقد المكتمل بأركانه الثّلاثة: أهليّة الزّوجَين الخالية من أيّ مانعٍ مُبطل، ورضاهما المنزَّه عن أيّ عيبٍ يشوبُ العقل والإرادة،والصّيغة القانونيّة بكلّ  عناصرها: حضور شاهدَين، ورتبة مقدّسة، مع بركة كاهن ذي صلاحيّة.

 

5. بفضل راعويّة الزواج هذه، تستطيع الكنيسة مواجهة: موجات الجهل الديني، والذهنيّة الدنيويّة، والإباحيّة الهدَّامة، والبرامج الإعلاميّة المبتذِلة للحبّ والجنس وقدسيّة الحياة الزوجيّة، وتيّار النسبيّة بحيث يستنسب الشّخص كلّ ما يريد بمعزل عن الشريعة الإلهيّة وتعليم الكنيسة وشرائعها، والأنانية والموضة.

 

الدعاوى لأسباب نفسيّة

 

6. مخيفٌ عدد الأحكام المبطلة للزواج، وبمعظمها لعدم القدرة الطبيعيّة أي لأسباب نفسيّة، التي ينصّ عليها القانون 818، والتي تُعيب الرضى الزوجي في أحد عناصره الثلاثة:

 

أ- المعرفة السليمة الكافية للإدراك والتمييز في مفهوم الزواج والموجبات الزوجيّة.

 

ب- الإرادة الحرّة في الخيار والتقرير.

 

ج- الالتزام في تحمّل الحقوق والواجبات عبر الحياة الزوجيّة.

 

لا يكفي إثبات وجود أسباب نفسيّة لدى أحد الزوجَين أو كليهما، بواسطة خبراء اختصاصيِّين، بل يجب إظهار العلاقة بين الحالة المرضيّة والرضى الزوجي، عند انعقاد الزواج، وتقييم درجة شدّتها التي أفسدت أو عطّلت القدرة النفسيّة على منح رضى صحيح ساعة الانعقاد.

 

ثمّ يجب التمييز وعدم الخلط بين كينونة الزواج (être) وحسن كينونته (bien être)، بين عقده السليم وحسن مسيرته، وإلّا وقعنا في الطلاق الذي هو كسر زواج صحيح لأسباب طارئة، ولا نكون عندها في حالة النظر في إمكانية إعلان بطلانه من الأساس.

 

يجب التنبُّه إلى أنّ في حالة الزواج المنعقد باطلًا بداعي مانع مبطل من الشَّرع الكنسي، أو بداعي نقص في الصيغة القانونيّة، يقدّر الرضى مستمرًّا إلى أن يتمّ الرجوع عنه صراحة (ق827). وينبغي السَّعي إلى تصحيح هذا الزواج، كما توجب القوانين الكنسيّة.

 

إبدال المذهب أو الدِّين للحصول على الطلاق

 

7. ثمّة آفة مؤلمة هي إبدال المذهب الماروني إلى مذهب مسيحي آخر أو إلى الدِّين الإسلامي، للحصول على الطلاق.

 

هذه الممارسة السلبيّة هي، من الناحية الروحيّة، خطيئة ضدّ الالتزام بإيمان الكنيسة المارونيّة التي ينتمي إليها الزوجان أو أحدهما. ومن الناحية القانونيّةهي مخالفة صريحة لقانون الدولة اللبنانيّة الصادر في 2 نيسان 1951 الذي ينصّ في المادّة 14 على ما يلي: "إنّ السلطة المذهبيّة الصالحة للحكم في عقد الزواج ونتائجه، إنّما هي السلطة التي يكون قد عُقِد لديها الزواج وفقًا للأصول، وبموجب قواعد الصلاحيّة المعيّنة في المادّة 15 بشأن الزيجات المختلطة. وبحال وجود عقدَين صحيحَين أو أكثر، فالسّلطة المختصّة هي التي عُقد لديها الأوّل".

 

ومن الناحية الكنسيّة ينفصل الزوجان كلِّيًّا عن الكنيسة المارونيّة، بحكم تغيير مذهبهما أو دينهما، مع جميع نتائج هذا الانفصال. ليس المذهب أو الدِّين كثوب نخلعه ساعة نشاء.

 

8. وليعلم الزوجان المارونيّان أنّهما بتبديل مذهبهما أو دينهما، إنّما يحتقران ويسيئان في آن لكنيستهما المارونيّة وللكنيسة الأخرى التي ينتقلان إليها، وللدِّين الإسلامي الذي يعتنقانه. يبقى للسّلطة الكنسيّة أو الدينيّة غير المارونيّة المعنيّة إدراك خطورة هذا الأمر.

 

ومن واجب المحكمة عدم السماح للمحامين وللوكلاء الذين يسهِّلون هذا التبديل ويشجِّعونه ويوجِّهون إليه، بالتقاضي في محاكمنا بموجب نظامها الداخلي وقوانين الكنيسة (راجع نظام المحكمة الابتدائية الموحّدة، المادّة 53، ونظام المحكمة الاستئنافيّة، المادّة 511).

 

9. إنّني أتوجّه بالشّكر إلى الكنائس الأرثوذكسيّة، والكنائس الإنجيليّة والجماعات الكنسيّة المختلفة، التي منعت الأزواج من الكنائس الكاثوليكيّة، ومنها المارونيّة، بتبديل مذهبهم لدَيها، من أجل الحصول على الطلاق. ونرجو ذلك من قضاة الشَّرع المسلمين. إنّنا بالتعاون معًا، على هذا المستوى، نحافظ على وحدة المجتمع اللبناني، وسلامة العيش معًا، والقيم العائليّة والروحيّة وكرامة الأولاد القاصرين وحقوقهم.

 

10. ولا يمكن الاعتداد بحرية المعتقد أو الضمير، عندما تكون النيّة، في تبديل المذهب أو الدِّين، الحصول على الطلاق وكسر رباط سرّ الزواج المقدّس، لا الاستجابة لصوت الضمير.

 

فإنّ حرية المعتقد تعني الحقّ والواجب لكلّ شخص بشري، بحكم ما ينعم به من عقل سليم وإرادة حرّة ومسؤوليّة شخصيّة، أن يبحث عن الحقيقة، وفي طليعتها الحقيقة المتعلّقة بالشَّأن الدِّيني، مستعمِلًا الوسائل الملائمة، كالصلاة والتأمّل والمطالعة والاسترشاد، ليكوّن لنفسه حكمًا ضميريًّا مستقيمًا وحقًّا، وفقًا لفطنته. ويلزمه بالتالي الخضوع لهذه الحقيقة، عندما يعرفها، وتنظيم حياته كلّها وفقًا لمقتضياتها.

 

إخواني السَّادة المطارنة، أيّها الآباء القضاة والموظّفون القضائيّون في محاكمنا المارونيّة،

 

10. العائلة المارونيّة، التي كان يُضرب فيها المثل ويُقال: "كزواج ماروني" بشأن كلّ اتّحاد بين شخصَين أو جماعتَين، هي اليوم في خطر، بسبب الجهل لمفاهيم سرّ الزواج، وقلَّة الممارسة الدينيّة، وتفشِّي الروح الدنيويّة والمادّية، وتفلُّت الحرية من القيم الروحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة.

 

11. كلُّنا مدعوّون، من أجل حمايتها، لنسير على خريطة طريق متكاملة وضَعَها المجمع البطريركي الماروني في نصِّه العاشر بموضوع: "العائلة المارونيّة"،وقداسة البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي "فرح الحبّ" الصادر في أعقاب سينودس الأساقفة بشأن العائلة. لا يمكن فصل مبادئ العمل القضائي عن مضمون هاتَين الوثيقتَين، وعن لاهوت الزواج والعائلة.

 

12. إنّي، إذ أعرب عن تقديري لخدمتكم القضائيّة، أتمنَّى لكم، بمناسبة الأعياد الميلاديّة، فيض الخير والنعم، وللسنة القضائيّة النجاح في خدمة الحقيقة والعدالة والإنصاف، من أجل "خلاص النفوس الذي يبقى الشريعة الأسمى والهدف الأساس".

 

وُلد المسيح! هللويا!

 بكركي، في 23 كانون الأول 2016 

+ الكردينال بشاره بطرس الراعي

       بطريرك انطاكيه وسائر المشرق"