لبنان
16 شباط 2023, 08:50

كلمة البطريرك الرّاعي في افتتاح السّنة القضائيّة

تيلي لوميار/ نورسات
في افتتاح السّنة القضائيّة، استقبل البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، في العاشر من الجاري، الآباء القضاة والموظّفين القضائيّين في بكركي، وإليهم توجّه بكلمة جاء فيها:

"1. يسعدني أن أرحّب بكم ونحن في الشّهر الثّاني من السّنة الجديدة 2023 الّتي أتمنّاها لكم وللجميع سنة خير وسلام وخروج من أزماتنا السّياسيّة والإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة. نفتتح معًا السّنة القضائيّة 2022-2023، ونضعها تحت أنوار الرّوح القدس من أجل خدمةٍ صالحة وناجحة للعدالة. أشكر حضرة المونسنيور مارون كيوان على الكلمة المعبّرة الّتي تلاها باسمكم. وفي المناسبة أعرب لأصحاب السّيادة ولكم عن تقديري وشكري للجهود الّتي تبذلونها في سبيل خدمة العدالة في محاكمنا.

2. أودّ هذه السّنة أن أكلّمكم عن الخبرة الّتي تحتاجها الدّعاوى المختصّة بالحالات المرضيّة النّفسيّة والعصبيّة، والّتي تعطّل الرّضى الزّوجيّ وتؤدّي بالتّالي إلى انحلال الزّواج، وعنها يتكلّم القانون 818 الّذي حجب، وبكلّ أسف، كلّ العيوب الأخرى المبطلة للرّضى الزّوجيّ، وفتح الباب واسعًا لإبطال الزّيجات وهدم العائلات والتّسبّب بفقدان قدسيّة سرّ الزّواج، وبالنّتائج الوخيمة النّفسيّة والرّوحيّة والأخلاقيّة والمادّيّة على الزّوجين والأولاد.

سأتناول في كلمتي أربع نقاط.

أوّلًا، المواد القانونيّة

3. تنصّ القوانين 1255-1262 من مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة على الخبراء في الدّعاوى. فيحدّد القانون 1255 مهمّة الخبراء وهي "أن يقدّموا خبرتهم ورأيهم المستندين إلى قواعد الفنّ والعلم، من أجل التّحقّق من واقعة ما، ومعرفة الطّبيعة الحقيقيّة لأمر ما".

تدور مهمّة الخبراء حول النّقاط الّتي يحدّدها لهم القاضي، والّتي يستنتجها من أقوال المتداعين (ق 1258 بند 1). وبعد الاستماع إلى الخبير، يحدّد له القاضي المدّة لإجراء الخبرة وتقديم التّقرير (البند 3).

يجب على الخبير أن يذكر في تقريره: المستندات والطّريقة والخطّة الّتي اتّبعها في إنجاز مهمّته، والحجج الّتي استند إليها في استنتاجاته (ق 1259 بند 2). ويحقّ للقاضي أن يدعو الخبير لتقديم الإيضاحات الضّروريّة (بند 3).

أمّا بالنّسبة لتقدير استنتاجات الخبراء، ولو متّفقة، فعلى القاضي أن يقدّرها بدقّة ويربطها بسائر أعمال الدّعوى وبيّناتها. ولدى عرض حيثيّات الحكم، عليه أن يذكر الحجج الّتي أدّت به إلى قبول أو ردّ استنتاجات الخبراء (ق 1260).

ثانيًا، من هو الخبير؟

4. الخبير شخص موصوف بمعرفته العلميّة والمهنيّة والأنتروبولوجيّة المختصّة بعلم النّفس والنّفسانيّة. يعيّنه رئيس الهيئة الحاكمة ليعاون، من خلال بحثه العلميّ، في شأن وجود اضطراب نفسانيّ أو عدم نضج عاطفيّ، وفي طبيعته ودرجة تأثيره على الرّضى الزّوجيّ، لكي يتمكّن القاضي، مع اعتبار مجمل أعمال التّحقيق، من استخلاص حكم متكامل، مطبّقًا بعض المقاييس الأدبيّة وتلك المناسبة. إنّ عمله جوهريّ، إلّا إذا اعتبرته طبيعة الأمر غير مفيد بسبب الأوضاع أو المكتسبات المتنوّعة (راجع ق 1366).

تدخل الخبرة في إطار بيّنات الدّعوى، كما هي مرتبة في مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة. وعليه ليس الخبير قاضيًا، ولا قاضيًا مساعدًا. فمهمّة القاضي صعبة وشاقّة، إذ عليه أن يترجم نتائج الخبرة بمفاهيمها النّفسيّة، في المفاهيم القانونيّة وفي قرار، حول إذا ما كانت الحالة النّفسانيّة قد مسّت بنوع جوهريّ الملكات العقليّة والإداريّة الخاصّة بهذا الشّخص في إطار الرّضى الزّوجيّ. أجل، واجب القاضي دائمًا أن يقيّم النّسبة بين الواقع النّفسانيّ للشّخص الخاضع للخبرة والواقع القانونيّ سواء لأنّ هذا دور القاضي، أو لأنّ الخبير ليس ذي صلاحيّة لا في الواقع ولا في القانون بهذا الشّأن (Angelo Amati: L’immaturità psico-affettiva e matrimonio canonico, pp. 167-169).

5. يختلف الخبير عن الشّاهد. الأوّل لا يتوقّف مثل الثّاني عند خارج الواقعة أو الشّخص، بل عليه أن يُظهر العناصر الدّاخليّة غير المرئيّة بعين الأشخاص العاديّين. يشبّه رجالُ القانون والاجتهاد الشّاهدَ بأنّه عينُ القاضي، والخبيرَ عقلُه. إنطلاقًا من هذا التّحديد، يكون الخبير مساعدًا للقاضي، أكثر منه مصدر البرهان. يمكن أن يكون الإثنين معًا.

وأيضًا من ناحية الأشخاص، يكون للشّاهد علاقات اختباريّة في حياة الأشخاص وعاداتهم، فيما الخبير يتوقّف فقط عند التّحاليل العلميّة للواقعة القانونيّة. ومن النّاحية الموضوعيّة، الشّاهد يقدّم الواقعة القانونيّة المرتبطة تاريخيًّا بحياته. أمّا الخبير فيقتصر على إعطاء توصيف لهذه الواقعة مستندًا إلى عمله وفهمه. لا شيء يمنع من أن يكون الشّاهد خبيرًا (راجع  Pio Vito Pinto: I processi, pp.332-333).  

ثالثًا، الخبرة

6. يضع الخبير خبرته على ضوء قراءته المهنيّة للشّخص المعنيّ، مفسّرًا أعمال التّحقيق والعلامات، ثمّ يقدّم قراءته العلميّة شرط أن تكون:

- مختصّة، لجهة كونها ذات علم خاصّ، ونطاق خاصّ، وصلاحيّة وقواعد خاصّة للبحث.

- واضحة، مفهومة من القاضي بحيث يستطيع استعمالها بسهولة في سير الدّعوى.

- أكيدة، سواء على المستوى العلميّ أو الأدبيّ، بحيث ينتفي كلّ مجال لافتراض يعرقل عمل القاضي.  

تكون الخبرة اختياريّة إذا طلبها المتقاضون؛ وتكون ضروريّة إذا طلبها القاضي بحكم المنصب أو بأمر من القانون. عندما يعيّن القاضي خبيرًا، عليه أن يستشير المتقاضين ومحامي الوثاق ومحامي العدل.

ليس من السّهل أحيانًا إعادة تشخيص شخصيّة الزّوج الخاضع للخبرة إمّا بداعي الوقت الطّويل بعد عقد الزّواج، وإمّا بسبب تطوّرٍ حصل، وإمّا لأنّ الخاضع للخبرة يتّخذ تجاه الخبير موقف الدّفاع والحذر المسبق. الأمر الّذي يؤدّي، ولو لاشعوريًّا، إلى تحريف إستنتاجات الخبير نفسه.

من الأفضل دائمًا إجراء الخبرة وجهًا لوجه، من أجل حسن الإجابة بالشّكل المناسب على الأسئلة الّتي حدّدها القاضي. ففي بعض الأحيان يكشف الزّوج الخاضع للخبرة أمورًا لم تُذكر سابقًا في التّحقيق. أمّا في حال غيابه، فيجب اللّجوء إلى تمحيص الأعمال والوثائق المرفقة، من أجل دراسة مساره التّاريخيّ- المرضيّ، والواقعات السّابقة والمتواصلة، وشذوذ محتمل أو نقص نفسانيّ.

تؤخذ بعين الاعتبار الوثائق الصّادرة عن المستشفيات أو عن أطبّاء نفسانيّين معروفين بعملهم وجدارتهم وحرّيّة ضميرهم.

ومن المناسب أيضًا دراسة تصرّفات الزّوج الخاضع للخبرة وعلاقاته في إطار الحياة الزّوجيّة، من أجل الولوج إلى سبب عدم الانسجام.

في حال وجود لا قدرة نسبيّة، قد ينشأ ارتياب حول إذا ما كان الزّوج الآخر أم لا هو السّبب لعدم الانسجام بين الزّوجين؛ أو إذا شكّل هو حالة كبح لهذا الانسجام؛ أو إذا كان غير قادرٍ على استيعاب الآخر من أجل المحافظة على الحياة الزّوجيّة.

فيما يختصّ بتقييم الخبرة، يُعتبر القاضي "خبير الخبراء"، وعليه أن يضعها في علاقة مع كلّ علامات الدّعوى وظروفها.

إنّ البيّنات بالخبرة توسّعت بواسطة الاجتهاد الرّوتاليّ. ويوجد إجماع في أنّ الابتعاد عن استنتاجات الخبراء غير مستحبّ ما لم تتوفّر براهين خطيرة معاكسة (راجع مجموعة من الاجتهادات الرّوتاليّة في المرجع المذكور ص 334، الحاشية 483).

رابعًا، مساحات الخبير والقاضي

7. يجب الانطلاق من مبدأ أساسيّ وهو أنّ المفاهيم النّفسيّة لا تتطابق دائمًا مع المفاهيم القانونيّة، ولا أصناف (categories)  العلوم النّفسانيّة والنّفسيّة تنقل بشكل آليّ إلى حقل الحقّ القانونيّ، من دون تكييفات ضروريّة من شأنها أن تراعي الصّلاحيّة المختصّة بكلّ علم. فرجل القانون لا يستطيع أن يحلّ مكان الخبير في ما يختصّ بالعلم السّيكولوجيّ والنّفسانيّ، كما أنّه لا يستطيع الطّلب من الخبير أن يعطي أجوبة في المادّة القانونيّة. فمن أجل التّعاون بين القاضي والخبير، مطلوب الإحترام المتبادل، وصرامة خاصّة في تقييم الموضوع: فلا يكفي تشخيص توصيفيّ فقط لتصرّفات الزّوجين المختلفة، من دون البحث عن شرح نفسيّ-ديناميّ؛ كما لا يكفي التّوقّف فقط عند المظاهر المرضيّة، من دون الأخذ بالاعتبار كلّ مظاهر الشّخص الأخرى. إن تعثّر الزّواج قد يكون بسبب صعوبات من السّهل تجاوزها، لو لم يكن لدى الزّوجين رفضٌ لمقاومتها وللتّصحية (راجع خطاب البابا يوحنّا بولس الثّاني إلى الرّوتا الرّومانيّة 25/1/1988).

8. من جهةٍ أخرى ثمّة التباس حول مفهوم "الحالة السّويّة" normalité.  فالاختصاصيّ النّفسيّ والنّفسانيّ يعتبر أنّ كلّ شكل من المرض النّفسيّ قد يكون مضادًّا للحالة السّويّة، أمّا رجل القانون، الّذي يستوحي النّظرة الشّاملة للشّخص، فيعتبر أنّ الحالة السّويّة، أيّ حالة الإنسان العاديّة في هذا العالم، يمكن أن تتضمّن أيضًا أشكالًا من الصّعوبات النّفسيّة المتعدّدة. هذا المفهوم يقتضي إفتراض شريعة الخطيئة والنّضال. لذا من مسؤوليّة الزّوجين تجاوز صعوبات الحياة الزّوجيّة.

وبالنّسبة أيضًا إلى مفهوم "الحالة السّويّة"  normalitéيجب التّمييز بين أشكال المرض النّفسيّ الخطيرة، وتلك الطّفيفة: فهذه تجعل القيام بالموجبات الزّوجيّة الأساسيّة صعبًا، بينما الأولى تجعل العلاقة غير ممكنة، لكونها تمسّ حرّيّة الشّخص الجوهريّة (البابا يوحنّا بولس الثّاني، المرجع نفسه).

9. يجب في كلّ حال عدم الخلط بين المقاييس النّفسيّة والمقاييس القانونيّة. في العلوم الطّبّيّة، "الإضطراب النّفسانيّ" يعني حالة تؤثّر على نوعيّة الحياة، وبالتّالي على الجوانب العقليّة والإراديّة والنّفسيّة- العاطفيّة والعلائقيّة. وهذا ما يجب على الخبير تحديده. أمّا في العلم القانونيّ، ليست كلّ الحالات النفسيّة الغير سويّة تشكّل اضطرابًا. فمن الممكن أن يكون شخصٌ غريب الأطوار (bizarre)، ولكنّه قادر على أن يحبّ ويقيم علاقات إنسانيّة واجتماعيّة. لا يكفي اكتشاف الحالة اللّاسويّة (anormalité)، بل إيجاد اضطرابات من نوع الذّهان (psychose)، والعُصاب النّفسيّ (névrose)، والاضطرابات النّفسيّة- الجنسيّة، وعدم النّضج النّفسيّ- العاطفيّ وكلّ ما شابهها من حالات الذّهان الّتي تحدّ من القدرات النّفسيّة. ما يعني القاضي هو النّتائج ومفاعيل الاضطراب على مستوى العلاقات.

من دون هذا التّمييز في الحالات الّتي رأيناها، يُعتبر إبطال الزّيجات، كما يُقال "طلاقًا على الطّريقة الكاثوليكيّة" (catholic style).

الخاتمة

10. في ضوء كلّ ما تقدّم، تتّضح لنا خطورة ودقّة مسؤوليّة كلٍّ من الخبير والقاضي، من أجل حماية سرّ الزّواج وكرامته وحفظ وحدة العائلة، هذه "الكنيسة المنزليّة" الّتي تمثّل كنيسة المسيح الواحدة.

فالخبير المكلّف ينبغي أن يكون ضليعًا في العلوم النّفسيّة والنّفسانيّة، وصاحبَ معرفة لاهوتيّة وأسراريّة ولاسيّما ما يختصّ بسرّ الزّواج وميزاته وغاياته وقدسيّته، وذا خبرة في المحاكم الكنسيّة، وعميق الإيمان، وسليم الضّمير. مسؤوليّته تمييز الاضطرابات النّفسيّة والنّفسانيّة، وطبيعتها وأصلها ومظاهرها، وأسباب الاضطرابات الدّاخليّة ومحيطها العائليّ والاجتماعيّ الّتي يخضع لها الشّخص المعنيّ.

أمّا مسؤوليّة القاضي فهي تأمين كلّ ما يحتاج إليه الخبير، وتحديد الأسئلة المطلوب منه الإجابة عليها. ثمّ من واجبه تقييم الخبرة من المنظار القانونيّ، ومقارنتها مع أعمال الدّعوى وبيّناتها وعلاماتها. ويستطيع أن يحكم خلافًا لما جاء في الخبرة، إذا لم يتوفّر له اليقين الأدبيّ. ذلك أنّ "الزّواج ينعم بحماية الشّرع، لذلك في حال الشّكّ يجب الأخذ بصحّة الزّواج، إلى أن يثبت العكس" (ق. 779)."