لبنان
17 آب 2023, 12:15

كفوري في عيد انتقال السّيّدة العذراء: إنّها النّموذج والمثال الذي يُحتذى في التّواضع والمحبّة والتّضحية والطّهارة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة صور وصيدا وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس المطران الياس كفوري قدّاس عيد رقاد والدة الإله الفائقة القداسة في كنيسة رقاد السّيّدة - حاصبيّا، عاونه فيه المتقدّم في الكهنة الأب إبراهيم كرم، وكاهن الرّعيّة الأب إميل الحدّاد، الأب فخري مراد، الأب نكتاريوس أراكيلوس، الشّماس مكسيم الصّباغ والشّماس إيلي أبو رحّال وحشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى المطران الياس كفوري عظة قال فيها: "نحتفل اليوم بعيد رقاد سيّدتنا والدة الإله الفائقة القداسة في بلدة حاصبيّا "أم السّبع كنائس". حاصبيّا الضّاربة في تاريخ الكنيسة والتي شهدت فصولًا مهمّة جدًّا من تاريخها في هذه المنطقة. نقيم الاحتفال في هذه الكنيسة العجائبيّة التي حصلت فيها حوادث شفاء على يد صاحبة العيد التي تحميها من كلّ المخاطر وتبارك أبناءها. هذا العيد له نكهة خاصّة إذ يحمل لنا بشرى سارة وهي قرار وزير السّياحة الأستاذ وليد نصّار إدراج كنيسة السّيّدة العجائبيّة في حاصبيّا في قائمة الأماكن السّياحيّة في لبنان ووضعها على موقع الوزارة (تلاوة القرار). يخاطب بولس الرّسول أهل فيليبّي، ومن خلالهم يخاطبنا نحن بلهجةٍ حاسمة قائلًا: " ليكن فيكم الفكر الذي في المسيح يسوع "بصيغة   الأمر. ذلك أن المسيحيّ يجب أن يكون فيه فكر المسيح. أيّ أنّه لا يجوز له أن يبني إيمانه على أساس غير الأساس الموضوع الذي هو يسوع المسيح أو أن يضع أساسًا آخر" (1 كو 3 : 11) ما هو فكر المسيح؟ لقد عبّرَت الأناجيل بوضوح عن ذلك، وبخاصة بقول السّيّد المسيح له المجد "إن أعظم وصيّة في النّاموس هي أن تحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك

.... وقريبك كنفسك" بهاتين الوصيّتين يختصر النّاموس كلّه والأنبياء. يمكن أن نأخذ مثَلاً آخر أو نموذجًا آخر عن فكر المسيح في العظة على الجبل: "طوبى للمساكين بالرّوح فإنّ لهم ملكوت السّموات" (متّى 5 : 1 - 12). من مظاهر هذا الفكر التّواضع الكبير حتّى الانسحاق " أخلى ذاتهُ آخذًا صورة عبدٍ صائرًا في شبه البشر" وأطاع حتّى الموت، موت الصليب. على المؤمن أن يطيع الله، وكأنّه يقول إنّ الطّاعة لله نتيجةً لهذا التّواضع، وطاعة المسيح لله صورةٌ عن طاعة الإنسان للخالق. هنا يحضرني ما حصل مع إبراهيم الخليل. إبراهيم بمجرّد سماعه للأمر الإلهيّ "اذهب من أرضكَ ومن عشيرتكَ ومن بيت أبيكَ إلى الأرض التي أُريكَ فأجعلُكَ أُمّةً عظيمةً وأبارككَ وأُعظّمُ اسمكَ وتكون بركة" (سفر التّكوين 12 : 1 - 2)، ترَكَ كلّ شيء (كلّ ما كان يملك من أراضٍ وبيوت و....) وذهب إلى أرض فلسطين حيث سكَن في الخيام مع اسحق ويعقوب. كذلك الرّسل "تركوا كل شيءٍ وتبعوه" (لو 5 : 11) وأيضًا "مَن أحبَّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي فلا يستحقني ومَن أحبَّ ابناً أو ابنةً أكثر مني فلا يستحقنّي" (مت 10:37). عندما تمرّدَ آدم على الله جاء هذا التّمرّد نتيجة للكبرياء. سَقَطَ آدم في وحول الغرور والكبرياء. المؤمن الحقيقيّ لا يمكن أن يكون متكبّرًا ومتمرّدًا على الله، يجب أن يكون مطيعًا لهُ خاضعًا لإرادته عزّ وجلّ. "آخذاً صورةَ عبدٍ". العبوديّة لله تؤدّي إلى الحرّيّة الحقيقيّة. حرّيّة أبناء الله لأنّ الله يعاملنا كأبناء أحبّاء وليس كعبيد. أوضح مثال على الطّاعة لله، مريم العذراء التي نعيّد اليوم لانتقالها. مريم كانت خاضعة للإرادة الإلهيّة، مستسلمة لها: "ها أنذا أمة للرّبّ. فليكن لي حسب قولك". مريم عانت الكثير. وصبرت متّكلة على الله. كانت تحفظ كلّ الأشياء في قلبها بالرّغم من قساوة الاضطهاد الذي تعرض له ابنها. إذًا مريم أطاعت الرّبّ حتّى النّهاية. فرفعها الله إلى أعلى مقام في الكنيسة. نقول عنها أنّها: أكرم من الشّاروبيم وأرفع مجدًا بلا قياس من السّارافيم، وهي تقول "لأنّه نظر إلى تواضع أمته، فها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال". بسبب تواضعها تطوّبها جميع الأجيال. اليوم نأخذ، نحن في لبنان، مريم العذراء مثالًا ونموذجًا لتطبيق وعيش فكر المسيح. هذا الفكر يوحدّنا ولا يفرّقنا. ولكن ماذا نفعل بالخطيئة والشّهوة، والمصلحة الشّخصيّة التي تكاد تعمي عيوننا، حتّى لا نرى الحقائق كما هي. أكثر من ذلك، تكاد مصالحنا تجعل عندنا قصر نظر، فلا نعود نرى إلى البعيد، نرى فقط بضعة أمتار حولنا، وكأنّ العالم كلّه هو هذه الأمتار التي تمتدّ عليها مصلحتنا. هذه هي الأنانيّة بعينها. لذلك قال: أخلى ذاته آخذًا صورة عبد... إذا شئت أن تقيم مجتمعًا "متماسكًا" فيه العدل والمساواة والكرامة، لا بدّ أن تتخلّى عن أنانيّتك، أن تترك شيئًا ممّا لك للآخر. "أحبب قريبك كنفسك". هذه الشّراكة هي التي تنقذ لبنان مما يتخبّط فيه من أزمات. قد يقول لنا قائل إنّ هذا الكلام نظريّ، نريد حلًّا عمليًّا. نجيب: أنّ هذه المبادىء التي ترسيها المسيحيّة ومنها على سبيل المثال لا الحصر، العدل والمساواة والرّحمة والمحبّة والتّواضع واحترام الآخر. هذه المبادىء هي الأساس الذي تحدّث عنه بولس الرّسول. نحن نبني على الأساس الموضوع ولا يجوز لنا أن نضع أساسًا آخر. الأساس، يقول بولس، هو يسوع المسيح الذي "أخلى ذاته آخذًا صورة عبد"... ماذا نبني على هذا الأساس؟ نبني مجتمعًا متماسكًا (كالبناء المرصوص). لا يمكن أن يفسده المفسدون. "ومن يفسد هيكل الله يفسده الله " (1 كو 3 : 17). لذلك يجب أن يبنى على هذا الأساس مجتمع لبنانيّ يؤمن بالحرّيّة والدّيمقراطية والانفتاح على العالمين: العربيّ والغربيّ، وإذا كان لبنان رسالة كما يقول البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني فإنّ هذه الرّسالة يجب أن توجّه إلى الخارج، لا أن تحفظ في الخزانة. "لا يوقد سراج ويوضع تحت المكيال، بل على المنارة ليضيء لجميع الذين في البيت". لبنان نموذج للعالم في التّعدّدية مع الوحدة. لبنان كان طوال تاريخه منارةً للعلم والثّقافة، وكان موئلًا للفكر وحرّيّة التّعبير ضمن حدود القيم والأخلاق المرتكزة على إيمانٍ منفتح. نعود إلى السّيّدة العذراء. قلتُ إنّها النّموذج والمثال الذي يُحتذى في التّواضع والمحبّة والتّضحية والطّهارة. إنّها مثال المرأة الصّالحة المعطاء. مريم عملت بصمت. نكاد لا نسمع صوتها طوال مدّة البشارة إلّا في محطّات رئيسيّة، منها مثلاً عندما بشّرها الملاك بالحبل قالت لهُ: كيف يكون لي ذلك ولم أعرف رجلًا، أجابها الملاك: إنّ

الرّوح القدس يحلُّ عليك، وقوّةُ العليِّ تظلّلك، والمولود منكِّ يُدعى ابن الله، فقالت مريم: هائنذا أمَةُ الرّبّ فليكن لي بحسب قولكَ" (لو 1 : 38). هذا هو الموقف المثاليّ لكلّ مؤمن أمام الله. إنّهُ الطّاعة الحقيقيّة لله، طاعة الإيمان لا بل هو السّمع والطّاعة (الإيبا كوئي) كما نقول في صلاة السّحر، ولكن يا أحبّاء العبرة في التّطبيق، يجب أن يتجسّد إيماننا بأعمال صالحة كما فعلت مريم العذراء. كذلك نرى مريم في عرس قانا الجليل تطلب إلى ابنها أن ينقذَ العرس بتحويله الماء إلى خمر فكان لها ما أرادت لِّما لها من دالةٍ على ابنها. كما أنّنا نراها في أصعب موقف تتعرّض له أمّ، واقفة عند الصّليب مع بعض النِّسوة تنظر عن بُعد ما يحصل لابنها من عذاب وقهر وتعدٍّ. وقد صبرَتْ واتكلت على الله الذي نظر إلى تواضعهافطوّبتها جميع الأجيال. إنّنا اليوم نتطلّع إلى مريم لتشفع بنا عند الله لكي نخلص من الشّدائد التي نتعرّض لها. نسألها أن تشمل لبنان ببركتها وترسل له سلام الله ورضوانه وعطفه".