لبنان
09 كانون الثاني 2023, 08:50

قدّاس في حريصا لراحة نفس البابا بنديكتوس السّادس عشر وإليكم ما قاله الرّاعي عنه!

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، مساء الجمعة في بازيليك سيّدة لبنان- حريصا، قدّاسًا لراحة نفس المثّلث الرّحمة البابا بنديكتوس السّادس عشر، ألقى خلاله عظة انطلق فيها من الكلمة الأخيرة الّتي قالها البابا الرّاحل: "يا يسوع أنا أحبّك".

وفي تفاصيل العظة، قال الرّاعي: "1. هذه هي آخر كلمة قالها المثلّث الرّحمة البابا بنديكتوس السّادس عشر، ساعةً قبل أن يُسلم الرّوح السّاعة التّاسعة وأربع وثلاثين دقيقة من صباح 31 كانون الأوّل اليوم الأخير من سنة 2022. ما يعني أنّه أكمل رحلته في التّاريخ ودامت خمسًا وتسعين سنة، ليدخل أبديّة الله والنّور البهيّ، أبديّة المشاهدة السّعيدة في مجد السّماء. إنّه إبن نور المسيح منذ معموديّته، وخادم نور الإيمان والمحبّة والحقيقة. ففي سبت النّور، من ذاك يوم السّادس عشر من نيسان 1927، أبصر النّور جوزف Ratzinger في قرية صغيرة من منطقة Bavaria الألمانيّة بأبرشيّة Passau القريبة من الحدود مع النّمسا. وهو الأصغر بعد شقيقته ماريا المتوفيّة سنة 1991 وكانت تخدمه في مكان إقامته كاردينالًا، وشقيقه Georg الّذي أصبح كاهنًا وتوفّي سنة 2020. تربّى على الإيمان واللّطف والوداعة على يد والديه، كما ذكر في وصيّته الرّوحيّة: "من والده تعلّم الإيمان الواعي، ومن والدته ماريا التّقوى العميقة والصّلاح؛ وتعلّم من شقيقته الخدمة المتفانية، ومن شقيقه وضوح القرار وصفاء القلب."

2. لقد أصبح اللّاهوتيّ الكبير، وراعي الكنيسة الجامعة الوديع، وبابا التّواضع والبسمة اللّطيفة؛ رجل الواجب والضّمير، الصّبور بوجه المحن من الّذين أساؤوا فهمه وتعليمه، وأولئك الّذين تطاولوا على الإيمان وتعليم الكنيسة. عظمته أنّه جمع بين الإيمان والعقل، وعمل على الانسجام بينهما. الإيمان عنده لقاء شخصيّ عميق مع الله، لا مع فكرة. فجعل منه رجل صلاة وتأمّل وإصغاء. إيمانه علّمه أنّ "الله محبّة". فكان مفتاح حبريّته، وموضوع أوّل رسالة عامّة أصدرها في 25 كانون الأوّل 2005.  

أمّا العقل فأداته الوقّادة الّتي مكّنته من نيل شهادة الملفنة في اللّاهوت العقائديّ سنة 1957 وهو بعمر ثلاثين سنة. وقد جعلت منه لاهوتيًّا كبيرًا وأستاذًا محاضرًا لأكثر من ثلاثين سنة في أهمّ جامعات ألمانيا من مثل: Freising، وBonn، وMünster، وTubingen، و Ratisbon. أراد أن يكون الإيمان في حوار دائم مع العقل، والعقل منفتحًا دائمًا على الإيمان. اصطحبه الكاردينال Frings، رئيس أساقفة Köln ليكون خبيرًا لاهوتيًّا في المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. فكان له التّأثير الكبير في الوثائق الإعداديّة، ولاسيّما ما يختصّ بلاهوت سرّ الكنيسة واللّيتورجيّا.

رافق Joseph Ratzinger، اللّاهوتيّ والمعلّم، تطبيق تعليم هذا المجمع، وما اتّصل به من نقاش بشأن حقائق جوهريّة من الإيمان. وقال قولته الشّهيرة: نرى "مسيحيّة تتقدّم بأثمانٍ متدنيّة."

3. إختاره البابا القدّيس بولس السّادس رئيسًا لأساقفة ميونخ سنة 1977 وبعد أشهرٍ قليلة عيّنه كاردينالًا وهو بعمر خمسين سنة. واستدعاه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني بعد أربع سنوات إلى روما رئيسًا لمجمع عقيدة الإيمان. فأتمنه على هذه الوديعة المقدّسة مع كلّ ما اقتضت من تعليم وتصويب، وتوجّها بإعداد "كتاب التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة" الّذي نشره البابا يوحنّا بولس الثّاني بالدّستور الرّسوليّ "وديعة الإيمان" في 11 تشرين الأوّل 1992.

مارس الكاردينال Ratzinger رئاسة مجمع عقيدة الإيمان الصّعبة والدّقيقة بنشاط وتجرّد وتواضع طيلة أربع وعشرين سنة حتّى وفاة البابا يوحنّا بولس الثّاني، وانتخابه بغضون أربع وعشرين ساعة، خلفًا له بعمر 78 سنة في 19 نيسان 2005، متّخذًا إسم بنديكتوس السّادس عشر، نسبةً إلى القدّيس الكبير بنديكتوس شفيع أوروبا. فأعلن نفسه للشّعب المحتشد في ساحة القدّيس بطرس بكلّ بساطة وتواضع قائلًا: "بعد البابا الكبير يوحنّا بولس الثّاني، اختارني السّادة الكرادلة، أنا العامل البسيط والوضيع في كرم الرّبّ. يعزّيني الواقع أنّ الله يعرف كيف يعمل أيضًا بأدوات غير كافية. فإنّي أتكّل على صلاتكم". إختار إسم "بنديكتوس" حبًّا لأوروبا واهتمامًا بمصيرها. فآخر كتاب كتبه وهو كاردينال: "أوروبا أسسها اليوم وغدًا". وأوّل كتاب كبابا كان بعنوان "أوروبا في أزمة الثّقافات". وأولى زياراته الرّسوليّة كانت لبلدان أوروبيّة مثل كولونيا ليوم الشّبيبة العالميّ، ثمّ بولونيا، فإسبانيا والنّمسا والبرتغال وإنكلترا. وكانت الثّقافة الأوروبيّة حاضرة في رسائله العامّة.  

4. قاد الكنيسة على مدى ستّ سنوات بمحبّة وتواضع ووداعة، ولكن بشجاعة وأمانة لعقيدة الإيمان، وحارب بتعليمه ومسلكه ما سُمّي بعد الفاتيكانيّ الثّاني "بمحافظين وتقدّميّين": فكشف عمق تعليم الفاتيكانيّ الثّاني مردّدًا أنّ "الكنيسة ليست كنيستنا، بل كنيسة المسيح". تحمّل، بالصّبر والصّلاة وشجاعة التّعليم، سوء الفهم والإساءات والاعتراضات؛ واعتبر أنّ أسلافه البابوات واجهوا أزمنة وأوضاعًا أكثر مأساويّة. كان سرّ المسيح عنده الألف والياء. فكتب كتبًا لاهوتيّة مرجعيّة منها: يسوع النّاصريّ (3 أجزاء)، ونور العالم، وملح الأرض.

5. بعمر خمس وثمانين سنة قدّم استقالته من خدمته البابويّة في 11 شباط 2013 معتبرًا أنّ الكنيسة بحاجة إلى راعٍ أنشط قادر على التّحرّك كما تفرض عليه البابويّة. وقال إنّه ينصرف إلى خدمة الكنيسة بالصّلاة والصّمت، معلنًا طاعته الكاملة لخلفه. وعاش ناسكًا في دير صغير ضمن حديقة الفاتيكان. هذه الخطوة جعلت منه واحدًا من كبار البابوات في التّاريخ، بالإضافة إلى كونه وضع حجرًا صلدًا ودائمًا في بناء الكنيسة الكاثوليكيّة. "كان ضعيفًا في الجسد ولكن كبيرًا بالفكر" بشهادة أمين سرّه المطران Georg Gänswein. فهذا البابا رجل الفكر، أسهم إسهامًا كبيرًا في تعميق الإيمان عند الكاثوليك. يذكر التّاريخ أنّ حبرًا أعظم واحدًا سبقه منذ ستّة قرون على الاستقالة سنة 1415، وهو البابا غريغوريوس الثّاني عشر.

6. على مدى ثلاث وثلاثين سنة تعاقب جيلان مترابطان ومتكاملان: جيل يوحنّا بولس الثّاني الّذي أحيا ونشّط الكنيسة الكاثوليكيّة الضّعيفة في العمق بسبب الأزمة الّتي أعقبت المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في سنوات 1970، وقد سمّى هذا المجمع "بربيع الكنيسة"؛ وجيل بنديكتوس السّادس عشر الّذي مسّ جيل الشّبيبة الكاثوليكيّة بوضوح تعليمه، ودعوته إلى القداسة بمثله ووداعته وابتسامته اللّطيفة. كخبير في المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، ثمّ كمؤتمن على العقيدة الكاثوليكيّة من القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، وكلاهوتيّ كبير، واجه أزمة الانقسام بين "تقدّميّين" و "محافظين" في أعقاب الفاتيكانيّ الثّاني، فعمل في حبريّته على مصالحة الحداثة مع التّقليد الكاثوليكيّ، معتبرًا أنّ لا مستقبل للكنيسة من دون تجذّر.

كان حريصًا على حماية الكنيسة من الدّيماغوجيّة والشّعبويّة، فظلّ الصّوت المعلن للحقيقة والمدافع عنها، ولو كلّفه ذلك سوء فهم ورفضًا وتأويلًا كاذبًا. لقد رفع عاليًا كرامة البابويّة، من دون إظهار شخصيّته، فلا شخصانيّة عنده. كانت حبريّته أمثولة لاهوت طويلة، نقطة محوريّتها الانسجام بين الإيمان والعقل.

أولى اللّيتورجيا الأولويّة في حياته وحبريّته، فأتقن فنّ الاحتفال بسرّ الإفخارستيّا، لأنّ المسيح حاضر فعليًّا في القربانة المقدّسة الّتي من خلالها الله حاضر حقًّا هنا. وأعطى المثل في احتفالاته الحبريّة من خلال الاعتناء بالملابس اللّيتورجيّة، واختيار الكؤوس والأواني الأخرى. وبذلك طبع جيلًا جديدًا من الكهنة الّذين وضعوا حدًّا للإهمال الّذي أعقب الفاتيكانيّ الثّاني.

7. في زيارته الرّسوليّة إلى لبنان من 14 إلى 16 أيلول 2012، الّتي ختم بها كلّ زياراته، وقّع الإرشاد الرّسوليّ: "الكنيسة في الشّرق الأوسط"، وأعلن حبّه ورؤيته للبنان. فقال في كلمة الاستقبال على مطار بيروت: "إنّ التّعايش السّعيد في لبنان يجب أن يُظهر للشّرق الأوسط ولباقي العالم أنّه من المستطاع داخل الأمّة الواحدة إيجاد التّعاون بروح التّعاون والاحترام بين المسيحيّين وإخوانهم من أديان أخرى. مثل هذا التّوازن يُقدَّم كمثال، لكنّه مهدّد عندما يخضع لضغوط فئويّة. هنا يجب أن يتغلّب العقل على العاطفة الانفراديّة من أجل تعزيز الخير العامّ." وأضاف: "إنّ هذا التّعايش المشترك الّذي يرغب بلدكم لبنان في الشّهادة له، لن يكون عميقًا ما لم يتأسّس على نظرة قبول، وعلى تصرّف لطيف تجاه الآخر، وما لم يتأصّل في الله الّذي يرغب في أن يصبح البشر إخوة. إنّ التّوازن اللّبنانيّ الشّهير سيتمكّن من الاستمرار فقط بفضل الإرادة الحسنة والتزام اللّبنانيّين جميعًا. آنذاك فقط سيكون نموذجًا لكلّ سكّان المنطقة وللعالم بأسره. لا يتعلّق الأمر بعمل بشريّ محض، إنّما بعطيّة من الله، الّتي يجب طلبها بإلحاح، والمحافظة عليها، مهما كان الثّمن، وتعزيزها بإصرار."

وأثناء الاحتفال بتوقيع الإرشاد الرّسوليّ "الكنيسة في آسيا"، عاد ليؤكّد أنّ "التّعايش السّعيد بين المسيحيّة والإسلام يصنع فرادة الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة والدّينيّة في لبنان. ونحن نشجّع هذا الواقع بقوّة."

8. "يا يسوع أنا أحبّك!"

عندما انتُخب الكاردينال Joseph Ratzinger ليكون خليفة بطرس الرّسول على كرسيّ روما ونائبًا للمسيح على الأرض، وسأله رئيس مجمع الكرادلة الانتخابيّ، إذا كان يقبل هذه الدّعوة الإلهيّة، حضرت أمام ضميره مشهديّة شاطئ بحيرة طبريّه، وسمع في أعماق قلبه الرّبّ يسوع يسأله، كما لبطرس: "يا جوزف، أتحبّني؟ وأجاب مثله: يا ربّ أنت تعلم أنّي أحبّك. فقال له يسوع: إرعَ خرافي!" (يو 21: 15).  

ظلّ البابا بنديكتوس أمينًا لحبّه للمسيح، وبقوّة هذا الحبّ رعى رعيّة المسيح الجامعة. وها هو قبل أنّ يُسلم الروح، يجدّد الوعد للمسيح: "يا يسوع أنا أحبّك!". فطارت روحه إلى مجد السّماء، وأودع جثمانه الطّاهر قرب ضريح القدّيس بطرس الرّسول، في المكان الّذي دُفن فيه من قبله القدّيسان البابا يوحنّا الثّالث والعشرون، والبابا يوحنّا بولس الثّاني بعد نقلهما إلى مذبحين في بازيليك القدّيس بطرس.  

فليكن ذكره الخالد دعوة لكلّ واحد وواحدة منّا للأمانة في محبّة المسيح حتّى النفس الأخير. آمين."