لبنان
15 كانون الثاني 2021, 07:30

في عيد مار أنطونيوس الكبير، رسالة من الأباتي مارون أبو جوده!

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه رئيس عامّ الرّهبانيّة الأنطونيّة الأباتي مارون أبو جوده، في عيد القدّيس أنطونيوس الكبير، إلى الأساتذة والمعلّمات في مدارس الأنطونيّة وتلاميذها وأهلهم، وإلى المعاونين في الإدارة والخدمات والأعمال التّقنيّة، رسالة معايدة قال فيها:

"بفضل التّقنيّات المتقدّمة الّتي يتمّ استخدامها على نطاق واسع هذه الأيّام، وفي هذه المناسبة السّنويّة، عيد أبينا القدّيس أنطونيوس، أودّ أن أتوجّه مباشرة إلى كلّ شخص منكم لأقول لكم إنّني أفكّر فيكم وأصلّي من أجلكم، أنتم أعضاء أسرتنا التّربويّة الكبيرة، تلاميذنا وأهلهم، الأساتذة والمعلّمات، وموظّفو الهيئتين الإداريّة واللّوجيستيّة، وكذلك أصلّي من أجل خرّيجي مدارسنا وقدامى طلّابها.

لقد أرغمتنا جائحة كورونا على التزام التّباعد الاجتماعيّ طوال عدّة أشهر، إذ شكّلت هذه المرحلة الاستثنائية من حياة المسكونة اختبارًا لكلّ فرد منّا بصعوبات عيش العزلة، كما شكّلت فرصة للعديد منّا للولوج إلى الذّات وإعادة النّظر بسلّم الأولويّات وبمعنى الوجود.

لقد سبقنا طوعًا مار أنطونيوس الكبير تاركًا المدينة إلى الصّحراء، فببعده عن الضّجيج في صومعته الصّحراويّة تمكّن من التّغلّب على وباء التّخبّط الدّاخليّ وآفة التّشرذم المسيحيّ، متّحدًا بالذّات الإلهيّة ومطلقًا انتفاضة على الرّكود الكنسيّ والفراع الاجتماعيّ.

من هنا، أطلب إلى الله أن يخرجنا قريبًا من حجرنا المنزليّ، من بيوتنا الّتي تحوّلت مؤخّرًا دارًا للعبادة الإلهيّة ومركز عمل ومكانًا للتّعلم عن بُعد وفسحة للحجر الصّحّيّ ومخازن للمؤن، وإلخ.  

رجائي أن ننطلق مجدّدًا تاركين جانبًا ضمانات أكّدت المرحلة الانتقاليّة هذه هشاشتها، مودعين نمط حياة زائل، متّكلين على العناية الإلهيّة لتذوّق السّعادة الحقيقيّة ولبناء مجتمع عالميّ أكثر عدالة، وإطلاق لبنان جديد يحلو فيه العيش.

أحبّائي، اتّسمت حياة شفيعنا بالتّخلّي عن مغريات هذه الدّنيا، وبتوزيع خيراته على الفقراء، وبالتّجرّد في حياته الإنسانيّة. إنّها سمات نحن بأمسّ الحاجة إليها، بغية عيش المناقبيّة والشّفافيّة في حياتنا الشّخصيّة وفي مراكزنا وفي بلادنا الّتي تعاني شراسة الفاسدين.علينا الرّجوع إلى روحانيّة القوّة بالضّعف والتّواضع والعقلانيّة المنوّرة من كلمة الله، لكي نتمكّن من عيش البساطة الإنجيليّة الّتي نختبرها في الآونة الأخيرة.

من مدعاة ابتهاجي المبادرات العديدة الّتي تشهدها أديارنا ومؤسّساتنا، من أجل تخفيف الخسائر الّتي تطال الجميع من جرّاء الأزمة الاقتصاديّة، وتعزيز زمام المبادرة من أجل الصّمود في هذه المرحلة الانتقاليّة.

إنّ الواجب والعدل أن نذكر هنا بالشّكر والمديح أنّ مدارسنا تعيش الأخوّة الّتي توقّف عليها قداسة البابا فرنسيس في رسالته الأخيرة، وقد أظهرتها بنوع خاصّ على إثر انفجار مرفأ بيروت الكارثيّ، إذ توافدت المساعدات من جماعاتنا إلى المتضرّرين بروح المحبّة الكاملة. يسرّنا أن نرى في ذلك تجسيدًا لهويّة روحانيّتنا الأنطونيّة الّتي تستثمر ودائعها ومخزونها المادّيّ والرّجائيّ من أجل الخير العامّ. أحيّي الجهود الجبّارة الّتي تقومون بها لتأمين الاستمراريّة الترّبويّة والشّجاعة الخلّاقة الّتي تميّزتم بها في خضمّ الأزمات لخلق بيئة حاضنة، هدفها منع تفشّي أنواع الأوبئة كافّة. فلكم منّي كلّ الشّكر والامتنان على جودة التّعليم عن بُعد على الرّغم من كلّ التّحدّيات.

بناتي وأبنائي، ذا عصيت بطولات كوكب البرّيّة وجهاده، فقد تميّز مار أنطونيوس بقبوله شدّة الأزمات وتخطّي التّجارب بمواجهتها بشجاعة، وبالاتّكال على لطف الله ونعمه الفيّاضة والثّقة به. ما أجوجنا في ظلّ ههذ الأزمنة الرّدئية وانسداد الأفق إلى أن نخلع عنّا على مثال أبينا أنطونيوس رداء الخوف والإحباط، ونتسلّح على مثاله بالرّجاء الّذي يؤسّس مع المؤمن بزوغ مرحلة جديدة كما يعلّمنا تاريخ الخلاص.

لقد حان الوقت لكي نتبنّى سلوكيّات جديدة تساعدنا على عيش الصّدق وبلورة مشاريع شخصيّة بعيدة عن الفردانيّة، وتنمية مستدامة انطلاقًا من منظومة أخلاقيّة إنسانيّة. لقد آن الأوان لكي نبحث عن خطّة شاملة لبناء مجتمع أكثر سلامًا وازدهارًا، ولقيام لبنان الرّسالة الحقيقيّ حيث يتمّ تطبيق العدالة الاجتماعيّة وخلق بيئة نقيّة من أجل حياة أفضل في ضوء ما دعا إليه البابا فرنسيس في رسالته العامّة "كن مسبّحًا" Laudato si حول العناية ببيتنا المشترك.

نصلّي في تذكار أبينا أنطونيوس الكبير من أجل كلّ الموجوعين والمتألّمين والجائعين والقلقين على مصيرهم، سائلين المسيح المنتصر أن يقيمهم من ضيقاتهم. نصلّي أيضًا من أجل الّذين قضوا بالوباء المستجدّ وقد رحلوا عنّا، ومن أجل المصابين به سائلين لهم الشّفاء، ومن أجل الّذين يسهرون من أجل شفائهم، ومن أجل الّذين يعملون نهارًا وليلاً من أجل مكافحته كي يحوطهم القدير بعنايته وتدبيره. ونصلّي من أجل أن يبعد الرّبّ عنّا المجاعة التّربويّة لكي نتمكّن معًا من صياغة ميثاق تربويّ جديد لشبيبة أنطونيّة رسولة حضارة الحياة.

أيّها الأنطونيّات والأنطونيّون الأعزّاء، في ختام كلمتي، أودّ أن أقول: عيد مار أنطونيوس، وهو رمز الإنسان الصّامت والحياة المفعمة بالمحبّة، ليس مجرّد ذكرى ولكنّه دعوة لنا لكي نجاهد ونمشي إلى الأمام متخلّين عن رهانات زائلة، وعن ثوابت هَرِمة، وعن مواقف غريبة. كان تلاميذ يسوع يعيشون في الخوف، وربّما نحن أيضًا! يسوع المسيح الّذي هو ربّ الحياة يهمس في أذن كلّ إنسان: "لا تخافوا أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدّهر".  

عيد مبارك، كلّ عام وأنتم بخير!".